لما كان استكمال الانسان من جهة ما هو إنسان ذو عقل على ما سيتضح ذلك فى موضعه، هو فى أن يعلم الحق لأجل نفسه، والخيرلأجل العمل به واقتباسه، وكانت الفطرة الأولى والبديهة من الإنسان وحدهما قليلى المعونة على ذلك، وكان جل ما يحصل له من ذلك إنما يحصل بالاكتساب، وكان هذا الاكتساب هو اكتساب المجهول، وكان مكسب المجهول هو المعلوم، وجب أن يكون الإنسان يبتدئ أولا فيعلم أنه كيف يكون له اكتساب المجهول من المعلوم وكيف يكون حال المعلومات وانتطامها فى أنفسها، حتى تفيد العلم بالمجهول، أى حتى إذا ترتبت فى الذهن الترتب الواجب، فتقررت فيه صورة تلك المعلومات على الترتيب الواجب، انتقل الذهن منها إلى المجهول المطلوب فعلمه. وكما أن الشىء يعلم من وجهين: أحدهما أن يتصورفقط حتى إذا كان له اسم فنطق به، تمثل معناه فى الذهن، وإن لم يكن هناك صدق أوكذب، كما إذا قيل: إنسان، أو قيل: افعل كذا؛ فإنك إذا وقفت على معنى ما تخاطب به من ذلك، كنت تصورته. والثانى أن يكون مع التصور تصديق، فيكون إذا قيل لك مثلا إن كل بياض عرض، لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول فقط، بل صدقت أنه كذلك. فأما إذا شككت أنه كذلك أو ليس كذلك، فقد تصورت مايقال؛ فإنك لاتشك فيما لا تتصوره ولا تفهمه، ولكنك لم تصدق به بعد؛ وكل تصديق فيكون ع تصور، ولا ينعكس، والتصور فى منل هذا المعنى يفيدك أن يحدث فى الذهن صورة هذا التأليف، وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والتصديق هو أن يحصل فى الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها، والتكذيب يخالف ذلك. كذلك الشىء يجهل من وجهين: أحدهما من جهة التصور، والثانى من جهة التصديق فيكون كل واحد منها لايحصل معلوما إلابالكسب، ويكون كسب كل واحد منهما بمعلوم سابق متقدم، وبهيئة وصفة تكون لذلك المعلوم، لأجلها ينتقل الذهن من العلم بها إلى العلم بالمجهول. فهاهنا شىء من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصوره، وشىء من شأنه أن يفيد العلم بالمجهول تصديقه. ولم تجر العادة بأن يفرض للمعنى الجامع من حيث علمه يفيد علم تصور شىء اسم جامع، أو لم يبلغنا، لأن منه حدا، ومنه رسما، ومنه مثالا، ومنه علامة، ومنه اسما، على ما سيتضح لك، وليس لما يشترك فيه اسم عام جامع وأما الشىء الذى يترتب أولا معلوما، تم يعلم به غيره على سبيل التصديق، فإن ذلك الشىء يسمى كيف كان حجة، فمنه قياس، ومنه استقراء، ومنه تمثيل، ومنه أشياء أخرى. فغاية علم المنطق أن يفيد الذهن معرفة هذين الشيئين فقط،؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول الموقع لتصور، حتى يكون معرفا حقيقة ذات الشىء وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإن لم يتوصل به إلى حقيقة ذاته وكيف يكون فاسدا، مخيلا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل ذلك، ولم يكون كذلك، وما الفصول التى بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه كيف يكون القول الموقع لتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة لا يصح انتقاضه وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين، وكيف يكون بحيث يظن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك، بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميل نفس وقناعة من غيرتصديق جزم، وكيف يكون القول حتى يؤثرفى النفس ما يؤثره التصديق والتكذيب من إقدام وامتاع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع تصديقا، ل من حيث يخيل، فكثير من الحيالات يفعل فى هذا الباب فعل التصديق؛ فإنك إذا قلت لعسل إنه مرة مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع تكذيب لذلك ألبتة البتة ، كا تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه ، وما الفصول بينها ولم كانت كذلك وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يتوصل إلى معرفة الغرضين، وهذه الصناعة هى المنطق، وقد يتفق الإنسان أن ينبعث فى غريزته حد موقع للتصور، وحجة موقعة التصديق، إلا أن ذلك يكون شيئا غير صناعى، ولا يؤمن غلطه فى غيره، فإنه لو كانت الغريزة والقريحة فى ذلك ما يكفينا طلب الصناعة، كما فى كثير من الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض فى المذاهب ما عرض، ولكان الإنفسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته، بل الفطرة الإنسانية غير كافية فى ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية فى كثير من الأعمال الأخر، وإن كان يقع له فى بعضها إصابة كرمية من غير رام، وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لايغلط ألبتة البتة ؛ إذ الصناعة قد يذهب عنها ويقع العدول عن استعمالها فى كثير من الأحوال، لا أن الصناعة فى نفسها غيرضابطة، وغيرصادة عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور: أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثانى أن يكون قد استوفاها، لكنه فى بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة والثالث أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعالها، أو يذهب عنها. على أنه و إن كان كذلك، فإن صاحب العلم، إذا كان صاحب الصناعة واستعملها، لم يكن ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها، ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال صناعته مرارا كثيرة تمكن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح، إلا أن يكون متناهيا فى البلادة فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو فى مهمات صناعته التى تعينه المعاودة فيها، و إن وقع له سو فى نوافلها. والإنسان فى معتقداته أمور مهمة جدا، وأمور تليها فى الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له أن يجتهد فى تأكيد الأمر فى تلك المهمات بمراجعات عرض عمله على قانونه. والمراجعات الصناعية فقد يبلغ بها أمان من الغلط، كمن مع تفاصيل حساب واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة فى عقد الجملة. فهذه الصناعة لابد منها فى استكمال الإنسان الذى لم يؤيد بخاصية تكفيه الكسب، ونسبة هذه الصناعة إلى الروية الباطنة التى تسمى النطق الداخلى، كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التى تسمى النطق الخار جى، وكنسبة العروض إلى الشعر لكن العروض ليس ينفع كثيرا فى قرض الشعر، بل الذوق السليم يغنى عنه، والنحو العر بى قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه الصناعة فلا غنى عنها لانسان المكتسب لعلم بالنظر والروية، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله، فتكون نسبته إلى المروين نسبة البدوى الى المتعربين.
পৃষ্ঠা ২০