শায়ের ও ভাবনা
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
জনগুলি
وطبيعي أن لا يكون هذا اللقاء العابر هو سبب سخطه على الفيلسوف الكبير. فقد سبق أن أبدى إعجابه به، وتحمس لفلسفته إلى حد أن قال لهيجل في إحدى رسائله التي أرسلها إليه في شهر نوفمبر سنة 1794م إنه لا يعرف له نظيرا في عمقه وطاقته العقلية الفذة. بيد أن هذه العبارة كانت بنت اللحظة. فلم يلبث أن شعر بآفة التسلط الكامنة في هذه الفلسفة المجردة . ها هو ذا يعترف لهيجل في شهر يناير سنة 1795م بأنه اشتبه في جمود فشته وتزمته، وبدا له أن الفيلسوف يقف في مفترق الطرق. ولعل شبهة التزمت (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالنزعة الدجماطيقية) أن تكون من أصدق وأقسى ما يوجه إلى هذه الفلسفة المثالية المتطرفة التي تقوم في أساسها على أن «الأنا» هي التي تضع الواقع أو الوجود الخارجي. ومهما حاول فشته أن يدفع التهمة، فإن محاولته تستند إلى نفس الفرض الذي بنى عليه فلسفته.
مهما يكن من شيء، فإن الحوار الفكري الجاد لم يأت إلا بعد مرور فترة طويلة على لقائه بالفيلسوف في بيت صديقه، وذلك عندما كتب في أواخر سنة 1799م مقاله الذي لم يتمه عن الدين. حاول هلدرلين في هذا المقال أن يرد على فلسفة فشته في المطلق، ويناقش فكرته عن أن الذات هي التي تضع الوجود، أي إن الوجود لا قيمة له إلا من جهة تأكيده لوجود الذات. أما فكرته عن الذات الأخرى أو «الأنت» التي اعتبرها مجرد «وسيط لتأدية وتوضيح واجباته الأخلاقية»، فقد رد عليها هلدرلين بفكرة أخرى مطلقة، نابعة من تفكيره الإلهي العميق عن العلاقة الحميمة التي تجمع الأنا والأنت. ولا بد من باب الإنصاف أن نقول إن هذه الفكرة كانت جديدة كل الجدة في تاريخ الفلسفة، وإنها انتظرت أكثر من قرن ونصف قرن، حتى تناولها الوجوديون في الزمن الحديث - وبخاصة هيدجر وسارتر وياسبرز - فتعمقوها إلى أبعد حد في فكرتهم عن الوجود من أجل الآخرين.
لننظر في كلمات هلدرلين التي عبر بها عن فكرته الفلسفية تعبيرا يلائم حقيقة قلبه وحياته. فإذا أراد الإنسان في رأيه أن يتحدث عن الألوهية، وأن يكون حديثه من القلب لا من القراءة أو الذاكرة أو بحكم الصنعة، فلن يستطيع بالرجوع إلى نفسه وحدها أو الموضوعات الخارجية المحيطة به أن يتبين أن في هذا العالم روحا أو إلها، أو أنه يزيد عن كونه مجرد جهاز آلي ضخم، يتحرك حركة مستمرة، وإنما يمكنه أن يتبين هذا لو اتصل بما يحيط به ، ومن يعيشون معه اتصالا حيا مترفعا عن الحاجات الضرورية. من هنا يكون لكل إنسان إلهه الخاص، بقدر ما تكون له دائرته الخاصة التي يعمل فيها. وبقدر ما يشترك عدد من الناس في دائرة واحدة يعملون فيها، ويتعذبون بصورة إنسانية - أي بصورة تسمو على كل حاجة ضرورية - بقدر ما يشاركون في الألوهية. ويستطيع الإنسان أن يضع نفسه في موضع الآخر، كما يستطيع أن يجعل الدائرة التي يحيا فيها الغير دائرة خاصة به، أي إنه لن يعجزه أن يقر بطريقة الإحساس بالألوهية وتصورها على نحو ما تتأتى من العلاقات الخاصة التي تربطه بالعالم الذي يعيش فيه - بشرط ألا يكون هذا التصور وذلك الإحساس صادرين عن حياة متطرفة في العاطفة أو الغرور أو العبودية ... هكذا تبدأ تجربة الروح أو الإله على حدود الفرد. وحيث تتفتح هذه الحدود على القدر والكل والأنت تتم تجربة المطلق.
الواقع أن هذه الفكرة لا تختلف عن فكرة «فشته» إلا في الظلال الطفيفة التي تكسوها. فكلاهما يرى أن الإنسان لا يجرب واقعه إلا من خلال لقائه مع شريكه أو مع الآخر كما تقول الفلسفة المعاصرة. غير أن نقطة البداية التي ينطلقان منها تختلف عند الفيلسوف عنها عند الشاعر. فالفيلسوف يعنيه أن «يصنع» الإنسان نفسه عن طريق تحقيق مجال طاقته أو دائرته الخاصة، أي إنه لا يشعر بتحقيق طاقاته وإمكاناته إلا بالاصطدام بمجال آخر أو دائرة أخرى. إنه «يضع» نفسه - بالتعبير الشائع في المثالية الألمانية - عندما يقيم «الوضع المضاد» له.
أما الشاعر فينصب اهتمامه على اللقاء الذي يتم بين الأنا والأنت التي يضعها القدر في طريقه، بحيث يبرز «الثالث» أو المطلق الذي «يقوم بيني وبينك». وليس لنا أن نتوقع من الشاعر أن يتولى هذه الفكرة بالتحليل والتفصيل، فما خلق الشعراء لشيء من هذا. ولهذا نجده يقف فجأة عند هذا الحد، بينما يمضي «فشته» مع فكرته على ترتيب دقيق، حتى يصل بها إلى الغاية المرسومة لها في فلسفته وهي «الفعل».
على أن الشاعر لن يعدم فرصة يعبر فيها عن فكريته تعبيرا ملموسا، فهو يكتب في شهر نوفمبر سنة 1798م رسالة إلى شقيقه يقول فيها: «هكذا يجب علينا أن نقدم التضحية للألوهية التي تجمع بيني وبينك، فنحتفل باللطف والنقاء اللذين يتمثلان في حديثنا عنها إلى بعضنا البعض، كما نحتفل بالروح الأبدي الذي يربط بيننا.» وتعود هذه الصورة في رسالة متأخرة إلى صديقه «بولندروف» بعد أن تغيرت قليلا واكتسبت شيئا من العمق: «أنا في حاجة إلى أنغامك النقية، إن الروح التي تؤلف بين الأصدقاء، ونمو الفكرة في مجرى الحديث وعلى صفحات الرسائل المتبادلة بينهم أمور لا يستغني عنها الفنانون. ولو لم يكن الأمر كذلك ما بقيت لنا فكرة، وظلت ملكا للصورة المقدسة التي نكونها».
والفكرة الأصلية هنا واضحة متميزة، على الرغم من غموض العبارة وبخلها. فالشاعر يكرر رأيه الذي عرفناه، ويزيده قربا. إنه يؤكد أن تجربة المطلق أو الروح التي تجمع بين الأصدقاء ليست تجربة مجردة أو معلقة في الفراغ أو فوق السحاب، بل هي تجربة «بيني وبينك» يمكن استخلاصها من الأحاديث العادية التي تدور بين الناس كل يوم. أما الصورة المقدسة التي نكونها بأنفسنا، فهي تشير إلى بعد أسطوري عميق وجديد. فلعلها تريد أن تقول إننا نحن البشر نشارك في عمل المبدع الأعظم، ونسهم في جهود القوى الخلاقة، وفي «نسج صورة الزمان التي يرسمها الروح الأكبر»، على نحو ما تقول قصيدة «الاحتفال بالربيع» التي أشرنا إليها من قبل. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نقف من الخالق المدبر موقف الطاعة والخشوع، ونتأمل حكمته المتجلية في الطبيعة والروح. •••
هذه هي منزلة هلدرلين من المثالية الألمانية، وصلته بروادها الثلاثة الكبار، عرضتها بإيجاز شديد أرجو ألا يكون مخلا. وقد رأيت بغير شك أن هلدرلين يفكر تفكير شاعر يبتعد جهده عن التجريد، ويلتزم دائما بالواقع المجسد، ويرتبط بتيار التحول والصيرورة في الحياة على اختلاف صورها وألوانها. إنه يصغي على الدوام لدقات قلب الحياة، ويرصد عمليات التغير والنمو التي تتم في تيارها الدافق. وليس من طبيعة هذا الفكر أن يكون مذهبيا مغلقا أو نهائيا تاما في ذاته؛ لأنه في حالة نشوء مستمرة. ولا يهم صاحبه أن يشيد بناء من التصورات والأفكار يرتفع طبقة فوق طبقة، بقدر ما يهمه أن يكون في حركة متصلة، ويتغلغل فيما يحيط به من أسرار القدر والوجود، ويتتبع الخيوط التي يتألف منها نسيج الحياة. وهو لهذا كله فكر يعرف حدوده - وتلك هي أول خطوة على درب المتواضعين الخاشعين الذين أعطاهم الله موهبة الطاعة والانتظار، وأنعم عليهم بالقدرة على التعلم من الطبيعة والإنصات لصوت الوجود - إنه يقف من هذه الطبيعة الإلهية موقف العبد الخاشع والتلميذ المطيع، ويحاول أن يتعلم منها، ويغري الناس بأن يحبوها ويتعلموا منها كما يقول في قصيدته عن بلاد اليونان:
لأن الطبيعة مفتوحة من قديم الزمان؛
ليتعلموا منها كالأوراق والخطوط والزوايا.
অজানা পৃষ্ঠা