শায়ের ও ভাবনা
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
জনগুলি
فمن المؤكد أن القارئ المسلم يعرف سلفا الخطوط الأساسية التي تقوم عليها الأحداث. ولهذا فإن التوتر لا ينصرف إلى ما يحدث بقدر ما ينصرف إلى كيفية حدوثه. وهذه منظومة فنية تدفع القارئ إلى ألوان من التدبر والتفكير.
ما الذي يريد له المؤلف أن يتأمله ويفكر فيه؟ إن العثور على إجابة هذا السؤال تفرض علينا تناول ذلك الجزء من الرواية الذي يعقب عصر الأنبياء، وهو الجزء الذي لا يعتمد فيه المؤلف على أصول مستمدة من التاريخ الموروث.
هنا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة رجل يحتل مركز الأحداث، وهو الساحر عرفة. ولما كان مجهول الأب، فإنه لا ينتمي إلى أية جماعة من الجماعات أو الأحياء الثلاثة التي تنقسم إليها الحارة وهي: الجبلية (لليهود)، والرفاعية (للمسيحيين)، والقاسمية (للمسلمين)، بيد أنه يختار أن يقيم مع الرفاعية. ولا شك في أنه يمثل العلم الذي لا ينتسب لدين أو وطن، وإن يكن قد ازدهر في بلاد الغرب المسيحي. ويستأنف عرفة الصراع الذي بدأه جبل ورفاعة وقاسم مع الفتوات لكي يوفر لأولاد الحارة حياة بشرية لائقة. إنه يريد أن يحقق الشروط العشرة التي تنص عليها وصية وقف الجبلاوي (الوصايا العشر)، وإن لم يكن في الواقع من رجال الجبلاوي (ص471)، بل يتشكك في وجوده على قيد الحياة. وعندما ييأس من بلوغ هدفه، يتسلل إلى بيت الجبلاوي الكبير لكي يكتشف سر وصية الوقف. ويتورط عن غير قصد في قتل الخادم العجوز الذي يحرس الوصية، ويلوذ بالفرار مذعورا. ثم يتبين بعد ذلك أن الواقف المسن كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنه مات متأثرا بالصدمة. ويطارد الفتوات عرفة، فيتمكن من إنقاذ نفسه بإلقاء الزجاجة السحرية التي اخترعها على مطارديه، وهي سلاح متفجر يفوق كل ما عداه من أسلحة. غير أن الناظر يسخره لخدمته. ويتخلص الناظر من الفتوات بفضل الزجاجة السحرية، ولكنه يفعل هذا لصالحه لا لصالح الحارة، وهكذا يصبح عرفة فتوته الجديد. وفي النهاية يتمكن عرفة من الهروب، ولكن أتباع الناظر يلقون القبض عليه ويقتلونه قتلة فظيعة.
ويتجه أولاد الحارة في البداية إلى إدانة عرفة، فيتهمونه بأنه هو الذي قتل الجبلاوي، وأن سلاحه العجيب هو الذي جعل من الناظر طاغية لا يقهر، ولكن بعد موت عرفة يشيع الأمل في الصدور، فقد تمكن شقيقه حنش من النجاة بنفسه، ولعله أيضا أن يكون قد تمكن من إنقاذ كراسة عرفة السحرية. وكلما اشتدت حملة الناظر على عرفة، وقوي اتهامه له بقتل الجبلاوي مضى الناس يقولون: لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر (ص551). وأخذ بعض شبان الحارة يختفون تباعا لكي يتعلموا السحر على يدي حنش استعدادا ليوم الخلاص الموعود.
الجبلاوي إله، وهو إله يظل جبروته وامتناعه عن الناس وعدم اكتراثه بمواجهة الإدارة الظالمة لميراثه أمرا غامضا محيرا، «إنه لا يسمح باجتماع القوة والضعف في نفس إلا نفسه هو». حقا أن نجيب محفوظ يضع هذه العبارة على لسان إدريس-إبليس (ص56 وما بعدها)، ولكن الابن الساقط للجبلاوي لا يقوم هنا بدور الشرير المطلق الذي تنطوي أقواله بالضرورة على نفسها، إنه إنسان كسائر الناس، وينبغي أن تفهم أقواله من وجهة نظر إنسانية. أضف إلى هذا أن جبل- موسى (ص135، 171). ورفاعة-يسوع (ص230-234)، وقاسم-محمد (ص410) تنتابهم لحظات شك في الجبلاوي. وليس عجيبا بعد هذا أن نجد عرفة الساحر العالم يطلق العنان لشكوكه «لكن ماذا أفدت من الحكايات يا حارتنا؟» (ص460).
وعلى الرغم من هذا كله يقتحم عرفة بيت الجبلاوي، فلا تعقب هذه الخطوة إلا أسوأ النتائج: مقتل الخادم - الذي لم يقصد إليه عرفة - موت الجبلاوي، تسخير عرفة في خدمة الناظر، وانتصار هذا الناظر انتصارا مطلقا. ماذا يريد نجيب محفوظ من هذا كله؟ هل أخفق عرفة لأنه لم يتحرر من إيمانه بالجبلاوي؟ أم أخفق لأنه أراد أن ينفذ إلى ميدان الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) الذي ليس للعالم أن يبحث فيه عن شيء؟ أم يرجع إخفاقه في النهاية إلى تجرؤه على المساس بأقدس المقدسات؟ وعندما يصل عرفة في خدمته للناظر إلى الدرك الأسفل، تظهر امرأة تحمل إليه الرسالة الوحيدة التي وجهها الجبلاوي إليه: «اذهبي إلى عرفة الساحر، وأبلغيه عني أن جده مات وهو راض عنه.» (ص538) وتبقى حقيقة هذه الرسالة غامضة، ولا نستطيع أن نقطع بأنها لم تكن إلا حلما من أحلام السطل، ولكنها على كل حال هي التي تشجع عرفة على اتخاذ قراره بالهرب من خدمة الناظر كما تمهد بذلك للتحول النهائي الذي تسوده روح التفاؤل. لقد وثق من رضاء جده عنه، واطمأن إلى أنه لم يغضب لاقتحامه بيته وقتل خادمه، ولكنه يفهم كذلك أن رضاه ينطوي على سخطه من عمله في خدمة الناظر (ص542). وقد يجوز لنا الآن أن نفك هذه الرموز، مات الإله، ولكن العالم - وهو صاحب الحق في المستقبل - يعترف بالقيم والمعايير الأخلاقية التي وضعها الإله، ومن هذا الاعتراف يأتي الاتجاه إلى الخير.
لا يتخلى نجيب محفوظ عن البعد الميتافيزيقي الذي يضفيه على موضوعه، ولكنه في نفس الوقت لا يقتصر عليه وحده. إن نقل التاريخ المقدس - تاريخ النجاة والخلاص على يد الرسل والأنبياء - إلى مستوى الحارة هو الذي يهيئ الشروط الملائمة «لعلمنته»، وإضفاء النزعة الدنيوية عليه، وتصغير مقاييسه. فأدهم-آدم بعد طرده من بيت أبيه يسعى في سبيل رزقه في شوارع المدينة، وهو يدفع عربة يبيع ما عليها من الخضر (ص54 وما بعدها). وجبل-موسى لا يعثر عليه طافيا على ماء النيل، بل يرى طفلا عاريا يستحم في حفرة مملوءة بمياه الأمطار (ص131). والفتوات الذين يضطهدون آله ويطاردونهم لا يموتون في البحر غرقا، بل في فخ حفر لهم في دهليز (ص196). ورفاعة-يسوع لا يتعلم من كتبة المعبد، بل من شاعر ضرير يروي الحكايات وزوجته «كودية الزار» (ص228 وما بعدها) وبدلا من أن يؤسس قاسم-محمد أمة نجده ينشئ ناديا للرياضة البدنية (ص366). هذا التصغير للجليل السامي يؤثر في معظم الأحيان تأثير الصدمة، ولكنه يقرب إلى القارئ أحداث تاريخ النجاة. وليس من المستطاع أن تعرض الأعمال التي أنجزها الأنبياء وشجاعتهم الشخصية، واستعدادهم للتضحية بالحياة المريحة في سبيل رسالتهم أمام جمهور القراء في أيامنا بمثل هذا النجاح، الذي وفق إليه نجيب محفوظ في روايته. والأهم من هذا كله أن المؤلف يوضح على هذه الصورة رأيه الذي يقتنع به، لا يمكن أن يقتصر تاريخ النجاة على خلاص الروح الفردية، ولا بد له كذلك من أن يهدف إلى سعادة البشر في هذه الدنيا، أي إلى تحقيق نظام اجتماعي مرض. إن كل طموح أولاد حارتنا يدور حول بيت الجبلاوي الكبير وحول الوقف. أيعبر هذا عن نزعة مادية كريهة؟ يبدو في بعض الأحيان - وبخاصة في تقرير رفاعة-يسوع - أن هذا السؤال وارد، ولكن نجيب محفوظ يختار ألا يضع حدا يفصل ببساطة بين طيبات الدنيا وطيبات الآخرة. فالبيت الكبير يرمز للجنة، والاطلاع على حجة الوقف يعبر عن الأكل من شجرة المعرفة. ورسالة الجبلاوي إلى قاسم-محمد، خاتم الأنبياء، تصل إلى ذروتها في إبلاغه بأن تصير الحارة امتدادا للبيت الكبير (ص353)، أو قل في جعل الأرض امتدادا للجنة.
وإذا كان نجيب محفوظ قد قرر في مواضع أخرى من أحاديثه وكتاباته أنه اختار الوقوف في صف الاشتراكية - وإن لم يخل موقفه منها من النقد والتحفظ
7 - فإنه في هذه الرواية لا يتعرض لشكل النظام الاجتماعي الذي يمكنه أن يحيل الأرض إلى جنة. ومن الواضح أنه لا يريد أن يضع تخطيطا محددا أو يروج لعقيدة جامدة، فحسبه أن يعبر ببساطة عن شوق أبدي في نفس الإنسان. فأدهم لا تطيب له سعادة أكبر من أن ينفخ في الناي في حديقة أبيه الغناء (ص18 وما بعدها، ص30 وما بعدها ) والناس بعد طردهم من الجنة يتشبثون بهذا الحلم بحياة صافية لاهية بلا عمل (ص72، 111، 168، 170، 202، 249، 344، 368، 442، 531) بلا عمل؛ لأن العمل من أجل القوت لعنة اللعنات (ص61 وما بعدها). هذا على كل حال هو شعور الرجال، أما النساء فيبدو أن من الأسهل عليهن أن يجدن معنى في العمل (أميمة-حواء ص63، شفيقة-صورة ص169)، والحياة التي تنعم بها عواطف، زوجة عرفة، بلا عمل أشبه بتلك التي تحسر عليها أدهم، حياة ثقيلة وعذاب متصل، سجن مليء بالمخاوف يطوقه السقوط والزلل. (ص525) وعرفه نفسه يصف حلم أدهم بحياة يفرغ فيها للسعادة والغناء بأنه حلم جميل، ولكنه مضحك، ويرى أن الأجمل حقا أن نستغني عن العمل لنصنع الأعاجيب (ص463)، وهو يوضح رأيه حين يقول إن الحياة الجديدة ستأتي إذا تحققت العدالة، إذا نفذت شروط الواقف، إذا استغنى أكثرنا عن الكد، وتوفروا على السحر (ص484).
ما هي هذه «العجائب»، وما هو هذا «السحر» الذي تتوقف عليه الحياة الجديدة؟ لا بد أن يكون شيئا يزيد عن العلم الطبيعي الخالص الذي ينتج الأقراص المنشطة والأسلحة العجيبة. يقول عرفة: «حجرتي الخلفية (= المعمل) علمتني ألا أؤمن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي.» (ص487)، فالأمر إذا يتعلق في المقام الأول بالمعرفة العقلية والعينية للأشياء والمشكلات.
অজানা পৃষ্ঠা