فإذا فكرت في أن أبا بكر كان أحب الناس إلى رسول الله، وكان رسول الله أحب الناس إليه؛ عرفت وقع هذه المحنة في نفس أبي بكر. ولكنك تعلم كيف خرج أبو بكر من هذه المحنة دون أن تضطرب لها نفسه، ودون أن يجد الضعف أو الريب إلى نفسه سبيلا، وتعرف كذلك كيف استطاع أن يرد الصادقين من المؤمنين إلى أنفسهم أو يرد أنفسهم إليهم، حين تلا عليهم هاتين الآيتين الكريمتين، وهما قول الله - عز وجل - في سورة آل عمران:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
وقوله في سورة الزمر:
إنك ميت وإنهم ميتون .
لم يجزع إذن أبو بكر ولم يرتب لوفاة النبي، بل ذاد الجزع والريب عن نفوس المؤمنين الصادقين حين ذكرهم بما أنبأ الله في القرآن من أن النبي معرض للموت وللقتل، ومن أنه ميت كما يموت غيره من الناس.
وليس إذن بد من البحث عن مصدر ما أتيح لأبي بكر من الثبات للمحن والصبر عليها، والنفوذ آخر الأمر من مشكلاتها.
3
وليس لهذا كله إلا مصدر واحد هو الذي يدل عليه لقبه: «الصديق»؛ ذلك أن أبا بكر كان رجلا من قريش، ثم رجلا من العرب، ثم إنسانا يفرح لما يفرح القرشي له ويفرق مما يفرق القرشي منه، وتتأثر نفسه بما تتأثر به النفس العربية، وتخضع طبيعته لما تخضع له الطبيعة الإنسانية من كل ما يعرض للناس من الرضى والغضب، ومن السرور والحزن، ومن اللذة والألم، ومن القوة والضعف. ثم كان أبو بكر يمتاز برقة القلب وسماحة النفس والرحمة الشديدة لكل من يصيبه ما يكره.
فكيف استطاعت طبيعته هذه أن تثبت لهذه المحن الشداد، وأن تنفذ منها في غير مشقة ولا تكلف، وهو الذي أشفقت ابنته عائشة - رحمها الله - ألا يسمع الناس صوته حين تقدم النبي يأمره أن يصلي بالناس لما ثقل عليه الوجع، فقالت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء.
ثم كيف استطاع أن يبلغ من النبي
অজানা পৃষ্ঠা