11
على أن الحضارة الحديثة أتاحت لبعض الأمم أن تجعل الدولة للأطفال فيها رزقا منذ يولدون، وذلك حين يقل عدد المواليد وتتعرض الأمة للنقصان والضعف عن الدفاع إذا دهمتها الخطوب؛ فالدولة لا ترزق الأطفال لأن رزقهم واجب، وإنما ترزقهم وتشجع الناس على الإكثار من الولد؛ لأنها محتاجة إلى الشباب الذين ينهضون بالخدمة العامة في فروع الحياة على اختلافها، ويدافعون عن الوطن حين يتعرض للخطر، ولا كذلك ما فعل عمر رحمه الله، إنما فرض العطاء للأطفال؛ لأنه كان يرى ذلك حقا لهم.
ظن أول الأمر أن حقهم يبدأ منذ يفطمون، فلما رأى أن بعض الناس يعجلون فطام أطفالهم آذاه ذلك أشد الإيذاء، وأفزعه أعظم الفزع؛ ففرض للأطفال عطاءهم منذ يولدون كما قدمنا آنفا.
ونظام اللقطاء عند عمر طريف أيضا، وما أعرف أن الدول الحديثة تعنى بهم على نحو ما كان يعنى بهم عمر رحمه الله، وإنما تقوم بأمرهم جماعات منظمة، بعضها دينية، وبعضها حرة تعينها الدولة، ولم تعرف الدول الحديثة المتحضرة أن لهؤلاء اللقطاء حقا معلوما من خزانة الدولة، ينفق عليهم بعضه ويدخر لهم بعضه الآخر حتى إذا رشدوا وجدوا أمامهم شيئا يتكئون عليه، كما كان عمر يقول ذلك إلى ما كان يفرض لهم من العطاء حين يرشدون.
ولذلك ابتكر عمر لونا من النظام الاجتماعي قوامه تأمين الناس على حياتهم من بيت المال، وكان عمر يؤمن إيمانا قويا لأنه لا يعطي الناس هذه الأعطيات تبرعا منه لهم أو تفضلا منه عليهم، وإنما كان يرى أن لهم حقا من كل ما يجبى إلى بيت المال، سواء أقل هذا الحق أم كثر، وكان يقول: والذي نفسي بيده ما من واحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حقه، أعطيه أو منعه. وكان يقول كذلك: والله لئن عشت ليأتين الراعي حقه من هذا المال قبل أن يحمر وجهه في طلبه. يريد أنه كان حريصا على أن يصل العطاء إلى أصحابه، من قرب منهم ومن بعد، دون أن يسعوا إليه ليطلبوه، فضلا عن أن يتكلفوا الجهد في هذا السعي.
ومن الناس من ظن أن عمر حين أنزل الناس منازلهم من العطاء، فأكثر عطاء بعضهم وأقل عطاء بعضهم الآخر، وجعل حقهم في بيت المال درجات بعضها فوق بعض؛ أنه كان يؤثر نظام الطبقات. وهذا خطأ كل الخطأ، فلم يكن عمر يؤثر نظام الطبقات، ولا يفضل بعض الناس على بعض، ولو قد فعل لخالف عن نظام الإسلام خلافا شنيعا، وقد كان عمر آخر من يجرؤ على المخالفة عن أمر الله الذي جعل الناس سواء لا يتفاضلون إلا بالتقوى، والذي كان ينتصف من الغني للفقير، ومن القوي للضعيف، ومن أقل الناس خطرا من العمال والأمراء؛ ليس هو الذي يقال فيه إنه كان يؤثر نظام الطبقات، ولكن ما كان يرد إلى بيت المال من الخراج والجزية والأخماس كان أقل من أن يسع المسلمين كلهم على سواء؛ فكان يفضل بعضهم على بعض بالقدم في الإسلام وبالسابقة وحسن البلاء، وكان يفضل قرابة النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان يؤمن إيمانا عميقا بأن العرب إنما شرفت بالنبي، وبأن أقاربه الأدنين أحق بالفضيلة من غيرهم، وكان يقدم الذين آسوا رسول الله بأنفسهم شاركوه فيما لقي من الشدة والجهد والضيق، وقاتلوا أعداءه وأعداء الإسلام، على الذين كادوا للنبي وقاتلوه ولم يستجيبوا للإسلام إلا كارهين، حين لم يكن لهم من الاستجابة بد، وكان مع ذلك يقول: لئن كثر المال لأزيدن الناس في العطاء. وكان يقول أيضا: لئن كثر المال لألحقن آخر الناس بأولهم. وكان يريد أن يجعل لكل مسلم أربعة آلاف درهم؛ ألفا لفرسه وبغله، وألفا لسلاحه، وألفا لأهله، وألفا لنفقته. ولكن الموت أعجله عن ذلك، وكان يقول: لئن زاد المال لأعدنه لهم عدا، فإن أعياني لأكيلنه لهم كيلا، فإن أعياني لأحسونه لهم بغير حساب.
وما كان لعمر أن يسوي في العطاء بين من قاتل على الإسلام ناشرا له ومدافعا عنه، ومن أقام هادئا في عافية لا يقاتل ولا يتعرض لخطر. وما كان له أن يسوي بين من عاشر النبي وأبلى معه في سبيل الله وبين من لم يلق النبي وإنما أسلم بأخرة أو أسلم بعد وفاة النبي، وما كان له كذلك أن يسوي بين الذين أقاموا على إسلامهم لم يخالفوا عنه ولم يخرجوا منه وبين الذين أسلموا ثم كفروا ثم عادوا إلى الإسلام بقوة السيف والسنان.
كل ذلك لم يكن عمر يستطيعه، والمال أقل من أن يسع الناس جميعا على السواء، وما أراه كان يفعله لو كثر المال، وإنما كان يريد أن يجعل الناس سواء دون أن ينزل بأصحاب السابقة والبلاء عن منازلهم. كان يرى تمييز هؤلاء حقا عليه؛ لأنهم أتقى الناس وأئمتهم ومعلموهم؛ عنهم يؤخذ الدين، وبسيرتهم يقتدي عامة الناس. وحياة هؤلاء الأئمة من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
অজানা পৃষ্ঠা