فرجع عمر إلى الأنصار برد أبي بكر عليه، فلم يزيدوا على أن سمعوا وأطاعوا، وآن لأسامة أن يفصل بجيشه، فخرج أبو بكر مشيعا له يمشي وأسامة راكب، ولما أراده أسامة على أن يركب أو يأذن له في النزول أبى عليه أبو بكر ما أراد، ثم أوصاه أن ينفذ أمر رسول الله لا ينقص منه شيئا، ونهاه ونهى من معه من الجند عن قتل النساء والأطفال والشيوخ، والذين فرغوا أنفسهم لعبادة الله من القسس والرهبان، وعن الفساد في الأرض.
واستأذن أسامة في أن يستبقي عمر معه في المدينة يستعين به على أمره، فأذن أسامة ورجع أبو بكر إلى المدينة يدبر أمره وأمر المسلمين إن أغار الأعراب عليهم، فأمر الرجال أن يظلوا مجتمعين في المسجد مستعدين للفزع إن طرأ عليهم طارئ، وحذرهم من الغارة عليهم في أي لحظة، ومن أن يؤخذوا على غرة، ثم جعل على منافذ المدينة إلى البادية رجالا من أصحاب رسول الله فيهم علي رحمه الله، وهذا مما يدل على أن عليا لم يكن متخلفا عن البيعة ولا مفارقا لجماعة المسلمين، وكلف هؤلاء الرجال أن يكونو كالربيئة
8
يحرسون المدينة وينبئون أبا بكر بمن يمكن أن يطرأ عليهم من الأعراب.
وكان الأعراب من غطفان ومن تابعها قد علموا بمضي أسامة وجنده إلى مشارف الشام، وطمعوا في أن يغيروا على المدينة دون أن يلقوا كيدا، فأقبلوا ذات ليلة يريدون أن يبيتوا المسلمين، وأحس رقباء أبي بكر مقدمهم، فأرسلوا من أنبأه، فخرج أبو بكر فيمن معه من المسلمين حتى لقوا العدو، فهزموهم وتبعوهم يريدون أن يمعنوا فيهم، ولكن الأعراب كانوا قد جعلوا وراءهم ردءا، فلما بلغ المسلمون قريبا من الردء، خرجوا إليهم ولم يقاتلوهم وإنما أخافوا إبلهم بالأنحاء
9
يدفعونها بأرجلهم، فنفرت الإبل بالمسلمين ولم تقر إلا في المدينة.
على أن أبا بكر لم يلبث أن خرج إليهم مرة أخرى، ومعه المسلمون يمشون، حتى أغار عليهم فهزمهم هزيمة منكرة، وتفرق العدو في الأرض هربا من الموت والإسار، واحتل أبو بكر بلادهم فحماها لخيل المسلمين، ثم لإبل الصدقة بعد ذلك.
وكان لهذا الانتصار أثر عظيم في نفوس المسلمين؛ فأحسوا القوة وأمنوا الغارة على المدينة، وأقاموا ينتظرون جيش أسامة، وقد عاد هذا الجيش سالما غانما بعد أن أغار على قبائل العرب في أطراف الشام.
عاد هذا الجيش بعد شهرين وبعض شهر، فأمرهم أبو بكر أن يستريحوا، وظل هو قائما بأمر الدفاع عن المدينة حتى جم الناس. على أن انتصار أبي بكر أغرى القبائل المرتدة البعيدة عن المدينة بمن بقي فيها من المسلمين، فجعلت كل قبيلة تقتل من كان عندها منهم، وأثار ذلك أبا بكر وأحفظه، فأزمع أن ينكل بالمرتدين تنكيلا يرهبهم ويمنعهم من أن يعودوا إلى مثل ما اقترفوا من الإثم، وأقسم أبو بكر ليثأرن للمسلمين وليبلغن في الثأر.
অজানা পৃষ্ঠা