كيف كان هذا الازدواج؟ كيف جمع شوقي في نفسه بين هذين الشاعرين؛ شاعر الحياة العربية بحضارتها الإسلامية وبما فيها من قدم وإيمان، وبين شاعر الحياة الغربية الخاضعة لحكم العلم وما يكشف عنه كل يوم من جديد؟
مسألة تبدو للنظرة الأولى دقيقة معقدة؛ فقد تزدوج في نفس واحدة حياتان بينهما من الصلة ما يبيح الازدواج، فيكون الرجل الواحد فيلسوفا وشاعرا، كما كان المعري أو كما كان فولتير، فأما أن يكون الرجل شاعرا، وحدة حياته الشعر، ثم تكون نفسه مقسمة مع هذه الوحدة قسمة ازدواج على نحو شوقي، فذلك عجب في شاعر مطبوع يفيض عنه الشعر كما يفيض الماء من النبع، وكما ينهمل المطر من الغمام.
على أن لهذا الازدواج سببا لم يكن مفر من أن يؤدي إليه؛ ذلك أن شوقي كان في طبع شبابه رسول الحياة، كان شاعر:
حف كأسها الحبب
فهي فضة ذهب
لكن هذا الشباب لم يكن في ملك نفسه؛ فقد بعث به المغفور له الخديو توفيق باشا ليتم علومه في أوروبا، وكان من قبل ذلك شاعرا متفوقا، وكان في تفوقه ككل شاعر شاب يرسل القول كما تلهمه إياه نفسه. فلما عاد إلى مصر اتصل بالأمير الشاب عباس حلمي باشا، وصار كلمته، ورأى يومئذ صنوا له على العرش جعلته روحه الشابة مقداما لا يهاب. ومع ما فوجئ به أول ولايته في حادث عرض الجيش في السودان - مما اضطره للاعتذار - قد بقي شبابه يدفعه إلى ما كان يندفع إليه جده إسماعيل من مغامرة، لكن قيام الاحتلال الإنجليزي في مصر جعل الخصومة بينه وبينهم وليست بينه وبين الأتراك، بل لقد كان منظورا إليه أكثر الأحيان بشيء غير قليل من العطف في بلاد آل عثمان؛ لذلك كانت عواطفه متفقة وعواطف المسلمين الذين كانوا بعد انتصار الأتراك يرون في الخليفة الموئل الأخير لأمم الإسلام جميعا.
اتصل الشاعر الشاب بالأمير الشاب؛ فحتم عليه ذلك أن يكون المعبر عن الميول والآمال الكمينة في نفوس المسلمين جميعا، لا في نفوس المصريين وحدهم؛ وبذلك اجتمع في نفسه من أول حياته ميله للحياة وحبه إياها، وحرصه على المتاع بها، مع إيمان المسلمين جميعا وحرصهم على وحدتهم وعلى كيانهم، بإزاء الأمم الغربية التي كانت تنظر إليهم بعين صليبية بحتة ، وكانت هذه الناحية التي تمثلها نفسه من ظروف الحياة ومن البيئة المحيطة به أكثر استيحاء لشعره من الناحية الأولى التي هي طبيعة نفسه؛ فكان بذلك كالرجل القوي الذي يرى وطنه في خطر، ويصبح جنديا، وجنديا باسلا، ويتفوق في كل مواقف الحرب، ويصبح القائد الأعظم، ولو أن وطنه لم يكن في خطر لرأيته صديق النعمة، السعيد بها غاية السعادة. (3) وهذا الجزء الأول من ديوان شوقي فيه طائفة من شعره أوحي إليه بها على أنه ممثل المصريين والعرب والمسلمين، وأولى قصائده التي مطلعها:
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء
هي رواية من الروايات الخالدة لتاريخ مصر منذ الفراعنة إلى عهد أبناء محمد علي، وقف فيها الشاعر وقفة مصري صادق العاطفة تفيض عليه ربة الشعر تاريخ بلاده منذ عرفها التاريخ؛ أي منذ عرف الناس شيئا اسمه التاريخ. وأنت تراه في عرضه هذا التاريخ ممتلئ النفس فخرا بمجد مصر حين يرتفع بها المجد إلى عليا ذراه، آسفا حزينا حين تمر بمصر فترات ظلم وذلة، مستفزا للهمم حافزا لعزائم أهل جيله والأجيال التي بعده كي يعيدوا مجد الماضي وعظمته.
অজানা পৃষ্ঠা