فأجابه بسطام وهو لا يقوى على كظم ما في نفسه: «لا يمكنني ذلك، وإذا كان لا بد لك من مقاسمتي في هذه الغنيمة فإنهما امرأتان خذ تلك وأنا آخذ هذه.» قال ذلك وأشار بإصبعه أولا إلى العجوز، ثم إلى الفتاة.
وكانت الفتاة تقف بالقرب من رفيقتها، وكلاهما صامتتان تترقبان نتيجة ذلك الجدال، ومن الغريب أنه لم يبد في وجه تلك الفتاة شيء من أمارات الخوف كأنها قد وثقت بفوز حبيبها، ولكنها كانت إذا وقع بصره عليها ابتسمت، وفي ابتسامتها إطراء وتشجيع، فإذا حولت بصرها نحو بسطام قرأ هانئ في شفتيها كل ملامح الاستخفاف والبغض، وقد أدرك هانئ ذلك منها رغم ما تقاطر من جيوش الظلام، فلما سمع بسطاما يعرض القسمة على هذه الصورة عظم استخفافه به، فأجابه بصوت هادئ ولكن ملؤه التهديد قائلا: «لا أحب القسمة، وإنما هذه الفتاة لي، فارجع إلى معسكرك وخذ نصيبك مما بعناه من الغنائم والأسرى والسبايا.»
فازداد بسطام هياجا ووقف على الركاب بغتة حتى أجفل جواده وصاح قائلا: «لا يمكن لأحد أن يأخذ غنيمتي مني، ولو كان الأمير عبد الرحمن نفسه أما كفاكم معشر العرب ما تسوموننا من الخسف فتستأثرون بكل شيء دوننا كأن غير العرب ليسوا مسلمين، وأنت تعلم أني أستطيع أن أعرقل مسعاكم وأرجعكم على أعقابكم فلا تفتحون بلدا ولا تكسبون غنيمة.»
فلما سمع هانئ ذلك التهديد كبر عليه أمره، ولكنه تصور ما يترتب على مجافاته من الضرر، وهو يعلم أن بسطاما لا يهمه الإسلام ولا المسلمين، فإذا غضب وغضبت قبيلته ضعف الجند وهذا لا يرضاه هانئ ولا عبد الرحمن، على أن حدة الشباب غلبت عليه وهو بين يدي حبيبته فلم يتمالك أن هم بسيفه فاستله وهجم على بسطام لا يبالي أي عضو يصيب منه، فإذا بالمرأة تتقدم بثوبها الأسود ثم تمسك بعنان فرسه وتخاطبه بالعربية قائلة: «لا تقتتلا فما نحن غنيمة لأحد وكفى خصاما.»
قالت ذلك بلسان أهل اليمن مع شيء من العجمة، فبغت الأميران وتعجبا لما سمعاه بالعربية.
أما بسطام فإنه ظل مصمما على طلبه، وخصوصا بعد أن سمع تهديد هانئ له بين يدي تلك الفتاة وهي تفهم العربية فقال لها: «بل أنتما غنيمتي وإذا شئت الانحياز إلى هذا الأمير فلا بأس، وأما هذه الفتاة فإنها لي.» قال ذلك وانحنى عن سرجه ومد يده إلى الفتاة وهم أن يمسكها فتباعدت وهي تنظر إليه شزرا ولم تضطرب، فتبعها بفرسه ولما رأى هانئ تلك الجرأة لم يستطع أن يكتم غضبه، وقد سره تباعد الفتاة؛ لأن في تباعدها تصريحا بتفضيلها إياه ونفورها من بسطام، فأحس أن تعقله وكظمه لا ينفعان مع هذا البربري شيئا، فهمز جواده والسيف لا يزال مسلولا في يده، فوثب الجواد وصهل كأنه يشارك فارسه بعواطفه، وتباعدت المرأة وقلبها يختلج، وما كادت تفعل حتى سمعوا وقع حوافر جواد يعدو نحوهم من جهة المعسكر وصوتا ينادي: «هانئ، هانئ، أغمد سيفك!» فالتفتوا فإذا بالفارس قد أقبل حتى دنا منهم، وقبل أن يروا وجهه عرفوا من فرسه ولباسه أنه الأمير عبد الرحمن، فاستغربوا مجيئه في تلك الساعة على حين غفلة وبغتوا، ولم يفه واحد منهم بكلمة، ولم يستطع هانئ سوى إغماد سيفه.
الفصل السادس
مريم
وكان عبد الرحمن ربع القامة، جليل الطلعة، صبوح الوجه، عريض اللحية والجبهة، قد خالط شعره بياض، وكان واسع العينين مع حدة وذكاء بغير جحوظ، أقنى الأنف وقد تزمل بعباءة سوداء وعلى رأسه عمامة بيضاء كبيرة، فلما وصل، ساد الصمت على الجميع، فالتفت إلى هانئ وقال: «أراكم تختصمون وتتشاجرون، وكان قلبي قد دلني على ذلك منذ أن سمعت بسطاما يخاطب رسوله في خيمتي، فخشيت النزاع بين أمراء هذا الجند ونحن في أشد الحاجة إلى الاتحاد، وقد لاحظت خروج بسطام فلما أبطأ في العودة أسرعت إليكم، فأحمد الله على ذلك.»
فأعجب الجميع بسهر هذا الأمير على مصلحة جنده وسعيه في جمع كلمته، وأحس هانئ بتوبيخ ضميره؛ لأنه تعاهد هو وعبد الرحمن على الاتحاد والتعاون كما تقدم، فقال: «لم أكن لأخاصم مسلما على شيء وإن عز، ولكن بسطاما يعترضني في سبية اخترتها من بين مئات بعناهن الآن بيع السلع، فلو أننا بعناها لبعض أولئك اليهود فما الذي كان يفعله؟»
অজানা পৃষ্ঠা