ثم عاد هانئ إلى أواسط الصف ونادى التجار، وقال: «كيف تقسمون هذه السبايا؟»
فتقدم هارون وقال: «لا يمكن الاقتسام في هذه الحال؛ لأن ثمن الفتاة أو المرأة يختلف باختلاف درجة جمالها وعقلها وما تجيده من الأعمال، كالخياطة أو الطبخ أو الرقص أو الغناء، كما يتوقف على صحتها ودرجة احتمالها وما إلى ذلك فالأحسن إذا شاء مولاي أن ينتقي كل منا ما شاء من هؤلاء على شرط أن من يختار أولا يدفع الثمن غاليا، ثم يقل الثمن في الاختيار للثاني، فالثالث.»
فاستحسن هانئ هذه الطريقة، فقال: «إن الذي يتقدم أولا لاختيار من يريد من هؤلاء تحسب عليه المرأة بخمسة دنانير والغلام بدينار، والذي يتقدم ثانية فإنه يدفع نصف هذه القيمة.» قال ذلك والتفت إلى الكاتب وأمره أن يتم البيع ويستولي على الثمن ويقسمه على الجند باعتبار العدد ، وساق جواده إلى السبيتين.
الفصل الرابع
بسطام
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب ، وتراجع المسلمون إلى مضاربهم وتركوا قسمة الغنائم إلى أمرائهم، وكان الأمراء في انتظار الفراغ من بيع الأسرى والسبايا حتى يقتسموا ما يجتمع من أثمانها فجلسوا في خيمة بجانب فسطاط الأمير عبد الرحمن لهذه الغاية، وكان في جملتهم أمير من البرابرة يقال له بسطام لم يدخل هو وقبيلته في الإسلام إلا طمعا في الكسب والنهب من الغنائم ونحوها، وكان قوي البدن فظ الخلق يكاد الناظر إليه يرتعد من منظره لضخامة هامته وسعة وجهه مع عظم أنفه وانتفاخ منخريه، وكان في عينيه احمرار وحدة خارقة حتى ليوهمك - إذا نظر إليك - أنه يخترق صدرك ببصره، وقد زاد منظره وحشة كثافة حاجبيه وبروزهما بروز الطنف واقترابهما كأنهما خط واحد غليظ فضلا عن لونه الزيتوني، وعما يتجلى في مجمل سحنته من القسوة والخشونة، وما يدل عليه غلظ شفتيه من الميل الشديد إلى الملذات الشهوانية، وكان بسطام رئيس قبيلة كبيرة من قبائل البربر، فلما سمع بحملة عبد الرحمن إلى بلاد الإفرنج - وكان يسمع بثروتها وخيراتها - تظاهر بالإسلام وادعى أنه يريد الجهاد في سبيل الدين ولم يكن حال هذا وأمثاله ليخفى على عبد الرحمن، ولكنه كثيرا ما كان يغضي عن ذلك رغبة في اكتساب القوة؛ لأن هؤلاء البرابرة أبلوا في تلك الحروب بلاء حسنا، وخصوصا بسطام فإنه كان يهاجم الأسوار ويتلقى السهام ويستقبل الفرسان بقلب لا يعرف الخوف.
وكان كلما فرغوا من معركة واقتسموا غنائمها انتخب ما يطيب له من السبايا، وعبد الرحمن يتساهل في معاملته حذرا من غضبه لئلا تسوقه الحدة والخشونة إلى الانقلاب على المسلمين فتنقلب معه قبيلته، وقد يقتدي بها غيرها من قبائل البربر أو غيرهم من غير العرب (الموالي) ممن انتظموا في تلك الحملة، وفي نفوسهم حسد لما يميز به العرب أنفسهم عن سائر المسلمين كالاستئثار بالسلطة، وإحراز الأموال، وكان التحاسد سائدا أيضا بين العرب أنفسهم اليمنية في جانب، والحجازية في جانب آخر، ناهيك بما بين الأمويين والهاشميين من التنازع على الخلافة، على أن المسلمين غير العرب إن كان قد حسن إسلامهم، فقد يغضون عن هذا التحاسد، وخصوصا في أثناء الجهاد، أما الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام رغبة في الغنائم، فإذا فاتهم الهدف من انضمامهم انقلبوا إلى الضد.
فاتفق في وقعة بوردو أن بسطاما جاهد جهاد الأبطال، وهو الذي هجم بنفسه على المنزل الذي كانت فيه هاتان المرأتان وقبض عليهما وأرسلهما مع بعض رجاله إلى المعسكر في جملة الغنائم، على أمل أنه - متى عرضت السبايا للبيع - سيطلب الفتاة لنفسه، وهو لا يتوقع أن يكون له مزاحم أو معارض في ذلك. •••
وكان بسطام في جملة الأمراء المجتمعين في ذلك اليوم، ينتظرون قسمة الغنائم، وقد أوصى أحد رجاله أن يراقب تلك الفتاة لئلا تخرج من يده، فلما رأى هانئا قد اختارها مع رفيقتها لم يجسر الرجل على منعه أو الاعتراض عليه، ولكنه أسرع إلى بسطام فأخبره فغضب وصاح فيه: «اذهب وقل لذلك القيسي إن الفتاة للأمير بسطام؛ لأنها سبيتي وقد نلتها بحد سيفي.» فظل الرسول واقفا ولم يبد جوابا، فأدرك بسطام أنه لا يجرؤ على مخاطبة هانئ بمثل ذلك فقال له: «ما بالك لا تمشي؟» فتحول الرسول من الخيمة ومشى الهوينا وهو يغرس أنامله في شعره المتلبد المتكاثف كالعمامة السوداء ويحكه، وقد تأبط جرابا من جلد حرص عليه كل الحرص لما حواه من الأشياء الثمينة التي نهبها في أثناء الموقعة أو التقطها وهم يجمعون الغنائم، ولم يكن يرى سبيلا لحفظها إلا أن يحملها معه على ثقلها وكذلك كان يفعل أكثرهم وخصوصا الساعين في الجهاد رغبة في الغنائم، مشى ذلك البربري وهو يتباطأ في مشيته ويهم أن يلتفت إلى الوراء كأنه يتوقع من يسترجعه، وكان بسطام ينظر إليه ويراقب مشيته بعينيه الحمراوين، وقد حمي غضبه لما في ذلك التردد من الاستخفاف به، فصاح به فوقف وتراجع فقال له: «يظهر أنك خائف منه لا تكلمه بل اذهب أنت ومن شئت من رجالي، فأتوني بالفتاة سريعا.»
فمشى الرجل مثل مشيته الأولى، فازداد غضب بسطام ووثب وفي يده خنجر روماني كان قد قتل صاحبه طمعا فيه لإتقان صنعه، فاستله وضرب به الرسول، فأصابت الضربة ظهره فقتلته، وكان بالقرب من الخيمة جماعة من رجال قبيلته قد وقفوا لبعض الشئون، فصاح بسطام فيهم: «هلموا إلى غنيمة هذا الجبان، فهي وكل ما في خيمته من المنهوبات ملك حلال لكم.» فأسرعوا إلى جثته وهموا باقتسام ما في جرابه حتى كادوا يختصمون ويتضاربون. •••
অজানা পৃষ্ঠা