قال: «لقد فشل جندنا، وفر من بقي منا حيا وفي الفرار بقاء ترتاح له نفس الجبان، وقد اجتمعنا الآن ولا رقيب علينا وكل منا يريد البقاء، ولا بقاء إلا بالفرار، ونفسي تأبى ذلك، ولا يخفى عليك يا منيتي أن فؤادينا قد ذابا تطلعا إلى اليوم الذي نقطع فيه ذلك النهر؛ لأن في قطعه اجتماعنا فما الذي يمنعنا من الاجتماع فيه الآن؟»
فقطعت كلامه قائلة: «في جوفه؟»
فقال: «بل في قاعه وإذا كنا معا فلا أبالي أين نكون ولا كيف نكون.» قال ذلك ووثب حتى ركب جواد عبد الرحمن وأمسك بيدها فأردفها وراءه وأركض الفرس وهي ممسكة بعباءته، واتجها نحو نهر لوار خارج مدينة تورس حتى وصلا إلى ضفة من الرمال تنكسر عليها مياه النهر بعد تموج ضعيف، وسطح النهر يتلألأ في ضوء القمر ويتلون، فترجلا عن الفرس وأطلقا له العنان فعاد إلى المعسكر، وظلا هناك منفردين والجو هادئ ساكن لا يسمع فيه غير خرير الماء ونقيق الضفادع، فخلعا نعالهما ومشيا على الرمل المرطب بالماء، ونزع هانئ عمامته وعباءته فأصبح حاسر الرأس والذراعين مثل مريم، وله ضفيرة كانت العمامة تغطيها فاسترسلت مثل ضفائر مريم، فمشيا على الرمل حتى أصبح تكسر المياه يصيب كعبيهما فوقفا هناك ومد هانئ يديه إلى مريم، قبض بهما على يمناها فأحس ببرودتها ولينها، ولم يشعر بقشعريرتها لانشغاله بقشعريرته، فضغط على يدها بكلتا يديه فارتعدت فرائصها جميعا، ولم تعد مريم تستطيع الوقوف لاصطكاك ركبتيها، فأسندت رأسها بيسراها على كتف هانئ، فأسكرتها رائحة عرقه كما أسكرته رائحة طيبها ولمس شعرها وجهه واشتبك بشعر لحيته، فأحس بقشعريرة دبت في جسمه دبيب النمل بين اللحم والعظم وخشي لشدة تأثره أن تخونه قدماه فيقع فأبقى يسراه قابضة على يمناها، وأدار يمناه إلى كتفها وتساندا وهما صامتان والهوى يتكلم، ثم رفعت رأسها عن كتفه ونظرت في وجهه، وعيناها ذابلتان من شدة التأثر وقد غشيهما الدمع وقالت بصوت مختنق: «أتحبني يا هانئ؟»
فأعاد يده الأخرى فأمسك يمناها بيديه وأدناها إلى صدره، وقد غلب عليه الحب ونسي مواقف القتال وقال: «نعم أحبك! أحبك!» قالت: «آه، ما ألطف الحب وما ألذه!» قال: «لا لذة بغير الاجتماع هل في الدنيا اثنان يتمتعان بألذ مما نحن فيه الآن؟ ضميني يا مريم يا حبيبتي ضميني إلى صدرك ألا تشعرين بخفقان قلبي؟ إني أشعر بدقات قلبك.» قال ذلك وإحدى يديه فوق كتفها والأخرى قابضة على يدها.
أما هي فرفعت بصرها إلى السماء فرأت القمر مشرقا إشراقا باهرا، وعلى وجهه رسم يشبه رأسين متقاربين كأنهما حبيبان يتعانقان فقالت: «إني أرى صورتنا قد ارتسمت على وجه القمر انظر يا هانئ، ألا ترى وجهين مثل وجهينا؟»
قال: «لا أرى في الدنيا من يشبهنا، ولا من حال تشبه حالنا.» وكانت مريم قد جفت دموعها فلما سمعت قوله تذكرت حالها فقالت وهي تغص بريقها: «إن حالنا عجيبة يا هانئ تمنينا الاجتماع وسعينا إليه فامتنع علينا، فلما التقينا ساءنا الاجتماع خوفا من الفراق.»
فأجابها وبصره شاخص في وجهها قائلا: «إني لا أرى ما يشفي غليلي بعد طول التحسر إلا أن نجتمع اجتماعا متواصلا لا يتخلله فراق ولا يكون ذلك إلا بالموت معا، هل تموتين معي يا مريم؟»
فالتفتت إليه ويدها ملتفة بيده إلى الكتف وعيناها ذابلتان ولو لم تتكلم هي لتكلمتا، ثم قالت: «الموت معك حياة يا حبيبي يا حبيبي آه ما ألذ هذا اللفظ، وكم كنت أتلذذ بتكراره في خلوتي وأتحسر على سماعه من فمك.»
قال: «صدقت ولا يعرف لذة هذا اللفظ غير المحبين، وقد كفانا من حبنا المتبادل التمتع بهذا اللفظ؛ لأننا مقيدان بعهود لا تجيز لنا ما وراءه، ولو كتب لنا النصر وقطعنا هذا النهر لكان اجتماعنا أطول وملذاتنا أكبر على أننا لم نكن مع ذلك نأمن الفراق ونكد العيش، والدنيا تأتي بالعجب العجاب أما الآن فإذا متنا متعانقين فكأننا عشنا الدهر معا ولم ينغص عيشنا فراق.»
قالت: «عجل إذن ولا تطل بنا الوقوف لئلا يحدث ما يحرمنا هذه السعادة.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت المحفظة ونظرت إليها لحظة ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها وبكت وهي تقول: «أماه يا أماه وا لهفي عليك ما كان أشقاك قضيت العمر في التكتم والتستر والحذر ثم ذهبت قتيلة ذلك السر محافظة على عهد حبيبك وإكراما لوصيته، ولو عرفت ذلك من قبل لاستغربت منك هذا التعلق وأما الآن فقد ذقت طعم الحب فلا ألومك، بل أنا فاعلة مثل فعلك وها أنا ذا أتبع وصيتك.» ثم أعادت المحفظة إلى جيبها وهي تقول: «هذا سرك ذاهب معنا إلى غياهب الأبدية.»
অজানা পৃষ্ঠা