قالت: «ربما فعلوا ذلك هل نذهب إلى الأخبية؟»
قال: «نذهب» وخرجا من بين الخيام كأنهما خارجان من مكان خرب حتى عبرا النهر الصغير إلى الأخبية فلم يجدا فيها أنيسا، فقال هانئ: «إذا فرضنا أن البربر جبنوا وفروا، فأين العرب؟ بل أين النساء والأولاد؟ ما أسرع نهوضهم وفرارهم يظهر أن وجود عبد الرحمن وحده كان جامعا لهم فلما مات، ماتت قلوبهم.»
ثم أطرق حينا لا يتكلم، وقلبه يكاد ينقطع حنقا ويأسا، لا يدري ماذا يقول، وقد حدثته نفسه بأمور كثيرة أكبر أن يذكرها، وكانت مريم تسير بجانبه لا تقول شيئا، وهي تكتم أمرا أجلت التصريح به حتى تسمع رأيه فيه، وبعد المسير مدة على مثل هذه الصورة بين الأخبية والخيام وكل منهما غارق في أفكاره يتعثر بالأطناب والأوتاد، قال هانئ: «يجب علينا قبل كل شيء أن نواري جثة أميرنا - رحمه الله - لئلا تذهب فريسة العقبان أو يمثل بها الأعداء.» قال ذلك وتحولا نحو ساحة المعركة فعرفا مكان الجثة من صهيل الجواد، فتعاونا في حملها على الفرس إلى حفرة في مكان منفرد، وضعاها فيه وأهالا عليها التراب ولم ينبس أحد منهما ببنت شفة، فكان لذلك الدفن على بساطته هيبة ووقار بما كان يضطرم في قلبيهما من نيران الحزن والأسف المريرين، فضلا عما كان يضطرم من نيران الحب ولواعج الغرام.
الفصل التاسع والسبعون
اللقاء الدائم
فرغا من الدفن وهما صامتان، وكان القمر قد تكبد السماء وأصبح نوره مثل نور النهار فقالت مريم: «وما العمل يا هانئ؟»
فتنهد هانئ وقال: «لو كان معي خمسون رجلا لهاجمت بهم هذين المعسكرين، على أن وحدتي لا تمنعني من الهجوم ولو كان فيه فنائي، ولكنني أخاف على مريم إذا أنا قتلت أن يلحق بها عار أو إهانة.»
فالتفتت إليه وقالت: «وهل تبقى مريم بعدك؟ ذلك لا يكون وقد قرأت وصية والدتي (وتنهدت) فإنها تحبب إلي اللقاء بها في الدار الآخرة، ولا أشك في أنها هناك الآن، فإذا كنت تحب مريم وتريد أن تطمئن على حياتها وعزها، فاسمح لي أن ألحق بوالدتي إذ لا فائدة من بقائي، وأما أنت فإن الإسلام يحتاج إليك والجهاد يفتقر إلى سيفك وذراعك.»
فلما سمع كلامها هاج غرامه حتى أنساه موقفه فقال: «إن الإسلام مفتقر إلى مثلك أكثر من افتقاره إلى مثلي إنك ابنة الملكين فقد حزت فضائل الجنسين والله لو صبر أولئك الجبناء وكنت أنت رائدهم في حومة الوغى لفازوا وقطعنا نهر لوار آه من هذا النهر لقد امتنع علينا عبوره فامتنع اجتماعنا أتطيعيني يا مريم؟»
قالت: «إني أطوع لك من بنانك إلا إذا أردت بقائي بعدك.»
অজানা পৃষ্ঠা