وممن أثرت فيه ثورة الخواطر الفرنساوية المؤرخ الإنكليزي جيبون (1734-1794)، اقتفى لوك وبيل وفولطير ومونتسكيو في تاريخه الشهير «سقوط السلطنة الرومانية» بجعل نشأة النصرانية سبب هذا السقوط، وقد أفرغ سهام جعبته طعنا في المعجزات والرهبان والرهبنة.
على أن أعظم زعماء الرأي المادي في إنكلترا هو يوسف بريستلي ولد سنة 1733، وكان أعظم طبيعي في عصره، واكتشف اكتشافات مهمة في الطبيعيات والكيميا، وهو من أتباع دافيد هرتلي الطبيعي والفيلسوف معا. كان بقرب عهد الأنسيكلوبيذية (1705-1757)، وجل اعتماده في الفلسفة على الفسيولوجية، فبريستلي حذا حذوه إلا أنه بالغ عنه في النتيجة، وجعل الفكر والحس من أعمال الدماغ المادية، وأنكر الإرادة الحرة، وكان يعتقد وجود الله؛ ولذلك ندد بكتاب «نظام الطبيعة»، ثم اضطر أن يهرب فرحل إلى أميركا ، وتوفي في فيلادلفيا سنة 1808.
وأما ألمانيا فليس لنا عنها في هذا العصر شيء كبير. والفلسفة التي كان عليها المعول فيها، هي فلسفة ليبنتز بما فيها من الأرواح والقصد في نظام الحيوان. ثم سادت فلسفة كريستيان ولف الذي قال فيه لانج: «إنه رجل جليل وحر الأفكار، إلا أنه من صغار الفلاسفة، وليس في فلسفته شيء من المادية.» وقال: «إن النفس جوهر بسيط روحاني.» ثم كثرت الأبحاث في بسيكولوجية الحيوانات على منهاج ليبنتز، وجعلت نفس الحيوان خالدة كنفس الإنسان. وأشهر ما اتصل بنا من ذلك مؤلف لريماروس «مراقبة أميال الحيوان الصناعية» (سنة 1760)، وآخر للأستاذ ماير (1709)، الذي حاول وضع مذهب جديد في نفس الحيوان، وماير من المعتصبين ضد الرأي المادي، وقد نشر سنة 1743 رسالة بين فيها أن المادة لا تستطيع أن تفتكر. وكذلك الأستاذ مارتن كنوتزن كتب نظيره. ولا يزال أصحاب ما وراء الطبيعة اليوم متمسكين بهذه الحجة، وقد فاتهم أنه لا يزال ينقصهم الدليل البين، بل الأدلة ضدهم كثيرة. ولقد أضحكت هذه الحجة دلامتري فقال: «إن قولهم المادة لا تقدر أن تفتكر على حد قولك المادة لا تقدر أن تدق الساعات!» وقال الفيلسوف شوبنهور: «إذا كان في إمكان المادة أن تصير ترابا، ففي إمكانها أن تفتكر أيضا.» فالمادة كما هي مادة لا تفتكر، كما أنها لا تدق الساعات ولا تصير ترابا، ولكنها إذا تركبت على حالات معلومة، كان في إمكانها أن تدق الساعات، وأن تصير ترابا، وأن تفتكر أيضا.
وكتاب دلامتري «الإنسان الآلة» صادف في ألمانيا مقاومة عنيفة، وليس ما يستوقف النظر في المناقضات الكثيرة التي وجهت ضده.
ومع ذلك فلم تكن ألمانيا خلوا من الرأي المادي كليا، بل مال فيها إليه رجال نظير فورستر وليختنبرج وهردر ولواتر، أو بالحري أدخلوا في تعاليمهم بعض مبادئ منه، وكل يوم كان يمتد عن يوم، ولا سيما في العلوم الصحيحة. وهو وإن لم يعم الفلسفة إلا أنه مهد السبيل لنقض التعاليم القديمة لما وراء الطبيعة؛ فإن ليسنج وغاتي وشيلر وإن لم يكونوا بالحقيقة ماديين إلا أنهم تحولوا عن الفلسفة القديمة المقررة، واعتاضوا عنها بالبحث عن الحياة والانصباب على الشعر و[الأخير] أقرب إلى المادية من غاتي، حيث يقول: «لما كانت المادة لا تقدر أن توجد وتعمل إلا بالروح، ولا الروح إلا بالمادة، كانت المادة إذن قادرة أن تتركب كما أن الروح لا تتخلى عن قوتي الجذب والدفع ...» إلخ.
وإن لم يكن في هذا العصر في ألمانيا كتاب مادي بحت، إلا أن أعظم زعماء الرأي المادي فيه كان ملك بروسيا فريدريك الكبير الذي ضم إلى بلاطه كل نوابغ عصره، وقد اشتغل معهم بالفلسفة والآداب، ونظم حكومته على مبادئ حرية المعتقد والضمير، وكتاباته تدل على أنه مادي محض. ومثله كانت ابنة عمه العظيمة كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في إكرام وفادة العلماء كما مر.
الرأي المادي في القرن التاسع عشر
لا نطيل لك الشرح على الفلسفة المادية لهذا القرن؛ لأنك رأيت بنفسك كيف نشأت وانتشرت، ولا أظنك تجهل مبادئها ومفعولها، وما هو محتوم لها في المستقبل. واعلم أن ألمانيا هي القائمة بها هذه المرة في مقدمة الأمم بعد أن وقفت قرنين أو ثلاثة قرون ناظرة لا تبدي عملا. ففي القرن السادس عشر كانت إيطاليا في مقدمة الأمم في ذلك، ثم في السابع عشر إنكلترا، وفي الثامن عشر فرنسا، وأما في القرن التاسع عشر فالسابقة ألمانيا. ولقد أبطأت ألمانيا السير جدا، ولكن عن حكمة فلم تتهافت على الرأي المادي أو الفلسفة المادية، إلا بعد أن وجدت في العلوم الصحيحة مستندات قوية لم تكن لها من قبل.
ولئن كان الاعتماد في الماضي على الاختبار إلا أن مواده لم تكن بالحقيقة كفاء الواجب، وكل ما أتت به التعاليم المادية السابقة ناتج عن النظريات الفلسفية، لا عن التجربة والاختبار، خلافا لليوم فإن الرأي المادي اليوم يستند إلى جملة معلومات صريحة لم تكن في السابق، كعدم ملاشاة المادة أو الجواهر الفردة، وحفظ القوة، وعدم انفصال القوة عن المادة، ومعرفة تبدل المادة معرفة واضحة، وعدم نهاية الأجرام السماوية، وثبوت نواميس الطبيعة، ووحدة المواد والقوى في كل العالم المنظور، ومذهب الخلايا، والتاريخ الطبيعي للأرض والعالم العضوي، وشدة ارتباط الظواهر العضوية وغير العضوية بعضها ببعض، والاكتشافات في عمر الإنسان وأصله، والدلالة الفسيولوجية على أن الدماغ عضو النفس، ونفي المبدأ الحيوي والأسباب الغائية، وبالجملة نفي كل القوى السرية من العلم والطبيعة، وتحديد معنى البداهة، وعدم الفرق جوهريا بين نفس الإنسان ونفس الحيوان إلا من حيث الارتقاء فقط ... إلخ.
فيرى من ذلك أن قول القائلين: إن الرأي المادي اليوم رأي فند ونفي منذ زمان طويل فاسد لسببين؛ أحدهما: أنه لا يعلم أن الرأي المادي نفي أبدا، بل كان يهجع ويثور بحسب أحوال الأمم المتغيرة وهو قديم جدا. وثانيا: لأن الرأي المادي اليوم ليس الرأي المادي لإبيقوروس أو الأنسيكلوبيذيين لما حدث من الاكتشافات العلمية، ويختلف عن التعاليم القديمة بأنه ليس مذهبا نظيرها، وإنما هو حقيقة فلسفية موضوعها البحث عن المبادئ الواحدة في عالم الطبيعة والروح، وبيان الارتباط الطبيعي المنتظم بين جميع ظواهر الكون. فإطلاق اسم الرأي المادي على هذا الانصباب العام - بمعنى أنه مذهب معلوم - لا يصح، أو هو بالحري قاصر جدا لا يفي بالمقصود. فالرأي المادي اليوم لا يجعل المادة وحدها فوق كل شيء، بل يعتبر القوة والمادة غير منفصلتين كأنهما شيء واحد، ولا فرق عنده في جعل القوة أو المادة قاعدة كل شيء إذا كان اقتضاء لذلك، أو هو كما يسمونه أيضا الرأي «الحقيقي». وهذا الرأي لا ينفي الفلسفة كما يزعم بعضهم، بل بالحري يجعلها روح كل علم، مع الفرق بأن الفلسفة ليست معه - كما كانت قبل - علما مستقلا بمقدماته ونتائجه، بل هي مركز تجتمع إليه نتائج كل العلوم الأخرى، حيث يصير تحويرها، «وهذا الحصر يعليها علوا صحيحا» كما يقول سبيس. وهذه الفلسفة لا تدعي لقضاياها العصمة المطلقة، ولا تستنزل من سوابح الأفكار في ذرا سماء الخيال نواميس للكون، بل بالضد من ذلك تقف عند حد أبحاث العلوم الصحيحة، وهذا الحد غير ثابت، بل يزداد بعدا سنة عن سنة كلما تقدمت هذه العلوم، وقد يقع الخطأ فيها أكثر من مرة، إلا أن هذا الخطأ لا يضر، بل يفيد لاكتشاف الحقيقة على حد ما في المثل الألماني القائل: «لا ينتقل من الخطأ إلى الصواب إلا العاقل ولا يقف إلا المجنون.»
অজানা পৃষ্ঠা