وأما القسم الثاني للكتاب ففيه معارضة للدين ولوجود الله، والرأي المادي مبسوط فيه بجسارة لم يسبقه إليها أحد ممن تقدمه. ومعارضة هولباخ للدين لأسباب علمية وأدبية، فأراد نقضه؛ لأنه يراه أصل جميع مصائب الإنسان. وأما حجته لتبطيل الأدلة على وجود الله فضعيفة ومملة، وربما كان ذلك لأن هذه الأدلة لا قيمة لها فلسفيا؛ فإن المؤمن بالله يؤمن به لأسباب خارجة عن الفلسفة. على أنه لم يقتصر على نفي وجود الله، بل عارض مذهب البانتايسم، وبين أنه يصح وجود أناس لا يعتقدون وجود الآلهة. وهو من رأي بيل أن الجحود لا يضر بالفضيلة، ولكنه يقول: إن الجمهور لا يقدر على الجحود؛ لأنه لا يستطيع لاختلاف المشرب وضيق الوقت أن يستغرق البحث في هذه المسألة الصعبة، ويقتنع بها بواسطة العلم. إلا أنه يطلب إلى الحكومة ألا تقيد حرية الفكر، ويقول: إن الأفكار المتناقضة يقدر أن يكون بعضها بجانب بعض بدون ضرر، وإذا لم تستعمل القسوة لتأييد البعض، وإبادة البعض الآخر فيتيسر لعموم الناس مع الزمان أن يرسوا على الحقيقة.
ويختم كلامه بالقول أن الاحترام لا يجوز إلا لبنات الطبيعة الثلاث: الفضيلة والحكمة والحقيقة، ولا آلهة سواها.
ويلحق «بنظام الطبيعة» مشاهير الأنسيكلوبيذيين الفرنساويين الذين عدوا هولباخ منهم، ووجودهم كان بين ظهور كتاب «الإنسان الآلة»، وكتاب «نظام الطبيعة».
فالأنسيكلوبيذية، أو موسوعة العلوم، أو دائرة المعارف للكتبي لابرتون، يراد بها مختصر المعارف الموجودة. وصاحب هذا المشروع شامبرس الإنكليزي، فإنه نشر في سنة 1727 مؤلفا سماه «سيكلوبيذية أو قاموسا عاما للصنائع والعلوم»، فأراد لابرتون في أول الأمر ترجمته، ثم رأى أن يؤلفه فاستدعى إليه الكاتب الشهير ديدرو، وسلمه عهدة تحريره، وانضم إلى ديدرو دلامبرت وجمهور من مشاهير الكتبة، منهم فولطير الذي ساعد فيه كثيرا.
والمجلدان الأولان ظهرا في سنة 1751 وسنة 1752، تحت هذا الاسم «أنسيكلوبيذية، أو قاموس مبرهن للعلوم والصنائع تأليف جماعة من الكتبة، رتبه ونشره ديدرو، والجزء الرياضي منه تأليف دلامبرت ... إلخ»، فهيجا ضدهما خواطر الكهنة ومن على شاكلتهم من العلماء. ولولا مساعدة الحكومة ولا سيما أحد وزرائها المدعو ملارب لما أمكن تكميل نشر الأنسيكلوبيذية. وقد انتشر هذا المؤلف انتشارا عظيما على رغم ارتفاع سعره، وطبع منه في المرة الأولى ثلاثون ألف نسخة، وترجم أربع مرات إلى سنة 1774، وربح به الكتبيون نحوا من ثلاثة أو أربعة ملايين فرنك.
وقد أثرت الأنسيلكوبيذية جدا في أفكار ذلك العصر ومعتقداته، وقد سماها كابانيس: «الاتحاد المقدس ضد الوهم والظلم»، وهي السبب على قول روزانكرانز في تحول أفكار الفرنساويين عن التثنية الديكارتية (نسبة إلى ديكارتوس)، وانتقاض رأي ما وراء الطبيعة، وانتشار فلسفة الإنكليز العملية.
والرجلان اللذان تميزا في الأنسيكلوبيذيا هما ديدرو ودلامبرت.
فديدرو كفولطير يقتبس من نيوتون ولوك، لكنه أعلم من فولطير وأثبت منه في المادية والجحود، وحياته كانت عيشة سكون واعتزال شأن العلماء. ولا خلاف في أنه كان شريف الأخلاق حميد الخصال، ولد سنة 1713، ولم يتخذ صناعة معلومة، بل وقف نفسه للعلم، وكان كثير الاعتماد على باكون ولوك وبيل. ومن سنة 1745 حتى سنة 1749 نشر عدة رسالات مهمة سجن لأجلها مائة يوم في فنسان. ثم في سنة 1749 ظهر مشروع الأنسيكلوبيذية، فاشتغل به عشرين سنة محاطا بأنواع الصعوبات والاضطهادات والمعاكسات. ثم إن إمبراطورة روسيا كاترينا الشهيرة دعته مرارا إلى بلاطها، فذهب إلى بطرسبورج سنة 1773 حيث نزل على الرحب والسعة، وأجزلت له الإمبراطورة الصلات والهدايا، إلا أنه لم يستطع لمرضه أن يبقى هناك، فعاد إلى وطنه. فأي فرق بين ذلك العصر واليوم حيث لا ترى سوى الخسة والدناءة والموالسة والأفكار الدنيئة مقربة من الرءوس المتوجة.
10
وتوفي ديدرو سنة 1784 وآخر ما قاله هذه العبارة: «الكفر أول خطوة نحو الفلسفة.» وقد رتبت إمبراطورة روسيا معاشا لأرملته مدة حياتها.
অজানা পৃষ্ঠা