المقالة السادسة
إن الرأي المادي في الفلسفة بقي هاجعا من عهد إبيقورس حتى القرن الخامس عشر للمسيح، وفي بحر هذه المدة الطويلة سادت الفلسفة المجردة، ولا سيما فلسفة أرسطوطاليس، ومما ساعد جدا على تأييدها في العصور الوسطى انتشار النصرانية في المملكة الرومانية. وقد تداعت المملكة المذكورة إلى السقوط، فأرسطوطاليس قلما يعتد بالمادة وينفي عنها كل حركة ذاتية، ويجعل الصورة الضرورية للمادة خارجة عنها ومضادة لها، ويقول بضرورة وجود محرك أول. والفرق بينه وبين فلاسفة النصرانية في ذلك أن الكائن الأول عنده غير خالق للعالم أو صانع له؛ لأن المادة لها ذلك، وإنما هو محرك له.
1
وبقيت الأفكار الفلسفية في النصرانية على هذا النهج لا غرض لها إلا خدمة الغاية اللاهوتية حتى اكتشفت أميركا، وقام كوبرنيخ وكوبلر ووضعا تعاليمهما في علم الهيئة، عند ذلك حصل في الأفكار ثورة غيرت وجه الفلسفة؛ إذ اقتضى لها أن تتبع مجرى العلوم الطبيعية. والذين تبعوا مجراها هذا أطلق عليهم اسم عمليين أو طبيعيين أو ماديين.
وفي أول الأمر لم يستطع الفلاسفة الماديون المحدثون أن يتحرروا دفعة واحدة من فلسفة أرسطو؛ لأنه ليس من السهل هجر مبادئ اختمرت بها الأفكار مدة خمسة عشر قرنا فلم ينبذوها كليا، بل اجتهدوا في توضيحها بدعوى تأييد الصحيح منها. وأول من ضرب معولا في أساسها فيلسوف طلياني اسمه بطرس بومبوناتيوس.
نشر هذا الفيلسوف سنة 1516 كتابا في خلود النفس، بين فيه أن خلود النفس أمر يستحيل التسليم به حسب أرسطو؛ لأن الصورة والجسم أو الصورة والمادة صفتان لا تفترقان، قال: «إذا أريد التسليم بخلود الإنسان يقتضي أولا أن يبرهن كيف أن النفس تحيا بدون جسم يعمل فيها أو تعمل فيه، فإنه بدون أفكار لا يمكن لنا أن نفتكر. والأفكار نفسها تتوقف على الجسد وأعضائه. ولا ينكر أن الفكر بذاته أزلي وغير مادي إلا أنه مرتبط بالحواس، فلا يدرك الكلي إلا بالجزئي، وهو ليس مجردا عن الزمان، ولا في وقت من الأوقات؛ لأن الأفكار تغيب وتحضر؛ فنفسنا إذن مائتة إذ لا يبقى فيها علم ولا ذكر.»
وقال أيضا: «إن عمل الفضيلة لأنها فضيلة لأنبل جدا من عملها طمعا بالمكافأة، على أنه لا يذم أرباب السياسة الذين لأجل مصلحة العموم يعلمون خلود النفس؛ حتى يسير الضعاف والأشرار خوفا أو رجاء في السبيل القويم الذي يتبعه سواهم عن لذة وهوى، لأنه غير صحيح ما يقال: إنه لا يوجد سوى علماء أشرار ينكرون خلود النفس، وأما الحكماء الأفاضل فيقرون به، فإن أوميروس وبلينوس وسيمونيد وسناك لم يكونوا أشرارا؛ لأنهم لم يعتقدوا ذلك، بل كانوا أحرارا وليسوا عبيد أغراضهم.»
ومع ذلك فبومبوناتيوس يؤكد رضوخه لشريعة المسيح، ويقول: «إن الوحي يجلب تعزية ويقينا لا تستطيعهما الفلسفة.» ولا ندري أمراء ذلك منه أم اقتناع، إلا أن جميع فلاسفة هذا العصر حتى نصف القرن السابع عشر كانوا نظيره؛ وربما كان ذلك لخوفهم من الحريق بالنار الذي لم ينج منه من صرح بأفكاره، ولعل السبب أيضا شدة تأصل الإيمان في نفوس أهل ذلك الزمان.
ثم في سنة 1543 ظهر كتاب «دوائر الأجرام السماوية» لنيقولا كوبرنيخ فزعزع أركان الإيمان، وأضعف الثقة بأرسطوطاليس ومن حذا حذوه؛ إذ بين حركة الأرض المزدوجة على نفسها وحول الشمس.
ومن أعظم زعماء هذا التعليم الحديث جيوردانو برونو، وهو فيلسوف طلياني أيضا من مذهب البانتايسم،
অজানা পৃষ্ঠা