رأيه في جوهر النفس هو كرأينا، والفرق بيننا أن جواهر النار لدموقريط يعبر عنها عندنا بأفعال الدماغ والأعصاب، المجهولة في زمانه.
فيرى مما تقدم أن دموقريط أقرب إلى أفكارنا من سائر الفلاسفة الأقدمين. وقد اشتهر رأيه المادي في عصره، واضطهد كثيرا كما لا يزال يضطهد رأي الماديين اليوم. ومن مضطهديه أرسطوطاليس، فقد قسى عليه القول، ثم نسبوا إليه في المستقبل كل شائبة وأوسعوه كل طعن، وهو براء من كل ذلك كما يتضح مما ذكرناه عنه.
ثم بعد دموقريط جاء السفسطائيون وألقوا الشك في قلب الإنسان بحقيقة ما هو معلوم، وما سيعلم. وليس لهم أهمية في نظرنا إلا باستطالتهم في شكهم حتى إلى الآلهة. منهم بروثاغوراس (440ق.م) قال: إنه لا يستطاع أن يقال عن الآلهة أنهم موجودون أو غير موجودين؛ فاتهم بالجحود وطرد من أثينا وأحرق كتابه. فالاضطهاد الذي ملأ العالم مظالم لأجل الدين قديم جدا حتى من عهد ميثولوجيا اليونان.
ثم تجاسر السفسطائيون مع الزمان، وأحدهم كريتياس الملقب برئيس الثلاثين ظالما شرع يعلم جهارا أن الآلهة ليسوا سوى اختراع أناس دهاة ليخدعوا الشعب الجاهل. ومعلوم أن السفسطائين ينكرون الخير المطلق، ويجعلون العدل والظلم من اصطلاح الهيئة الاجتماعية. ثم تطرف أريستيب الذي كان في القرن الرابع قبل المسيح، ووضع علما جديدا في الأخلاق أسسه على اللذة التي اعتبرها غاية الوجود، فاللذة عنده هي السعادة، ولا يستطيع أن يجمع بين التأمل وضبط النفس ويكون سعيدا إلا العاقل. ولذة الجسد أفضل من لذة النفس، وعذاب الجسد أشد من عذاب النفس.
وكان أريستيب يغشى كثيرا مجالس الأكابر في ذلك العصر، حسن المعاشرة، كثير التردد كذلك على الحكام. وقد اتفق له أن اجتمع مرارا كثيرة بخصمه العظيم «بلاتون» - الحكيم عند «لانيس السيراقوسي» - وقد خرج من مدرسة أريستيب ثيودورس الجاحد.
وأريستيب كان آخر الفلاسفة الماديين قبل سقراط. ثم خلا الجو للفلسفة النظرية، واشتهر فيها الفليسوفان الشهيران بلاتون وأرسطوطالس، ونضرب هنا صفحا عن ذكرهما، وعن ذكر معلمهما سقراط؛ لأنه ليس في فلسفتهم شيء يختص بتاريخ الفلسفة المادية.
إلا أن أحد تلامذة أرسطوطاليس وهو ستراتون صاحب الفلسفة الطبيعية الشهير، يظهر من تعاليمه التي لم يبلغنا منها إلا القليل أنه كان له مذهب مادي؛ فإن القوة أو العقل الذي عند أرسطو يدبر العالم لا يعتبره ستراتون إلا العلم المبني على الإحساس. وهو يعتبر أن كل شيء، بل كل حي مشتق من المادة بقوى طبيعية متصلة بها. ولا يجد لزوما للمبدأ الروحي الذي يضعه أرسطو في باطن كل شيء، بل كل الطبيعة إله، والعقل عنده قوة حسية؛ لأن كل فكر يقتضي شعور الحواس قبله ضرورة.
ثم بعد سقراط بمائة سنة ظهر الفيلسوف العظيم إبيقورس، ولد سنة 342ق.م في قرية من أطيكا، وحدث له إذ كان ابن 14 سنة وهو يقرأ في المدرسة تكوين زيود،
14
حيث يجعل الكاوس مبدأ كل شيء، فسأل معلمه حينئذ من أين أتى الكاوس؟ فحار في الجواب. ومن ثم هام في الفلسفة، وأخذ ينظر بنفسه، فقرأ دمقريط وتعليمه في الجواهر الفردة، وفي أثينا قرأ على تلامذة أرسطو. ثم عاد إلى وطنه؛ هربا من الارتباكات السياسية التي وقعت فيها أثينا بعد موت الإسكندر الكبير، ولم يرجع إليها إلا وقد تقدم في السن، فاشترى فيها بستانا وعاش محاطا بتلامذته، كأنه بين ذوي قرباه. وكان يحترم الآلهة على ما هو متواتر في اعتقاد أهل بلاده، ولكنه كان يخرجها دائما من مباحث الفلسفة، وكان يتمثلها كائنات أزلية خالدة لا عمل لها، مقيمة في المساحات الكائنة بين العوالم لا يهمها شيء من الأرض، ولا من مجرى الطبيعة. وعنده أن احترام الآلهة غير واجب إلا بالنظر لكمالها، ولا يعتبرها إلا بشرا أكمل من البشر عائشة في حالة شبيهة بما يتصوره في فلسفته؛ وهو وجود سعيد خال من كل وجع. وهذا هو غاية القصد من مدرسته التي كانت مؤلفة من الأحبة المجتمعين على صدق الولاء المتبادل بينهم. على أن المدرسة ومؤسسها أصبحا عرضة للتهم الكاذبة ونسب إليهما كل شنعة، ولكن بدون إسناد صحيح؛ لأنه مقرر أن حياة إبيقورس كانت طاهرة جدا. وقد توفي في سن 72 سنة، وبقي تلاميذه يجتمعون في البستان الذي تركه لهم في اليوم العشرين من كل شهر زمانا طويلا بعد موته، وكان إبيقورس قد قرر مبلغا معلوما لهذا النيروز.
অজানা পৃষ্ঠা