على أن وقوف الإنسان عموديا منتصبا على قدميه ليس كله طبيعيا؛ لأن وضع العمود الفقري لا يقتضيه لزوما، إذ لا يرتبط الجسد به إلا من جانب واحد فقط؛ ولذلك كان الأطفال والشيوخ كثيري السقوط إلى الأمام، والأطفال لا يتعلمون المشي منتصبين إلا بكل صعوبة. ولما كان ثقل الجسد كله متعلقا بهذا العمود من جانب واحد فقط، كان ذلك فيه سببا للانحناء الكثير الحصول؛ لأنه كثيرا ما لا يقوى على حمل هذا الثقل.
ولكي نفرغ من هذا الموضوع لم يبق علينا سوى أمر واحد كثيرا ما اعتبروه ذا شأن عظيم، وعند الفحص الدقيق تسقط قيمته كغيره؛ أعني به غشاء البكارة والحيض اللذين اعتبرا أنهما خاصان بأنثى الإنسان، فكلاهما يوجدان في القرود، وفي غيرها من ذوات الثدي أيضا. وقد ذكر الدكتور نوبرت من ستوتكاردت أن بعض أجناس القرود ولا سيما قرود العالم القديم تحيض حيضا صحيحا، بعضها كل أربعة أسابيع، وبعضها مرتين في السنة.
فيظهر مما تقدم أنه لا يوجد فرق مطلق أو كيفي بين الإنسان والحيوان لا جسمانيا ولا روحانيا، بل الفرق بينهما نسبي أو كمي فقط. على أن الفراغ العظيم الكائن بينهما سيتسع يوما عن يوم؛ لازدياد التمدن ولموت الأصول المتوسطة. ولذلك، كلما بعد الإنسان عن أصله الأول زادت الصعوبة في معرفة الحقيقة، فإن الأصول العليا للقرود والفروع السفلى للبشر صارت في حالة التلاشي منذ زمان طويل، وكل منها يقل سنة عن سنة، بخلاف الإنسان المتمدن، فإنه لا يزال يزداد ارتقاء وانتشارا على سطح الأرض، فسوف تصير المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أكبر جدا منها اليوم بعد بضع مئات أو بضعة آلاف من السنين، بحيث يتعذر قطعها على علماء ذلك العصر البعيد إن لم يروا في الكتب مستندات يستندون إليها.
على أن اكتشافات السياح والفوائد الناجمة للعلم منها نتيجتها تسهيل الصعب من ذلك؛ فإنه في أواخر القرن الثامن عشر وفي أوائل التاسع عشر لم يكن يعلم إلا القليل النزر عن القرود الشبيهة بالإنسان، وما كان يذكر عنها حمله كوفيه على محمل الخرافة، وقال: إنه من مختلقات زميله بوفون. وأما اليوم فنعرف أربعة قرود شبيهة بالإنسان: الجيبون والشمبانزي والأوران أوتان والكورلا، ومعرفة هذا الأخير حديثة العهد، فالكورلا يشبه الإنسان كثيرا بالقد والهيكل، وكيان اليد والرجل والتسنين وغير ذلك. ومهما روي عن قوة هذا الحيوان وشراسته من المبالغة فقد تحقق أنه صحيح في أكثره. وهو أقوى القرود الشبيهة بالإنسان على القيام والمشي واقفا، إلا أنها تشبه الإنسان في بعض أشياء أكثر منه، فالشمبانزي له رأس ودماغ قريبان من رأس الإنسان ودماغه، والجيبون وإن كان لا يتجاوز قده ثلاثة أقدام إلا أنه يشبه الإنسان كثيرا بقفص صدره وأنواع جلوسه.
فأوجه الشبه مع الإنسان غير محصورة في نوع واحد من القرود، بل متفرقة في أنواع كثيرة، وهذا كاف لإظهار غلط أولئك الذين يريدون أن يحصروها على ما يفهمون من مذهب دارون في صورة واحدة تصل بينه وبين القرود رأسا، وقد بينت هذا الغلط فيما تقدم، حيث قلت: «إنه لا يجوز البحث عن صور انتقالية بين الصور الحاضرة، ولكن بينها وبين جد قديم انقرض من زمان طويل، وكان يجمع فيه الصفات المختلفة للأنواع الحاضرة، وقلت أيضا، وقد ذكرت مثال الصور الأربع الحاضرة الفرس وحمار الوحش والحمار والكواجا: إنه لا شك في أن أصلها واحد، إلا إنه لا يجوز أن نطمع بوجود صور حية متوسطة بينها، قال الأستاذ هليار: «إن الأجسام الحية المقيمة بعضها بجانب بعض قد تكون مختلفة جدا، ولا حاجة إلى أن يكون بينها صور انتقالية؛ لأنها لم تتكون بعضها من بعض، بل تكونت بعضها بجانب بعض، ولئن كان جدها واحدا إلا أنه يمكن أن تكون مختلفة جدا.»
كذلك إذا أردنا شق الإنسان من عالم الحيوان على مذهب دارون؛ فلا يجوز لنا أن نبحث عن صور متوسطة بينه وبين الكورلا، بل بينه وبين جد أو أجداد مجهولة نشأ منها فرع الإنسان من جهة، وفرع القرد من جهة أخرى.»
ورب قائل يسأل: هل مثل هذه الصور الانتقالية وجد أو وجد ما يدل على وجوده؟
فأجيب: نعم؛ فإن الاكتشافات العلمية في هذه السنين المتأخرة قد جادت علينا بكثير من ذلك. على أن هذه الاكتشافات على فرض أنها لم تعلم، لا يجب أن تحول بيننا وبين إطلاق مذهب دارون على الإنسان؛ لأنه كما تقدم في المقالة السابقة جوابا على اعتراض فقدان الصور الأحفورية المتوسط لا قيمة لهذا الاعتراض، لقلة المعلوم لنا من الأرض. ويتضح ذلك أكثر مما يأتي؛ فإن القارات التي تعيش فيها القرود الشبيهة بالإنسان الكبيرة، والتي يلزم أن تكون فيها الصور المتوسطة لا تزال محجوبة عن الأبحاث البالنتولوجية، وهي المناطق الحارة لقارة أفريقيا وجزائر جافا وبورنيو وصومترا. ولا نعرف شيئا أيضا عن ذوات الثدي التي كانت تعيش في طبقة البليوسن، والبليوسن الأخير لهذه الأماكن. وأما في أوروبا فقد وجد في طبقات الميوسن؛ أي في متكونات الأرض أيام كانت أوروبا حارة أكثر من اليوم، بقايا قرود أحفورية، وكان يظن من عهد غير بعيد أنه لا يوجد قرود أحفورية في أوروبا، كما كان يظن أيضا أنه لا توجد أحافير بشرية لا سبيل اليوم إلى الشك بوجودها. وقد استخرج من أوروبا في زمن قصير ستة أنواع من القرود الأحفورية بعضها يجمع فيه بعض الصفات الموجودة في القرود والإنسان اليوم، وروتيمير وجد في الأراضي الثلاثية لسويسرا قردا أحفوريا يجمع فيه صفات ثلاثة أنواع من القرود الحية (وهي: الكترهين والبلاتيرهين والمالكي). والقرد المسمى دريوبيتكوس لارتت نوع من الجيبون طويل الذراعين، وجدت بقاياه في سفح جبال البيرنيز الفرنساوية سنة 1856 في طبقات الميوسان الأعلى، وكان أكبر من الكورلا، وأسنانه أكثر شبها بأسنان الإنسان من الشمبانزي؛ أي كان أقرب إلى الإنسان من سائر القرود الحاضرة الشبيهة بالإنسان.
فإذا كان مثل ذلك وجد في أوروبا، حيث كان الأمل به قليلا جدا، فكم يجب أن يكون كثيرا في الجهات الاستوائية التي هي موطن القرود الكبيرة، ولا سيما في طبقات البليوسن والبليوسن الأخير. وأما زوال الصور المتوسطة وعدم بقائها زمانا طويلا، فلما حصل بينها وبين الإنسان من المنازعة الشديدة في تنازع البقاء.
فمن الجهة الواحدة قد وجد إذن قرود أحفورية أقرب إلى الإنسان من القرود الحاضرة، ويرجى وجود أخرى تكون دليلا أوضح أيضا. ومن الجهة الأخرى قد وجد أيضا في هذه السنين الأخيرة كثير من صور البشر الأحفورية، ومن المصنوعات البشرية وهي قديمة العهد جدا. والأربعة أو الخمسة آلاف سنة المعروفة لتاريخ الإنسان ليست شيئا بالنظر إلى وجوده السابق العهد التاريخي. وتكوين هذه الآثار التشريحي يضيق المسافة التي تفصل الإنسان عن الحيوان أيضا. ويطول بنا الشرح إذا أردنا فحص هذه المسألة المهمة بالتدقيق، فلتراجع في مؤلفات ليل وشارل فوجت وهكسلي وبوشه، وغيرهم من العلماء الذين بحثوا فيها، فقط أقول: إن جميع الجماجم والعظام البشرية القديمة العهد جدا خصوصا الجمجمة الشهيرة لنياند رسال، والفك السفلي الأحفوري الذي وجده ديبون حديثا في مغارة نولات على اللاس في بلجيكا، كلها ذات تكوين دنيء جدا شبيهة بتكوين الحيوان وقريبة من القرد؛ أي تدل على أصل حيواني. ثم ولئن يكن تكوين الأحافير البشرية السافلة أدنى من تكوين أدنى المتوحشين اليوم، إلا أن الإنسان القرد - كما يقول شفهوزن - الذي لا بد من أن نعثر عليه يوما ما لم يوجد بعد، والسبب العظيم لذلك - بقطع النظر عن قلة المعلوم لنا من الأرض - هو عدم موافقة الأحوال الجيولوجية في الماضي القديم جدا لحفظ العظام البشرية، خلافا للعصر الذي وجد فيه الإنسان المعاصر المموث والحيوانات الكهفية. ولهذا السبب - كما يقول شفهوزن أيضا - لا يرجى العثور على آثار الإنسان القديمة جدا إلا في أحوال غير اعتيادية. ومع ذلك فربما لا يحرم العلم من هذه الاكتشافات. وأنا من رأي جورج بوشه في هذا المعنى ، حيث يقول من رسالة في الأنثروبولوجيا ما نصه:
অজানা পৃষ্ঠা