الزاهيات، ونرى الطبيعة باسمة عن ثغر الصفاء والسكون، لا يخطر لنا ببال أن جميع هذه السعادة إنما هي قائمة على تلاش في الحياة متسع ومستمر، فإن الطيور تغتذي من أنواع الذباب وبذور النبات، وننسى أيضا أنها هي العدد القليل الباقي من بين أخواتها التي سطت عليها الطيور الجوارح، وعبثت بأعشاشها أعداؤها من كل جنس، أو ألمت بها قساوة الفصول والجوع والبرد وغير ذلك.
ولا يخفى أن الفائز من الأفراد أو الأنواع أو غيرها على ما سواه في معمعة هذا التنازع للبقاء، هو ما تميز بينها بصفات جسدية أو عقلية تحقق له هذا الفوز. وهذه الصفات كثيرة جدا، فقد تكون الأقدام، أو القوة، أو كبر القد، أو صغره، أو وسائط الهجوم والدفاع، أو اللون، أو الجمال، أو السرعة، أو الصبر على الجوع، أو حسن الكساء، أو الحيلة، أو حسن التدبير في استحصال القوت، أو الحكمة في اتقاء الشر ... إلخ. ولعموم النوع هي كثرة النتاج (وإن كان فعل الكثرة محدودا جدا)، وللنبات موافقة التربة، أو قوة يقوى بها على المؤثرات الخارجية المضرة؛ فإنا لو قطعنا العشب المؤلف من نباتات مختلفة على مساواة الأرض، وكررنا ذلك فلا يقوى منه - والحالة هذه - على ما سواه إلا ما كان أكثر موافقة للتربة. وقد رأوا في امتحانات من هذا القبيل أن تسعة أنواع من عشرين نوعا هلكت. أو لو زرعنا بزورا مختلفة مخلوطة معا، ثم حصدناها وزرعنا بزور المحصود، وهكذا على زمان معلوم؛ فلا يبقى بعد حين من البزور الأصلية إلا القليل الأشد، والأكثر نتاجا، والأوفق للتربة. فلو تنازع نبتان في قفر لما بقي إلا أقواهما على احتمال اليبوسة، ولا يفوز في زمان القحط إلا من كان أشد صبرا على الجوع. والدبق ينازع ما جاوره من الأنواع بحلاوة إثماره التي تأكلها الطيور، وتنشر بذره أكثر من سواه. وبعض أنواع الغنم الجبلي إذا وضع بين أنواع أخرى أكثر منه وفاقا لأحوال الحياة فإنه يهلك، وهكذا العلقة الطبية أيضا. وذو الأجنحة الغشائية المائي إنما يغوص في الماء بسهولة؛ لتكوين خاص في رجليه يجعله متميزا على ما سواه من نوعه في القنص والهرب. وبعض الحيوانات يفيده لونه كالحجل الأبيض والدب الأبيض اللذين يقطنان في الجهات القطبية المغطاة بالثلج على الدوام، وكذلك الذباب الأخضر الذي يعيش على أوراق النبات. وبعضها يقيه فروه الذي يتلبد إذا أقبل الشتاء، وبعضها سرعته في الهرب أو شدته في القتال. ولنا أمثلة غريبة من هذا القبيل، كانقراض الفأر الأسود الإنكليزي تحت أنياب الفأر الرمادي الهنوفري، الذي قطع المانش على مراكب غوليوم دورانج. ولم يكن في مدينة سان فرنسيسكو في كليفورنيا سابقا غير الفأر الأبيض، إلا أنه انقرض أمام الفأر الأسود الذي جاء إليها بالمراكب الأوروباوية، وقد تكاثر فيها حتى بلغ ثمن القط خمسين ريالا. وانقرض نوع من الخطاطيف في أميركا لنوع آخر منها. وكانت نتيجة سرعة انتشار دج الدبق في إنكلترة انقراض الدج المغرد منها. وهذا التنازع في الوجود يطلق أيضا على الإنسان، ومن هذا القبيل ما هو معروف في التاريخ من انقراض أهل أميركا وأوستراليا المتوحشين لدخول أهل أوروبا بينهم.
ولا يبلغ التنازع معظمه إلا بين الأنواع الأقرب بعضها إلى بعض؛ لاشتراكها في المتنازع عليه، ويقل كلما ابتعدت بعضها عن بعض حتى يفقد. وكلما كانت الصورة قديمة كانت أضعف عن مقاومة خصومها الأحداث؛ لاتخاذ الأحداث في التنازع صورا أنسب للتغيرات الحاصلة في أحوال الحياة تجعلها أقوى. وكل صورة غلبت لا تعود أبدا؛ إذ لا تعود قادرة على الثبات في التنازع. ويتضح لنا كل ذلك على نوع عجيب في أوستراليا أو هولاندة الجديدة؛ فإن هذا القسم من العالم المنعزل جغرافيا عن كل منازعة لم تزل حيواناته ونباتاته متأخرة تشبه أحافيرنا المتكونة منذ زمان طويل. وأعلى حيواناته رتبة ذو الجراب الذي عاش في أوروبا في الدور الثاني، وتلاشى لتغلب أنواع أخرى عليه أقوى وأكمل. وإنما بقي مثل هذا الحيوان في أوستراليا إلى يومنا هذا، ولم يتلاش لعدم وجود منازع له شديد البأس، ولكن من يوم دخلها الإنكليز أخذ كل ما فيها بالتلاشي، حتى كاد يزول لعدم صبره على منازعة ما أدخلوه معهم. ولم يسمع قط ضد ذلك؛ أي إنه لم يسمع أن موجودات أوستراليا أمكنها أن تتأصل في أوروبا.
فإذا امتنع تكاثر الجانب العظيم من الحيوانات بسبب الجوارح منها، فالجوارح نفسها يمتنع تكاثرها أيضا؛ لقلة القوت الذي يقيم من نفسه حدا لنمو الحيوان لا يتعدى. وزد على ذلك أيضا تأثير الإقليم والبرد والحر، فقد ذكر دارون أن خمس الطير هلك في بعض أماكن في إنكلترا بسبب البرد القارس الذي حصل سنة 1854-1855، وما بقي منه إنما هو الأقوى والأكثر ريشا، والمتعود أكثر على طبيعة الإقليم. كما أن الذي يفوز باستحصال القوت في زمان القحط على مذهب دارون إنما هو الشديد، وصاحب الحيلة. ومن المعلوم أن التنازع مع القواسر الطبيعية - ولا سيما البرد - يشتد كلما صعدنا نحو الشمال، إلا أنه يكاد يتلاشى حيث تتغلب القواسر المذكورة لفرط شدتها. على أن تأثير الإقليم في نوع ما قد لا يظهر إلا إذا كان مع تنازع أنواع أخرى؛ فإن في حدائقنا نباتات كثيرة متحملة الإقليم جيدا، ولو تركت ونفسها خارج الحدائق بعيدة عن اعتناء الإنسان، لما استطاعت أن تثبت لمنازعة أقرانها والحيوانات لها. ويكاد شجر القطران في أكوسيا من أعمال إنكلترا يتلاشى للضرر الذي يلحقه من أبقارها فإنها ترعاه وهو صغير، ولكي يتنامى فيها لا بد من أن يتداركه الإنسان بما يصونه من مثل هذا الضرر، وقد يتوقف نجاحه في بعض البلدان على عدم وجود ذباب لو وجد لأضر به كثيرا. ولقد علم أن البقر والخيل والكلاب في بلاد باراجي لا تنتقل إلى الحالة الوحشية كما هو الغالب في باقي أميركا الجنوبية لذباب مجنح يكثر فيها، ويقتل صغارها بإلقاء بيضه في سراتها، فلو انتشر فيها بعض أنواع الطير الآكل الذباب لقل ذبابها، وكثرت بقرها وخيلها الوحشية أيضا، ولحصل تغير عظيم في نباتاتها التي تقتات منها، ولأثر ذلك في أحوال طيورها أيضا، وتداعت سائر أحوالها إلى حصول عدة تغيرات فيها الموازنة بينها.
فهذا الشاهد يرينا ما يفعله التنازع للبقاء في ظواهر الوجود من اختلاط الأعمال لما بينها من الارتباط الشديد. ولقد دقق دارون جدا في البحث عن هذا الارتباط، وبلغ فيه نتيجة عظيمة. من ذلك ما فسر به تلقيح كثير من النباتات بالذباب الذي يتردد عليها (كالنحل والزنابير وغيرها)، حاملا البلن
10
من زهرة إلى أخرى، ولولاه لما تلقحت النباتات المذكورة. وعدد الزنابير يتوقف على عدد فأر البيش الذي يخرب أوكارها، وعدد فأر البيش متوقف على عدد القطاط والبوم التي تفترسه ... وهكذا، بحيث إن وجود حيوان جارح في مكان يؤثر في نباتات ذلك المكان. ولنا شاهد أيضا فيما هو معلوم من دودة تظهر في شجرة القطران، ثم تختفي لاختفائه واسمها «ننا»، فحيثما كانت الدودة المذكورة كثر «الأكنمن» جدا؛ وهو حيوان يضع بيضه في جسدها فتموت، فإذا أقفر الغاب ماتت «الننا» لفقد قوتها فاختفى «الأكنمن» كأن لم يكن شيء من ذلك كله.
وهناك أيضا شاهد ثالث مأخوذ من جزيرة القديسة هيلانة، فإن هذه الجزيرة كانت في القرن السادس عشر يغطيها غاب كثيف، فلما أدخل أهل أوروبا المعز والخنازير إليها رعت الفروخ الصغيرة، فتعرت الأرض في ظرف قرنين، فطرأ على حيواناتها تغيرات جسيمة. ويلتقي في تربتها آثار حيوانات رخوة أرضية، وهي نوع كان موجودا في القديم، وقد انقرض اليوم، ولم يكن يوجد إلا في هذه الجزيرة.
فهذه الشواهد تكفي، وهي تبين أن كل جسم حي يرتبط في تكوينه وصفاته الخاصة ارتباطا شديدا - ولو أنه خفي غالبا - بغيره من الأجسام الحية التي تنازعه في قوته ومسكنه وغير ذلك. وهذا الأمر ظاهر جيدا - كما قال دارون - بأنياب النمر وأظفاره، كما هو ظاهر بمخالب الذباب الذي يتعلق بشعره.
وقد لاحظ هكل في كتابه المذكور سابقا على دارون أنه ذكر أمثالا فاسدة بجانب أمثال صحيحة، وعنده - أي هكل - أن تنازع البقاء بحيث يعدم الواحد الآخر لا يكون إلا بين الأجسام الحية فقط، وأما بينها وبين الضرورة فلا تكون غايته إعدام الحي، بل توفيقه لها كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم بقسمنا التنازع إلى فاعلي ومفعولي.
অজানা পৃষ্ঠা