[شرح المقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا مروج عقول العارفين بمظاهر كمالك ليلا ونهارا، ونشكرك يا مفرج قلوب السالكين بظواهر جلالك سرا وجهارا، ونشهد أن لا إله إلا أنت شهادة توجب لنا في مقام قربك مستقرا وقرارا. ونصلي على سيد أنبيائك وأشرف أوليائك صلاة دائمة ما دامت الأرض ساكنة والفلك دوارا (1).
وبعد فيقول المفتقر إلى رحمة ربه الغني حسام الدين محمد صالح بن أحمد المازندراني: إني قد رسمت على جميع أبواب الكافي تعليقات، ورقمت على جميع فنونه تحقيقات، مع قلة البضاعة في هذه الصناعة وتشتت البال وتفرق الحال فلما أردت جمعها وتدوينها خطر ببالي أن أشرح جميع أحاديث هذا الكتاب شرحا متوسطا بين الايجاز والاطناب; لأن الأحاديث وإن كان بعضها ظاهر الدلالة على المعنى المراد واضح الإشارة على المفهوم المستفاد، لكن قد يوجد فيه من الفرائد النفيسة والفوائد الشريفة ما لا يدركه بدء النظر، ولا يبلغه أول الفكر، كم من لئالي فريدة تؤخذ في الساحل لغفلة الواردين عنها، وعدم التفات الطالبين إليها، فها أنا أشرع في المقصود بعون الله الملك المعبود مبتدئا بشرح الخطبة لما فيها من منافع الحكمة.
* الأصل بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله المحمود لنعمته، المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى، ودنا فتعالى، وارتفع فوق كل منظر، الذي لا بدء لأوليته، ولا غاية لأزليته، القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها، والقاهر الذي لا يؤوده حفظها، والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه، اخترع الأشياء إنشاء، وابتدعها ابتداء (2) بقدرته وحكمته لا من شئ فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداء، خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لاظهار حكمته،
পৃষ্ঠা ১৭
وحقيقة ربوبيته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار، وضل فيه تصاريف الصفات، احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير روية، ووصف بغير صورة ، ونعت بغير جسم، لا إله إلا الله الكبير المتعال» * الشرح:
أبتدأ باسمه الحميد مقتديا بالسلف وبالقرآن المجيد ومعتمدا بما قاله سيد البشر «كل أمر ذي بال لم يبدء فيه باسم الله فهو أبتر» وفي ذكر الاسم إيماء إلى أن المراد بهذه الأسماء الشريفة المسميات وأن الاستعانة في الاستفاضة وقعت بأسمائها، لأن لتلك الأسماء من الشرف والكمال ما لا يعرف قدره الغواصون في بحار آثارها والوصافون بشرح منافعها وأسرارها، على أن الاستعانة بالاسم تدل على الاستعانة بالمسمى قطعا دون العكس، وإنما خص هذه الأسماء بالذكر لأنها أصل لأصول الفيض عاجلا وآجلا. ومبدئا بحصول الرجاء ظاهرا وباطنا.
(الحمد لله) اختلفوا في تحديد الحمد والأحسن ما ذهب إليه بعض المحققين من الصوفية ومال إليه المحقق الشريف العلامة الدواني، وهو أن الحمد إظهار صفات الكمال بالقول أو بالفعل، والثاني أقوى من الأول; لأن الأفعال التي هي آثار السخاوة مثلا تدل عليها دلالة عقلية قطعية لا يتصور فيها التخلف بخلاف الأقوال فان دلالتها عليها وضعية وقد يتخلف عنها مدلولها، وعلى هذا كان حمده تعالى على ذاته حمدا على سبيل الحقيقة، بل هو من أفضل أفراده لأنه تعالى كشف عن صفات كماله ببسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى، ووضع عليها موائد كرمه التي لا تتناهى، إذ كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارات مثل هذه الدلالات. وما اشتهر من أن الحمد في اللغة الثناء باللسان على الجميل، وفي العرف أعم منه ومن عقد الجنان وفعل الأركان، فهو باعتبار أن هذه الأمور من الأفراد الشايعة لذلك المفهوم، لا أن الحمد مختص بها كما فهمه الأكثر وحكموا بأن حمده تعالى على ذاته مجاز، واللام في «الحمد» للجنس أو الاستغراق وفي «لله» للاختصاص يعني أن جنس الحمد أو جميع أفراده مختص به سبحانه وبينهما تلازم، وصح ذلك لأنه تعالى مبدء كل كمال ومرجع كل جلال.
(المحمود بنعمته) للحمد أركان أربعة: الحامد، والمحمود، والمحمود به والمحمود عليه. والأولان قد يتحدان بالذات كحمده تعالى على ذاته ، وقد يتغايران كحمدنا له تعالى، وكذا الأخيران كحمده تعالى بالنعمة لأجلها. وحمده بالعلم لأجل إنعامه. إذا عرفت هذا فنقول: النعمة في قوله: «بنعمته» إما محمود عليها إن كانت الباء سببا للحمد أو محمود بها إن كانت صلة له، ولا يلزم من
পৃষ্ঠা ১৮
الحمد بها أن يكون الحمد لأجلها; لجواز أن يكون لأجل غيرها، كما إذا حمدت زيدا بالشجاعة لأجل سخاوته. وفي بعض النسخ «لنعمته» باللام وهو يؤيد الأول كما يؤيده نظيره في القرينة الثالثة.
لا يقال: لا يصح جعل الحمد للنعمة علة للحمد على ما يقتضيه قاعدة التعليق بالوصف; لأنه من باب تعليل الشئ بنفسه.
لأنا نقول: على تقدير اطراد تلك القاعدة الحمد لأجل النعمة بمنزلة العلة الغائية لجنس الحمد فيصح أن يجعل علة له. وإنما ابتدأ بعد التسمية بالحمد لحفظ ما أدرك من آلائه، وجلب ما يترقب من نعمائه، مع أنه من أفضل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جماله وجلاله ويراعي إحسانه وإفضاله فيكون ذلك سببا لمزيد امتنانه حالا ورضوانه مآلا.
(المعبود لقدرته) قدم الحمد للنعمة على الحمد للقدرة مع أن القدرة من الصفات الذاتية التي هي أجدر بالثناء عليها; لأن النعمة قد وصلت إلى الحامد بخلاف القدرة فان الواصل إليه إنما هو أثره، فالنعمة أولى بالحمد لها بهذا الاعتبار ولقد أحسن في جعل النعمة سببا لمحموديته والقدرة سببا لمعبوديته، لأن نعمته الواصلة إلى الغير توجب الحمد من حيث هو وقدرته على جميع الممكنات توجب العبادة والتذلل لله تعالى.
(المطاع في سلطانه) السلطان التسلط والقهر أو الحجة والبرهان، وقد فسر بهما قوله تعالى:
(فقد جعلنا لوليه سلطانا) والله سبحانه مطاع بالمعنيين لكونه قاهرا على جميع الممكنات فيطيعه كل ما كان في عنقه ربقة الامكان، وينقاد له كل من احتجب عن الحس أو يشار إليه بالبنان، لا يقدر شئ أن يتجاوز عن حده المقدر وكماله المقرر بالأمر المبرم والقضاء المحكم، وغالبا على جميع المخلوقات بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة، فلا يتمكن أحد أن يرد حجته وبرهانه ويمنع دليله وفرقانه، ولفظ «في » إما للظرفية أو للسببية والثاني أولى بالنظر إلى السابق واللاحق، واستعمالها فيه شايع حتى قيل: إنها حقيقة فيه.
(المرهوب لجلاله) قال في المغرب رهبه: خافه رهبة، والله مرهوب، ومنه «لبيك مرهوب ومرغوب إليك» ويفهم منه أن مرهوبا متعد بنفسه، والذي يفهم من كلام ابن الأثير في النهاية أنه متعد بمن، وعلى هذا حذف «من» للاقتصار كما هو المتعارف، واللام لأن من عرف عظمته وجلاله ولاحظ غناه عن الخلق وكماله وعلم أن كل موجود بأسره مقهور تحت حكمه وأمره، وهو يتصرف فيه ما يشاء كيف يشاء، ويحكم ما يريد كيف يريد، ولا يسئل، حصلت له بذلك رهبة وخوف يتحير فيه العقول حيث رأى نفسه عارية عن الاختيار في الرد والقبول كما هو المعروف من أحوال الأنبياء والصلحاء وبه يظهر سر قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
পৃষ্ঠা ১৯
(المرغوب إليه فيما عنده) من النعم الدنيوية والاخروية جليها وخفيها يقال: رغب فيه وإليه إذا أراده وطمع فيه وحرص عليه. الرغبة السؤال والطلب، وإنما عقب بالرهبة الرغبة للتنبيه على وجوب مقارنتهما في التحقق، إذ لا خير في رهبة بلا رغبة، ولا رغبة بلا رهبة، بل وجب تقارنهما وتساويهما كما دل عليه بعض الأخبار ويرشد إليه قوله تعالى في وصف الأنبياء والأولياء (إنهم يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) وقوله تعالى: (وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين) وإنما ترك سبب الرغبة للإشارة إلى أن ذاته بذاته هو الجواد المطلق، فلا حاجة في بسط الرجاء إلى ملاحظة شئ آخر غير ذاته أو لاندراج سببها تحت سبب الرهبة لأن جلالته المطلقة كما يكون بالقهر والغلبة على ما عداه ممن اتصف بسمة الامكان كذلك يكون بالرحمة واللطف والاحسان; إذ لولا الثاني لكانت عظمته وجلالته مقيدة بوجه من الوجوه فحينئذ نقول من ملاحظة الأول تحصل الرهبة ومن ملاحظة الثاني تحصل الرغبة، ولا يجوز ملاحظة أحدهما وحده، لأنه يستلزم القنوط أو الجرأة وكلاهما مذموم، أو نقول في كل واحد من الأول والثاني تحصل الرهبة والرغبة جميعا، أما في الأول فلأن لطفه مستور في قهره فمن حيث القهر تحصل الرهبة ومن حيث اللطف تحصل الرغبة، واليه يشير قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) وأما في الثاني فلان قهره مستور في لطفه وإحسانه لاحتمال أن يكون ذلك على سبيل الاستدراج، وإليه يشير قوله تعالى حكاية عن سليمان (عليه السلام) (ليبلوني ءأشكر أم أكفر) وقوله تعالى: (ولئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وبالجملة هو مرهوب ومرغوب إليه دائما، والعبد راغب وراهب في جميع الأحوال واليه يشير قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «هو المأمول مع النقم والمرهوب مع النعم» (1).
(النافذ أمره في جميع خلقه) أي أمر التكوين، أو أمر الافناء والإعدام، أو حكم القضاء، أو أمر التشريع بإرادة لازمة من الثواب والعقاب دون ظاهره بأنه متعلق بالثقلين منهم من أطاعه ومنهم من عصاه.
(علا فاستعلى) الاستعلاء هنا لزيادة المبالغة أي علا في رتبته عن رتبة المخلوقين، فاستعلى عن التشبه بصفاتهم، والتفريع ظاهر لأن الأول مستلزم للثاني، وإن أردت زيادة توضيح فنقول: العلو يطلق بالاشتراك على معان ثلاثة:
الأول الحسي كالعلو بحسب المكان. الثاني التخيلي كعلو الملك على رعيته. والثالث العقلي
পৃষ্ঠা ২০
كعلو السبب على المسبب، والأول محال في حقه تعالى لاستحالة كونه في المكان، وكذا الثاني لتنزهه عن الكمالات الخيالية إذ هي إضافية تتغير وتدرك بحسب الأشخاص والأوقات، ولا شئ من كماله كذلك فبقي أن يكون عقليا مطلقا بمعنى أنه لا رتبة تساوي رتبته.
بيان ذلك: أن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبة العلية ولما كان ذاته المقدسة هي مبدء كل موجود حسي وعقلي وعلته التي لا يتصور فيها النقصان بوجه من الوجوه لاجرم كانت مرتبته أعلى المراتب العقلية على الاطلاق وله العلو في الوجود العاري عن الإضافة إلى شئ، وعن إمكان أن يكون في مرتبته أو فوق مرتبته شئ ومن كان كذلك فهو منزه عن التشبه بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(دنا فتعالى) أي قرب من كل شئ من كل وجه بحيث لا يكون شئ أقرب منه فتعالى أن يكون في مكان أو زمان أو مدركا بالبصر أو بغيره من الحواس، والتفريع أيضا ظاهر لأن الزماني والمكاني والمدرك بالحواس يمتنع أن يكون قريبا من كل شئ لظهور أن قربه من أحد مستلزم لبعده عن الآخر، ثم الدنو يطلق على معان ثلاثة ومقابلة لمعاني العلو ولا يجوز أن يراد هنا شئ منها، ويطلق على معنى رابع في مثل قولك فلان أدنى إلى فلان إذا كان مطلعا على أحواله أكثر من غيره، وهو المراد هنا، فدنوه في قربه إذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، فهو أدنى من كل دان، وأقرب من كل قريب بهذا الاعتبار، كما قال سبحانه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).
(وارتفع فوق كل منظر) الظرف حال من فاعل «ارتفع». ويجوز أن يراد بالمنظر العلة لأن نظر المعلول إليها، يعني أنه فوق كل علة لأن تاليه نظر جميع الكائنات وانتهاء سلسلة جميع الممكنات، وأن يراد به المدرك بالعقل يعني أنه فوق كل ما أدرك العقل لأن كل ما أدركه العقل فهو صورة ومثال يمتنع أن يقال: إنه هو، ويحتمل أن يكون هذا الكلام على سبيل التمثيل والله أعلم.
(لا بدأ لأوليته) لاستحالة الحدوث عليه. (ولا غاية لأزليته) لاستحالة العدم عليه. (القائم قبل الأشياء) أي قبل كل واحد منها، لأنه كان ولم يكن معه شئ ثم أحدثه بمجرد حكمته فهو متفرد بالقدم، وفيه رد على بعض الفلاسفة، وليس المراد بالقبلية القبلية الزمانية حتى يلزم أن يكون في زمان وأن لا يكون متقدما عليه، لأن القبلية الزمانية إنما يكون في الزمانيات كما بين في موضعه والله سبحانه ليس بزماني.
(والدائم الذي به قوامها) قوام الشئ - بالكسر -: نظامه، وتقديم الظرف للحصر; وفيه رد على من أسند نظام هذا العالم إلى غيره كالدهرية والمبتدعة من الفلاسفة وأضرابهم.
পৃষ্ঠা ২১
(والقاهر الذي لا يؤوده حفظها) آدني الحمل يؤودني أودا، أي أثقلني، وأنا مؤود مثال مقول.
يعني لا يثقله ولا يتعبه حفظه للأشياء مثل السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما لأن فعله سبحانه بمجرد الإرادة والمشيئة ولا يحتاج فيه إلى استعمال الآلات وتحريك الجوارح كما يحتاج إليهما أصحاب الصنايع فلا مدافع له في فعله أصلا فلا يلحقه الانفعال، ولا يعرض له الثقل والتعب والكلال. تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
(والقادر الذي بعظمته تفرد بالملكوت، وبقدرته توحد بالجبروت) القادر من أسمائه تعالى ومعناه المتمكن من جميع الأشياء بحيث لا تطيق شئ منها الامتناع عن مراده ولا يستطيع الإباء عن إصداره وإيراده. وله في هذا النحو من التمكن وصفان: الأول الكبرياء والعظمة، والثاني القدرة التامة، و «الملكوت» فعلوت من الملك - بالكسر - وهو الموضع كالمملكة وخص بعد الزيادة بملك الله تعالى سواء كان من عالم المجردات والمفارقات أو من عالم الجسمانيات والمقارنات، ولو اجتمع الملك والملكوت كما في قولهم «يا ذا الملك والملكوت» يراد بالملك الجسمانيات وبالملكوت المجردات.
«والجبروت» من الجبر وهو إغناء رجل من فقر ونحوه أو إصلاح عظمه من كسر ونحوه، ومنه الجبار من أسمائه تعالى لأنه يغنى من يشاء متى يشاء ويجبر مفاقر الخلق ويكفيهم أسباب المعاش والرزق ويصلح نقائص حقائق الممكنات بإفاضة الوجود وما يتبعه من الخيرات والكمالات وهو أيضا خص بعد الزيادة بالله سبحانه. والمقصود أنه تعالى شأنه بالوصف الأول تفرد بمالكية جميع الأشياء من الممكنات المجردة والمادية، لأن العظمة المطلقة مقتضية لعدم المشاركة، وأما المالك غيره فانما هو مالك بالإضافة وله عظمة بالإضافة، وهي عند ذاتها بذاتها ليست عظمة بل هي عجز وقصور. وبالوصف الثاني تفرد بايجاد الممكنات وإصلاحها وتكميلها بإفاضة ما يليق بها من الكمالات وإفنائها متى يشاء، من غير معارض ولا مدافع لأن القدرة الكاملة الإلهية توجب عدم مشاركة الغير معه في شئ من ذلك فكل شئ مملوك له منقاد لأمره، وكل كامل مستكمل به مفتقر إليه، وهو الغني الحميد.
(وبحكمته أظهر حججه على خلقه) الحكمة العلم والاتقان; والله سبحانه حكيم لأنه عالم بحقائق الأشياء متقن بخلقها بلطف التدبير وحسن التصوير والتقدير. و «الحجج» جمع الحجة والمراد بها هنا البرهان، يعني أنه سبحانه بحكمته البالغة أظهر براهين وجوده ووحدته وقدرته وساير كماله على خلقه بايجاد الممكنات وتصوير المخلوقات على النظام المشاهد، ويحتمل أن يراد باظهار الحجج نصب الأنبياء والأوصياء إلا أنه يوجب التكرار فيما سيأتي.
(اخترع الأشياء إنشاء وابتدعها ابتداء بقدرته وحكمته) لا أجد لأهل اللغة فرقا بين الاختراع
পৃষ্ঠা ২২
والابتداء. قال الجوهري: «ابتدعت الشئ اخترعته لاعلى مثال» ولا بين الانشاء والابتداء قال:
«أنشأ يفعل كذا ابتدأه» لكن الظاهر من كلام المصنف أن الاختراع هو الايجاد لا من شئ والابتداء هو الايجاد لا من علة كما ستعرفه. وقيل: الانشاء هو الايجاد الذي لم يسبق غير الموجد إلى إيجاد مثله، والابتداء هو الايجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله. وقوله: «إنشاء» و «ابتداء» مفعول مطلق من باب جلست قعودا لتأكيد الفعلين. أو تمييز لنسبتهما إليه، وقوله: «بقدرته وحكمته» متعلق بالفعلين على الترتيب المذكور أو بكل واحد منهما.
(لا من شئ فيبطل الاختراع) يعني اخترع الأشياء بقدرته لا عن أصل ومثال، إذ لو أوجدها عن مثال لبطل الاختراع لأنه في إيجاد ذلك المثال يحتاج إلى مثال آخر وهكذا، وبطلان الاختراع يستلزم عدم القدرة على وجه الكمال كما يشاهد في الكاتب المحتاج في كتابته إلى أصل منتسخ فإنه بدون ذلك الأصل عاجز عن الكتابة.
(ولا لعلة فلا يصح الابتداع) يعني ابتدع الأشياء لا لعلة مادية أو لا لعلة فاعلية متوسطة بينه وبينها وإلا لبطل معنى الابتداع، لأنا ننقل الكلام إليهما فيتسلسل، أو لا لعلة غائية تعود إليه وإلا لكان ناقصا في ذاته وصفاته والناقص لا يخترع شيئا من غير حاجة إلى شئ أصلا. وقيل: لا لعلة غائية (1)، ويكون هذا إشارة إلى نفي الغرض والعلة الغائية عن فعله تعالى بالكلية كما ذهب إليه طائفة وإلا لكان ناقصا في فاعليته مستكملا فيها بذلك الغرض، والناقص لا يصلح للاختراع، أما الشرطية فلأن الغرض يجب أن يكون أصلح للفاعل من عدمه إذ ما استوى وجوده وعدمه بالنظر إليه أو كان عدمه راجحا لا يكون باعثا على الفعل بالضرورة، فكل ما كان غرضا وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل وأليق به وهو معنى الكمال، فإذن يكون الفاعل مستكملا به ناقصا بدونه.
أقول: الغرض عائد إلى الغير ووجوده وعدمه سواء بالنظر إليه سبحانه لتنزهه عن عود المنفعة أو المضرة إليه، وعدم كونه حينئذ باعثا على الفعل ممنوع، ودعوى الضرورة في محل النزاع لا يجدي نفعا، والمسألة محلها علم الكلام.
(خلق ما يشاء كيف شاء) يعني أنه خلق الأشياء على الوزن والتقدير والأحوال اللائقة بها لمشيئته وإرادته، لا بالايجاب، ولا بتحريك الآلة والجوارح، ولا بتوسط اللفظ والصوت لأن ذلك من
পৃষ্ঠা ২৩
خواص الجسم والجسمانيات.
(متوحدا بذلك) بالنصب على أنه حال من فاعل خلق، يعني خلق ما شاء حال كونه متوحدا بالذات والصفات بخلقه وإيجاده، غير مستعين أصلا لا بذات آخر ولا بصفات زائدة عليه وإلا لكان ناقصا لاحتياجه في الايجاد إلى الغير.
(لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته) يعني خلق ما شاء على النظام العجيب والصنع الغريب الذي يتحير فيه عقول العقلاء وفحول العلماء; لاظهار علمه وحكمته وحقيقة ربوبيته التي كانت في مكمن الخفاء كما قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف» (1).
(لا تضبطه العقول) أي لا تضبط شرح حقيقة ذاته ولا ماله من كمال صفاته عقول العارفين، لأنه تعالى في علو الذات وارتفاع الصفات إلى حيث يقف دون بلوغه عقول أهل العرفان وأذهان أهل الايقان; وإنما يعرفونه بنحو خاص من المعرفة اليقينية التي هي غاية الوسع للعقول البشرية، ولأنه لا حد لحقيقته لأنه بريء عن أنحاء التركيب الخارجية والعقلية فهي منزهة (2) عن اطلاع العقول عليها، ولا نهاية لصفاته يقف عنده تقدر بها، فلا يكون العقول محيطة ضابطة إياها.
(ولا تبلغه الأوهام) لأنه تعالى ليس بمحسوس والوهم لا ينال إلا المحسوسات.
(ولا تدركه الأبصار) لأن البصر إنما يدرك اللون والضوء وما تتبعها من الجسمانيات والله سبحانه منزه عن الجسمية ولواحقها.
(ولا يحيط به مقدار) لأن المقدار من لواحق الجسمية وأيضا ما يقبله يقبل التحيز والقسمة والزيادة والنقصان ولا يجري شئ من ذلك عليه سبحانه.
(عجزت دونه العبارة، وكلت دونه الأبصار) «دون» ظرف نقيض «فوق» وهو يقصر عن الغاية، والكلال الأعياء يقال: كلت العين إذا أعيت عن الادراك وعجزت عنه، و «الأبصار» بالفتح جمع البصر يعني عجزت قبل بلوغ صفاته عبارة الواصفين، وأعيت قبل بلوغ ذاته أبصار الناظرين، كما أشار إليهما في الصحيفة السجادية على صاحبها أفضل الصلوات وأكمل التحيات «الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».
(وضل فيه تصاريف الصفات) ضل الشئ يضل: ضاع، والضلال ضد الرشاد، والمعنى ضل في طريق صفاته الحقة تصاريف صفات الواصفين، وأنحاء تعبيرات العارفين، يعني أنهم وإن بالغوا في
পৃষ্ঠা ২৪
التوصيف (1) وانتقلوا من صفة إلى ما هو أشرف وأعظم عندهم، لم يصفوه بما هو وصفه، ولم ينعتوه بما هو حقه، ولم ينالوا حقيقة صفاته على وجه يليق بذاته. وذلك لأن تصاريف الصفات والنقل من بعضها إلى بعض إنما هو من خواص الممكنات التي يتصور فيها الزيادة والنقصان والله سبحانه منزه عنها. وأيضا لسان التعبير إينما يخبر عما في الضمير، وكل ما هو في الضمير مخلوق مثله كما دل عليه قوله: «كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مصنوع مثلكم مردود إليكم»، وقال بعض العارفين:
هر چه پيش تو بيش از آن ره نيست * غايت وهم تو است الله نيست لا يقال: إذا كان الأمر كذلك لم يكن ثناؤه مقدورا لنا فكيف وقع التكليف به؟ لأنا نقول: لم يقع التكليف بمعرفة كنه الصفات الكمالية والثناء بها لأن ذلك محال، بل التكليف إنما وقع بالثناء عليها بمفهومات كلية حاصلة في الذهن صادقة عيها، فتلك الصفات الكمالية إنما هي معقولة بعنوانات هي مفهوماتها ومعبر عنهما بهذه المفهومات والعنوانات لا بالكنه، وإدراكها بالكنه مختص به سبحانه، ولذلك قال (صلى الله عليه وآله) «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (2)» أو المعنى ضل في الوصول منتهى بسيط بساط ثنائه وإحصائه أقدام تصاريف صفات الواصفين لأنها كلما بلغت مرتبة من مراتب المدح والتكريم كان وراءها أطوار من استحقاق الثناء والتعظيم. وانطباق الحديث المذكور عليه ظاهر.
(احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور) أي: احتجب عن العقول واستتر عن الأبصار والحجب لغة: المنع، ومنه حاجب العين لأنه يمنعها من الأذى، وحاجب الملك لأنه يمتنع من الناس والخلق ممنوعون من إدراك ذاته سبحانه عينا وعقلا، ويسمى ذلك المنع حجابا مستورا، ثم الحجاب والستر بهذا المعنى ليسا وصفين لأمر حائل بين العقول والأبصار وبين ذات الباري لأن ذلك الحائل إما حسي كالأجسام الحائلة بين الرائي والمرئي أو عقلي كالعوائق الواسطة بين الصور العقلية والعقول، والحجب الحسية إنما تحجب الجسم والجسمانيات المحدودة المستترة بها، والحجب العقلية إنما تحجب الصور; والله تعالى شأنه ليس بجسم ولا جسماني ولا صورة، وإلى نفي هذين النوعين من الحجاب أشار بقوله «بغير حجاب محجوب» و «بغير ستر مستور» لدفع توهم أن الاحتجاب والاستتار هنا كما في أكثر الموجودات بالحجاب والساتر ة وهذا التركيب يحتمل وجهين: الأول أن يكون «محجوب» خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق به أي هو محجوب بغير حجاب بالمعنى المتعارف في أكثر الموجودات، والجملة مستأنفة لدفع ذلك التوهم
পৃষ্ঠা ২৫
الناشئ من قوله: «احتجب». الثاني أن يكون مضافا إليه والإضافة بتقدير اللام والنفي راجع الحجاب والمقصود أن حجابه ليس بالمعنى المتعارف بل لتعاليه عن إدراك القوة البشرية إياه وهذا الاحتمال بعيد جدا، ويخطر بالبال أيضا معنى آخر لهذا الكلام وظني أنه أولى بالإرادة منه وهو أنه لما قال: «احتجب» توهم منه أن حجابه غليظ ثخين كثيف مانع من إدراك وجوده وصفاته تعالى شأنه بالكلية فدفع ذلك التوهم بقوله: «بغير حجاب محجوب» صفة لحجاب والمقصود أن احتجابه ليس بحجاب محجوب بحجاب آخر بأن يكون غليظا أو يكون بعضه فوق بعض آخر مانعا من مشاهدته. نظير ذلك قوله تعالى: (حجابا مستورا) قال الجوهري في تفسيره أي حجابا على حجاب، والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب. وهذا المعنى رقمته سالف الزمان ورأيت الآن حين التحرير أنه سبقني إليه سيد الحكماء الإلهيين (1) حيث قال: هذا من باب «حجابا مستورا» أي حجابا على حجاب.
(عرف بغير روية) «عرف» مبني للمفعول، الروية - بفتح الراء وكسر الواو وشد الياء - التفكر والنظر يعني عرف وجوده من غير نظر واستدلال لأنه بديهي كما صرح به بعض المحققين، أو لأن الاستدلال لا يفيد معرفته بخصوصه; لأن اللمي غير ممكن أو ليس له علة والإني لا يفيد لأنه استدلال من الأثر والأثر لا يفيد إلا مؤثرا ما على وجه كلي لا مؤثرا معينا، فمعرفته بالحقيقة ليس إلا بالمشاهدة الحضورية كما هي لبعض الكاملين. وفي بعض النسخ «رؤية» بضم الراء والهمزة الساكنة يعني عرف بغير إبصار كما قال سبحانه: (لا تدركه الأبصار) وهو تأكيد للسابق.
(ووصف بغير صورة) أي وصف بغير صفة فإنه وصف بأنه قادر بغير قدرة قائمة بذاته وكذلك وصف بأنه سميع بصير عالم حكيم لطيف خبير إلى غير ذلك، وليس هناك صورة وصفات زائدة على الذات وإطلاق الصورة على الصفة شايع أو وصف بغير حد، إذ كل ما وصف بحد لا بد أن يكون له مهية كلية مركبة من جنس وفصل وإذ ليس له تعالى شأنه شئ من أنحاء التركيب لا يجوز أن يوصف بالحد.
(ونعت بغير جسم) أي نعت بأنه مغاير بجسم وجسماني أي بأمر مغاير لهما بحدوثهما وتحيزهما وهو منزه عنهما، ولما ذكر حمده تعالى على وجه يشعر بالاختصاص وكان ذلك مفيدا لتفرده بالالهية وذكر أيضا تفرده بالملكوت والجبروت وبخلق الأشياء إلى غير ذلك من صفات المدح والتكريم المفيدة لتفرده بالثناء والتعظيم أراد أن يصرح بالمقصود لأنه كالنتيجة لما مر فقال:
(لا إله إلا الله الكبير المتعال) أي العظيم لا بالكم والمقدار، بل بالرتبة والرفعة، لأن ذاته المقدسة
পৃষ্ঠা ২৬
مبدء كل موجود، ومنتهى كل مقصود، المتعال عن التشابه بالخلق. هذه الكلمة الطيبة أشرف كلمة وحد بها الخالق عز اسمه وهي منطبقة على جميع مراتب التوحيد، وقد سميت فاتحة الإسلام.
ونقل عن بعض العلماء أن الله سبحانه جعل عذابه نوعين أحدهما السيف في يد المسلمين والثاني عذاب الآخرة، فالسيف غلاف يرى والنار في غلاف لا يرى فقال تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) من أخرج لسانه من الغلاف المرئي وهو الفم فقال «لا إله إلا الله» أدخلنا السيف في الغمد المرئي، ومن أخرج لسان قلبه من الغلاف الذي لا يرى وهو غلاف الشرك فقال: «لا إله إلا الله» أدخلنا سيف عذاب الآخرة في غمد الرحمة واحدة بواحدة جزاء ولا ظلم اليوم.
* الأصل:
«ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته لا يبلغه حد وهم، ولا يدركه نفاذ بصر، وهو السميع العلم، احتج على خلقه برسله، وأوضح الأمور بدلائله، وابتعث الرسل مبشرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه، ويوحدوه بالالهية بعد ما أضدوه، أحمده حمدا يشفي النفوس; ويبلغ رضاه، ويؤدي شكر ما وصل إلينا من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء».
* الشرح:
(ضلت الأوهام عن بلوغ كنهه) إشارة إلى نفي الحد عنه لانه تعالى ليس بمركب وكل ما ليس بمركب لا يمكن إدراك كنه حقيقته بالحد. أما الصغرى فلان كل مركب محتاج إلى الجزء الذي هو غيره، وكل محتاج إلى الغير ممكن لأن ذاته بذاته من دون ملاحظة الغير لا يكون كافيا في وجوده وإن لم يكن فاعلا له خارجا عنه، وأما الكبرى فلأن إدراك كنه الحقيقة إنما يكون من الحد المؤلف من أجزائها كما بين في موضعه والله سبحانه منزه عن أن يكون لكنهه أجزاء.
(و ذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته) يمكن أن يراد بالغاية المسافة ونهاية الشئ آخره، فالإضافة لامية ويمكن أن يراد بها النهاية. قال الجوهري: «النهاية: الغاية» فالإضافة بيانية. وإنما لا تبلغ العقول غاية نهايته لأنه لا نهاية له، إذ ليس له طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد ونهاية، وأيضا لا يطرء عليه العدم، «فهذا الكلام مثل قول العرب «لا يرى بها ضب ينجحر» أي ليس بها ضب فضلا عن أنه ينجحر.
لا يقال: ذهول العقول عن البلوغ أي نسيانها عنه يشعر بإمكان البلوغ في نفسه.
لأنا نقول: الذهول عن الشئ يستلزم عدم حصول ذلك الشئ والمراد هنا هذا اللازم على سبيل الكناية على أن ذلك الاشعار ممنوع ألا ترى أن غفلتنا عن وجود شريك البارىء لا يستلزم وجوده.
পৃষ্ঠা ২৭
(ولا يبلغه حد وهم) أي منتهاه لأن كل ما بلغه الوهم فهو ممكن ولا سبيل للإمكان في ساحة جنابه، وأيضا الوهم إنما يلحق بالمادي ويتعلق بأمور محسوسة ذات صور وأحيان حتى أنه لا يقدر نفسه ولا يدركها إلا ذات مقدار وجسم، والله سبحانه منزه عن المادة.
(ولا يدركه نفاذ بصر) قال الجوهري: «نفذ السهم من الرمية (1) ونفذ الكتاب إلى فلان، ورجل نافذ في أمره أي ماض» ونفاذ البصر بكل واحد من هذه المعاني محال على الله سبحانه، أما الأول فلأن شعاع البصر إنما ينفذ في جسم شفاف، وهو سبحانه ليس بجسم ولا شفاف، وأما الأخيران فلاستحالة أن يدرك سبحانه بحاسة البصر لأنه غير ذي وضع وكل غير ذي وضع يمتنع رؤيته، والمقدمة الأولى استدلالي والثانية ضرورية، وربما استدل عليها والمسألة مستقصاة في علم الكلام، ثم الظاهر من هذه المعاني هو الأول لأن الأخيرين قد ذكرهما سابقا.
(وهو السميع العليم) يعنى أنه السميع لا بآلة السمع، والعليم لا بعلم زائد عليه، لأنهما من صفات خلقه، بل هما عبارتان عن عدم خفاء المسموعات والمعلومات وإن كانت خفية دقيقة عند ذاته بذاته حتى يعلم كفر من كفر وإيمان من آمن. (و هو عليم بذات الصدور) والجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد.
(احتج على خلقه برسله) ليهدوهم إلى معرفة ذاته وصفاته، وحشره ونشره وثوابه عقابه وربوبيته، ومعرفة ما به يتم نظامهم في الدين وكمالهم في النشأتين; ويجذبوهم عن مقتضيات نفوسهم من اتباع الشهوات الباطلة واقتفاء اللذات الزائلة بتذكيرهم لما في الدار الباقية وتنفيرهم عن خسائس هذه الدار الفانية لئلا يكون لهم على الله حجة بعد الرسل.
(و أوضح الأمور بدلائله) أي أوضح أمور الرسل وحقية رسالتهم وشرايعهم بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة لتقريب الخلق إلى التصديق وتبعيدهم عن التكذيب أو أوضح الشرايع بالرسل وأوصيائهم (عليهم السلام) أو أوضح وجود ذاته وكمال صفاته مثل العلم والقدرة وغيرهما بنصب سماء ذات أبراج وأرض ذات مهاد غير ذلك من الآثار الدالة على صدورها من العزيز الجبار، ولما كان الرسل علماء وحكماء يحملون الخلق على الطريقة الإلهية من معرفة أحوال المبدء أو المعاد وما يتبعهما من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة على حسبما يقتضيه الحكمة، وذلك قد يكون بالتذكير والتنبيه كما أشرنا إليه، وقد يكون بالتبشير والتهديد وهذا مما يحتاج إليه أكثر الناس لأن طبايعهم مثل طبايع الأطفال في الميل إلى الظاهر من الحياة الدنيا وزهراتها فيحتاجون في الميل إلى الخيرات والزجر عن المنهيات إلى الوعد الوعيد، أشار إليهما بقوله:
পৃষ্ঠা ২৮
(وابتعث الرسل) بعثهم وابتعثهم بمعنى أرسلهم (مبشرين) للخلق بما أعد الله للمطيع من الثواب العظيم (ومنذرين) لهم بما أعد الله للعاصي من العذاب الأليم وبذلك يجذبونهم عن طريق الغواية ويرشدونهم إلى سبيل الهداية، وأما من أخذت يده العناية الأزلية وتنور قلبه من المشكاة النبوية فإنه يعلم أنه لولا الثواب والعقاب لاستحق سبحانه التوصل إليه بذاته والتذلل له طلبا لمرضاته (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) تضمين للآية الكريمة وإشارة إلى غاية الاحتجاج والإبتعاث قال القاضي (1): والمعنى ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة. فإن الاحتجاج بالرسل ابتعاثهم وتصديقهم بالمعجزات من البينات الواضحة، أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام. المراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه، وقيل: يحتمل أن يكون هذا من باب المجاز المرسل لأن الكفر سبب للهلكة الحقيقية الأخروية، والايمان سبب للحياة الحقيقية الأبدية فأطلق المسبب على السبب مجازا.
(وليعقل العباد عن ربهم) بتذكير الرسل وتعليمهم (ما جهلوه) من أحوال المبدء والمعاد (فيعرفوه بربوبيته بعدما أنكروه) لغفلتهم عن العهود الإلهية والمواثيق الربانية ونبذ طاعته وترك عبادته كأن لم يكن شيئا مذكورا.
(و يوحده بالالهية بعد ما أضدوه) بالتشريك وعبادة الأصنام. للوساوس الشيطانية وتخيلات الأوهام.
توضيح ذلك: أن المعرفة هي إدراك الشئ، ثانيا بعد توسط الجهل، والعباد قد أقروا له بالربوبية وهم في صورة الذر حين قال: (ألست بربكم قالوا بلى) لشهادة عقولهم الخالصة عليها. ثم جهلوا ذلك وأنكروه لتعلقهم بالعلائق الجسمانية، وتشبثهم بالتسويلات النفسانية، وتمسكهم بالتخيلات الشيطانية; فبعث الله تعالى رسله رحمة منه وتفضلا لتعليمهم وتذكيرهم، فمن ضل بعد ذلك فقد غوى ومن آمن فقد اهتدى، ولما حمد سابقا ذاته تعالى لأجل نعمته وقدرته وغيرهما من الصفات المذكورة أراد أن يحمده ثانيا على نعمائه المتجددة آنا فآنا على سبيل الاستمرار التجددي فأتى بالجملة الفعلية رعاية للتناسب فقال: (أحمده) أي أحمده آنا فآنا وساعة فساعة، ولما كان الحمد من أجل الطاعات وأكمل العبادات إذ الحامد يلاحظ جلالا وجمالا ومنعما، وإطاعة دواء الأمراض النفسانية على حسب تفاوت مراتبها في الاخلاص كما قال سبحانه: (إن الحسنات يذهبن السيئات) والدافعة لجميع الأمراض هي المرتبة القصوى من مراتب الاخلاص قيده بقوله: (حمدا
পৃষ্ঠা ২৯
يشفي النفوس) طلبا لتلك المرتبة ورجاء لحصولها، ثم لما كان شفاء النفس من جميع الأمراض سببا لرضاه حالا ومآلا عقبه بقوله (و يبلغ رضاه) الموجب لمزيد امتنانه في الدنيا ورضوانه في الآخرة، ثم مفهوم الحمد وإن كان مغايرا لمفهوم الشكر لكنهما قد يصدقان على فرد ما، فوصف الحمد بقوله: (و يؤدي شكر ما وصل إلينا) حصرا للحمد هنا في ذلك الفرد لأنه أفضل أفراده وأكملها ثم بين الموصول بقوله: (من سوابغ النعماء، وجزيل الآلاء، وجميل البلاء) هذه التراكيب من باب جرد قطيفة، والمراد بسوابغ النعماء: النعماء الكاملة الوافية الواسعة; قال الجوهري: «شئ سابغ أي كامل واف وسبقت النعمة تسبغ بالضم سبوغا اتسعت وأسبغ الله عليه النعمة أي أتمها» والجزيل: الكثير العظيم. والآلاء بالمد النعم واحدتها الألاء بالفتح ويجوز القراءة هنا بالجمع والافراد، والبلاء الاختبار بالخير والشر، يقال: بلوته بلوا جربته اختبرته، ولا يبعد أن يراد بالفقرة الأولى النعم الباطنة كالعقل والحواس المستورة وملائماتها، وبالثانية النعم الظاهرة، وبالثالثة الاحتجاج بالرسل وابتعاثهم لأن أعظم الاختبار هو الاختبار بما جاء به الرسل: وهذه وإن كانت من النعم الظاهرة المندرجة في الثانية لكن خصها بالذكر لشدة الاهتمام بها; ثم لما كان أفضل أفراد الحمد هو الشهادة بالتوحيد وبرسالة رسولنا بخصوصه (صلى الله عليه وآله) إذ هي أصل للبواقي أشار إليهما بقوله:
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) «وحده» تأكيد للحصر وتقرير له وحال بتأويل منفردا (إلها واحدا) دل الأول على جميع صفات الكمال والثاني على جميع صفات الجلال إذ الواحد الحقيقي منزه عن أنحاء التركيب الخارجية والذهنية والتعدد وعما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز وأمثالهما (صمدا) الصمد السيد لأنه يصمد إليه في الحوائج من صمد إذا قصد، والله سبحانه هو الموصوف به على الاطلاق لاستغنائه عن غيره مطلقا واحتياج غيره إليه من جميع الجهات (لم يتخذ صاحبة) لاستحالة الشهوة والحركة عنه تعالى، ولأن اتخاذها يقتضي المجانسة بينه وبينها ولا يجانسه أحد (ولا ولدا) لأن الولد يجانس الوالد ولا يجانسه شئ، ولأنه تعالى لا يلتذ بشئ لأن اللذة من لواحق الجسمية ولا يفتقر إلى ما يعنيه أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه. (وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله) عبد انتجبه) أي اختاره واصطفاه وإنما قرنت هذه الكلمة بكلمة التوحيد لأن كلمة التوحيد يعتبر فيها الاخلاص ولا يحصل الاخلاص الا بسلوك مراتبه ودرجاته ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة كيفية السلوك ولا تحصل تلك المعرفة إلا بالبيان النبوي فكانت الشهادة بصدق النبيين أجل كلمة بعد كلمة الاخلاص وأنها بمنزلة الباب لها فلذلك قرنت بها وصارتا كلمتين مقارنتين لا يصح انفكاك إحديهما عن الأخرى (و رسول ابتعثه) وارشاد العباد وهدايتهم، وفي تقديم العبودية على
পৃষ্ঠা ৩০
الرسالة إشارة إلى تقدمها في التحقق (1) كما دل عليه بعض الاخبار (على حين فترة من الرسل) الفترة الضعف والانكسار وما بين الرسولين من رسل الله تعالى، يعني ابتعثه على حين فتور من الارسال وانقطاع من الوحي. وذلك الابتعاث نعمة عظيمة لا يدانيها شئ من النعماء لظهور أن خلو الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور بمقتضى النفوس البشرية ووقوع الهرج والمرج وتلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذم بمقدار ما يلحق زمان وجود الرسول من المدح، ولذلك ذكر من خبث أحوال ذلك الزمان وذم الخلائق فيه ما يدل على عظمة نعمة بعثته (صلى الله عليه وآله) ما استلزمه من الخيرات ليعتبروا ويعرفوا قدر تلك النعمة ويحصل لهم التوجه إلى الله ويشكروا له.
(وطول هجعة من الأمم) الهجع والهجعة والهجيع بالفتح في الجميع طائفة من الليل، الهجوع النوم ليلا كذا في النهاية. وقال الجوهري: «أتيت بعد هجعة من الليل أي بعد نومة خفيفة» وهي ههنا كناية عن غفلة الأمم في ظلمات الجهالة عن أمر المبدء والمعاد وسائر المصالح التي ينبغي التوجه إليها.
(و انبساط من الجهل) أي انتشاره في الربع المسكون وإحاطته بالامم أجميعن لفقدهم من يهديهم إلى المعارف الالهية والمصالح الدينية والدنيوية (و اعتراض من الفتنة) أي عروضها في الأقاليم وإحاطتها بأهلها طولا وعرضا، أو وقوعها على غير قانون شرعي ومشيها في غير طريق عقلي ونقلي، من اعترض الشئ صار عارضا كالخشبة المعترضة في عرض النهر، والفرس الماشي في عرض الطريق من غير استقامة بتشبيهها بالفرس المتصف بهذه الصفة واستعارة لفظ الاعتراض لها.
(و انتقاض من المبرم) المبرم المحكم من أبرمت الشئ أحكمته، والمراد به نظام أحوالهم وإبرام أمورهم أي استحكامها بالشرائع السالفة، والمراد بانتقاضه انقطاع ذلك النظام وانهدام بناء ذلك الاستحكام بتغيير تلك الشرائع وفسادها، فان الخلائق كلهم في زمان الفترة حرفوا الطريقة الربانية، وخرجوا عن الشريعة الالهية وأرقدتهم نقمات وساوس الشياطين في مهاد المراقد الطبيعية إلا من عصمه الله بلطفه الخفي وقليل ما هم.
(و عمى عن الحق) العمى يطلق على معنيين أحدهما عدم البصر وثانيها عدم البصيرة وهو المراد هنا. والحق هو الأمور الثابتة بالشرائع السابقة من التوحيد وصفات الكمال والجلال وغير ذلك من الأمور المتعلقة بصلاح النشأتين، والعمى عن الحق عبارة عن بطلان بصيرتهم القلبية باستيلاء الأمراض النفسانية عن إدراك هذه الأمور.
পৃষ্ঠা ৩১
(و اعتساف من الجور) العسف الأخذ على غير الطريق وكذلك التعسف والاعتساف، والجور الميل عن طريق الحق، والظلم; قال في المغرب «جار عن طريق مال جار ظلم» والمعنى الثاني أنسب يعني ابتعثه (صلى الله عليه وآله) حين مالوا عن طريق الهداية وسلكوا طريق الغواية وظلموا بذلك أنفسهم، فبعضهم كانوا من عبدة الأوثان (1) وبعضهم كانوا من عبدة النيران، و بعضهم كانوا من عبدة الشمس والقمر، وبعضهم كانوا من عبدة الشجر والبقر، وبعضهم: قالوا عزير ابن الله، وبعضهم قالوا: المسيح ابن الله، وبعضهم قالوا: الملائكة بنات الله، وبعضهم قالوا: الله جسم، وبعضهم قالوا: هو نور مثل سائر الأنوار، وبعضهم قالوا: يجوز رؤيته - إلى غير ذلك من الملل الفاسدة والمذاهب الباطلة.
(و امتحاق من الدين) محقه أبطله ومحاه وتمحق الشئ وامتحق أي بطل. والدين في اللغة: الطاعة والجزاء. وفي العرف: الشرائع الصادرة بواسطة الرسل. وبطلانه كناية عن تركهم العمل بما فيه من صلاح معاشهم ومعادهم فإنهم غيروا وبدلوا وشرعوا لهم ما سولت لهم أنفسهم فحللوا حراما وحرموا حلالا فبعثه الله الرؤف الرحيم ليهديهم إلى الصراط المستقيم.
* الأصل:
«و أنزل إليه الكتاب فيه البيان والتبيان، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون، قد بينه للناس ونهجه بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها وأمور قد كشفها لخلقه وأعلنها، فيها دلالة إلى النجاة ومعالم تدعو إلى هداه، فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما أرسل به، وصدع بما أمر، وأدى ما حمل من أثقال النبوة، وصبر لربه، وجاهد في سبيله، ونصح لامته، ودعاهم إلى النجاة، وحثهم على الذكر، ودلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع، أسس للعباد أساسها، ومنائر رفع لهم أعلامها، لكيلا يضلوا من بعده وكان بهم رؤوفا رحيما».
* الشرح:
(و أنزل إليه الكتاب) الكتاب في الأصل الفرض والحكم والقدر كما يظهر من الصحاح والمغرب; ثم المتبادر منه عند الاطلاق هو القرآن العزيز لاشتماله على هذه الأمور على الوجه الأتم والأكمل.
(فيه البيان والتبيان) أي بيان كل شئ وتبيانه وهو البيان مع البرهان، وقدم الظرف للحصر أو لقرب المرجع أو الاهتمام لاشتماله على ضمير «الكتاب» أو لربط الحال على صاحبها ابتداء.
(قرآنا) حال بعد حال عن «الكتاب» (عربيا) صفة للتخصيص أو للمدح واشتماله على غير العربي نادرا على تقدير ثبوته لا يقدح في عربيته (غير ذي عوج) لا اختلال ولا اختلاف ولا شك فيه أصلا لا من جهة المباني ولا من جهة المعاني (لعلهم يتقون) من العقوبات الأخروية والمشتهيات الدنيوية،
পৃষ্ঠা ৩২
باتباع أوامره ونصايحه واستماع زواجره ومواعظه.
(قد بينه للناس) ضمير المفعول للقرآن وضمير الفاعل لله تعالى أو للرسول (صلى الله عليه وآله) وكذا الفاعل في الأفعال الآتية والأول أولى وأرجح (و نهجه) بالتخفيف أي أوضحه وأبانه من نهجت الطريق إذا أبنته وأوضحته، أو سلكه من نهجت الطريق إذا سلكته (بعلم قد فصله، ودين قد أوضحه، وفرائض قد أوجبها وامور قد كشفها لخلقه وأعلنها) الظاهر أن القرائن الأربعة أحوال متعاقبة للقرآن، يعني أوضحه حال كونه متلبسا بعلم عظيم من التأويل والتفسير والمحكم والمتشابه والعام والخاص وغير ذلك قد فصله الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) أو الرسول للناس، وبدين يعني بشرايع نبوية ونواميس إلهية قد أوضحه لهم، وبفرائض مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد ونحوها قد أوجبها عليهم، و بأمور من أحوال الأمم الماضية والقرون السالفة قد كشفها وأعلنها لهم، وبالجملة في القرآن علم ما كان وما يكون وما هو كائن وما يحتاج إليه الخلائق وقد بينه الله تعالى لرسوله وبينه الرسول لامته وهو مخزون عند أهله.
(فيها دلالة إلى النجاة) أي في الأمور المذكورة دلالة إلى نجاة الخلق من الخزي والنكال عاجلا، و من الحرمان عن الثواب والخذلان بالعقاب آجلا. (و معالم تدعو إلى هداه) معالم جمع معلم وهو ما جعل علامة للطرق والحدود، والمراد بها هنا مواضع العلوم ومرابطها من الكلمات الرائقة والعبارات الراشقة والدلائل الواضحة، هي بالرفع عطف على «دلالة»، وبالجر عطف على «النجاة» والجملة الفعلية صفة لها، والضمير المجرور بالإضافة يعود إلى الله أو إلى الرسول أو إلى الكتاب، والهدى ضد الضلالة وإضافته من باب إضافة المصدر إلى الفاعل ومفعول «تدعو» محذوف وهو الخلق وقيل:
الهدى المهتدى به وهو الدين والكتاب والرسول. والإضافة على تقدير رجوع الضمير إلى الله لامية، وعلى الاحتمالين الأخيرين بيانية. وقيل: الهاء في «هداه» ساكنة زائدة للوقف كما في كتابيه ويا رباه ويا سيداه، وفيه نظر يعرف بالتأمل.
(فبلغ (صلى الله عليه وآله) ما ارسل به) من أحوال المبدء والمعاد وجميع ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة (وصدع بما أمر) أي أجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو أظهره من صدعه إذا أظهره وبينه أو فرق به بين الحق والباطل من صدعه إذا شقه على سبيل الاستعارة، وتشبيه الفرق بينهما بصدع الزجاجة ونحوها في عدم الالتيام من باب تشبيه المعقول بالمحسوس لزيادة الايضاح، والباء على الأخيرين زائدة أو للتعدية بها على طريق التجوز، و «ما» مصدرية أو موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي بما أمر به (و أدى ما حمل من أثقال النبوة) الأثقال إما جمع ثقل وهو ضد الخفة أو جمع ثقل بالتحريك وهو متاع البيت والمسافر على سبيل الاستعارة، وقد أدى كلها عند الامامية إلى
পৃষ্ঠা ৩৩
أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يكن أحد غيره حاملا بجميعها باتفاق الأمة وقالت العامة لم يخص (صلى الله عليه وآله) أحدا من الأمة بجميعها وإنما أدى جميعها إلى جميع الأمة بأن أخذ كل واحد منهم ما يليق بفهمه، ثم أدوا إلى التابعين كذلك، وهكذا إلى انقراض العالم. وأنت تعلم ما في هذا القول ولكن من أضله الله فلا هادي له.
(و صبر لربه) أي صبر لرضا ربه وطلب التقرب منه في تبليغ الرسالة وأداء أثقال النبوة على تحمل المشاق وأذى المعاندين وطعن الطاعنين من كفرة قريش وفسقة العرب (و جاهد في سبيله) الذي هو التوحيد ودين الحق مع قلة العدد وضعف العدد (1) (و نصح لامته) النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحه ونصح له، فتعديته إلى المنصوح إما بنفسه أو باللام، والمراد بنصحه لهم إرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم وتعليمه إياها وعونهم عليها والذب عنهم وعن أعراضهم، وبالجملة جلب خير الدنيا والآخرة إليهم خالصا مخلصا لوجه الله، ومن ثم قيل: النصيحة في وجازة لفظها وجمع معانيها كلفظ «الفلاح» الجامع لخير الدنيا والآخرة (و دعاهم إلى النجاة) النجاة مصدر نجوت من كذا إذا تخلصت منه وتنحيت عنه، يعني دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى نجاتهم من العقوبات والشدايد أو إلى ما به نجاتهم من المصالح وخلوص العقايد (وحثهم على الذكر) حث يتعدى بعلى، يقال: حثه على كذا إذا حضه عليه، وتعديته هنا بالى إما باعتبار أن حروف الجر قد يجيء بعضها في موضع بعض أو بتضمين معنى الدعاء ونحوه، والمراد بالذكر ذكر الله تعالى بالقلب واللسان في جميع الأحوال وله شرف عظيم قال الله تعالى (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة) قال (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) وقال (اذكروني أذكركم) وقال الصادق (عليه السلام):
«و قال الله تعالى من ذكرني في ملاء من الناس ذكرته في ملاء من الملائكة» (2) المراد به ذكر آلاء الله ونعمائه أو الصلاة والدعاء لأنهما نوعان كاملان من الذكر والقرآن العزيز.
(و دلهم على سبيل الهدى من بعده بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها) المناهج جمع المنهج وهو الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه. والدواعي جمع داعية التي تدعوهم إلى اتباع سبيل الهدى. والأساس جمع أس بالضم وهو أصل الحائط وضمير التأنيث يعود إلى المناهج والدواعي، والمراد بتأسيس الأساس: وضعها وإحكامها، وبسبيل الهدى: الطريقة الشرعية، وبالمناهج، الأوصياء الطاهرين. ويجوز أن يراد بالأول الأوصياء وبالأخير الأدلة الدالة على خلافتهم (ومنائر رفع له أعلامها) عطف على «سبيل الهدى» والمنائر جمع المنارة على القياس لأن وزنها مفعلة إذ أصلها
পৃষ্ঠা ৩৪
منورة موضع النور وهي ما يوضع فوقه السراج وقياسها في الجمع مفاعل كمناور ومنائر بقلب الواو همزة تشبيها للأصلي بالزائد كما قالوا مصائب في مصاوب. وفي بعض النسخ «منار» وهي جمع منارة أيضا على غير القياس، ثم استعير للأوصياء (عليهم السلام) لأنهم محال للأنوار العقلية، وبهم يستبين حقائق الدين ويستنير قلوب العارفين كما أن المشبه به للأنوار الحسية، ورفع الأعلام عبارة عن نصب الأدلة الدالة على خلافتهم وإمامتهم: (لكيلا يضلوا من بعده) أي دلهم على كذا وكذا لكيلا يضلوا من بعده على طريق الحق بالاقتداء بآثارهم والاهتداء بأنوارهم (وكان به رؤفا رحيما) الرأفة أشد الرحمة والواو للعطف على الأفعال المتقدمة، أو للحال عن المستكن فيها أو عن البارز في «يضلوا».
* الأصل:
«فلما انقضت مدته، واستكملت أيامه، توفاه الله وقبضه إليه وهو عند الله مرضي عمله، وافر حظه، عظيم خطره، فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمن وإمام المتقين صلوات الله عليه، صاحبين مؤتلفين، يشهد كل واحد منهما لصاحبه بالتصديق، ينطق الإمام عن الله في الكتاب بما أوجب الله فيه على العباد من طاعته، وطاعة الإمام وولايته، وواجب حقه الذي أراد من استكمال دينه، وإظهار أمره، والاحتجاج بحججه، والاستضاءة بنوره في معادن أهل صفوته ومصطفى أهل خيرته، فأوضح الله بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا (صلى الله عليه وآله) عن دينه وأبلج بهم عن سبيل مناهجه وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه وجعلهم مسالك لمعرفته ومعالم لدينه حجابا بينه وبين خلقه والباب المؤدي إلى معرفة حقه، وأطلعهم على المكنون من غيب سره».
* الشرح:
(فلما انقضت مدته واستكملت أيامه توفاه الله وقبضه إليه) تفصيل لقوله: «ودلهم - آخره -» والعطف للتفسير، قال الجوهري: «توفاه الله أي قبض روحه، والوفاة الموت» (وهو عند الله مرضي عمله وافر حظه عظيم خطره) أي قدره ومنزلته، والواو للحال عن مفعول «توفاه» (فمضى (صلى الله عليه وآله) وخلف في أمته كتاب الله ووصيه أمير المؤمنين وإمام المتقين صلوات الله عليه) تصريح لما علم سابقا ولذلك صح التفريع، قال الجوهري: «خلف فلان فلانا إذا كان خليفته في قومه ومنه قوله تعالى:
(يا هارون اخلفني في قومي) وقال المطرزي في المغرب: «خلفته خلافة كنت خليفته» وقال القاضي: الخليفة من يخلف عيره وينوب منابه; والهاء للمبالغة، والأنسب بالنظر هذه المعاني أن مفعول خلف محذوف وهو الضمير العائد إليه (صلى الله عليه وآله) والواو للحال بتقدير «قد» و «كتاب الله» وما عطف عليه فاعله، ويجوز أن يقرأ «خلف» بتشديد اللام ويجعل الواو للعطف; أي وجعلهما خليفته في أمته ليقطع أعذارهم في ترك دين الحق ورفض العمل بما فيه بفقدهم من يرجعون إليه من التوقيف على
পৃষ্ঠা ৩৫
الأسرار الشرعية، فإن المرجع إذا كان موجودا بينهم بعده (صلى الله عليه وآله) لم يبق لهم معذرة لاتباع الأهواء الباطلة، واقتفاء الآراء الفاسدة.
(صاحبين مؤتلفين) حال عن الكتاب والوصي، أي لا يفارق أحدهما الآخر أصلا، الائتلاف مطاوع التأليف; يقال: ألفت بين الشيئين تأليفا فتألفا وائتلفا، وفيه إشارة إلى قوله (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي الحديث» (يشهد كل واحد لصاحبه بالتصديق) أي بسبب تصديق كل واحد ما يقول وينطق; فالقرآن يصدقه (عليه السلام) في كل ما يقول باعتبار اشتماله عليه ومن جملة ما يقوله (عليه السلام) تقدمه في خلافته، ووجوب إطاعته، والقرآن يشهد له بقوله (إنما وليكم الله - الآية) وبقوله (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) إلى غير ذلك وهو (عليه السلام) يصدق القرآن فيما ينادي من اشتماله على كل ما كان وما يكون وما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة لأنه عالم بظاهره وباطنه ومفهومه ومنطوقه وعامه وخاصه وناسخه ومنسوخه وأسراره كما يرشد إليه قوله تعالى (ومن عنده علم الكتاب) قوله تعالى (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
(ينطق الإمام عن الله في كتاب الله بما أوجب الله فيه على العباد من طاعته) خلق الله تعالى عباده للطاعة والانقياد له في كل ما أمر به ونهى عنه في الكتاب، وظاهر أن كل أحد لا يقدر على استنباط المقصود مه لكونه ظاهرا وباطنا، ورمزا وإشارة ومجملا ومفصلا، ومحكما ومتشابها، وعاما وخاصا، ومطلقا ومقيدا، ومفهوما ومنطوقا، وناسخا ومنسوخا; فلذلك وجب في الحكمة ثبوت إمام ينطق عن الله بما أوجب عليهم وما يحتاجون إليه لئلا يضلوا، ولا يبقى لهم حجة ولا معذرة وهو لسان الحق والناطق عن كتابه والمبين لخطابه. ووجب عليهم الانقياد له واتباع آثاره، واستماع أخباره، واقتفاء أفعاله وأطواره (وطاعة الإمام وولايته) لدلالة الآيات القرآنية والبينات الربانية على ثبوت الإمامة والولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد لأولاده الطاهرين، وبينها الرسول وأهل الذكر (عليهم السلام) وعينوها وعينوا مواضعها وكيفية دلالتها، والمنكرون لفضل آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين أولوها بما سولت لهم أنفسهم فضلوا وأضلوا كثيرا وأوردوهم النار وبئست مصيرا. (وواجب حقه) ليس عطفا «على ولايته» والضمير للامام، بل على الموصول أو على طاعته والضمير لله تعالى وإدراج الواجب على الأخير للمبالغة والإضافة على التقديرين من باب جرد قطيفة. (الذي أراد) أي أراده من الإمام أو العباد والموصول مع صلته صفة لحقه. (من استكمال دينه) بالعلم والعمل (وإظهار أمره) لحفظ الطريقة الالهية عن الانطماس والعلوم النبوية عن الاندراس سيما عند ظهور البدعة وبروز الخدعة فإنه يجب على العالم حينئذ إبطالها باظهار الحق. ومن ثم وجب وجود معصوم في كل عصر ليكون مفزعا في كل مصيبة وملجأ في كل
পৃষ্ঠা ৩৬