318

شرح عمدة الأحكام لابن جبرين

شرح عمدة الأحكام لابن جبرين

জনগুলি

العلة من النهي عن أكل الثوم والبصل لمن يأتي المساجد
معلوم أن الثوم والبصل والكرّاث من البقول التي خلقها الله وأنبتها، وجعلها مباحة وفيها منفعة، وفيها مصلحة، ويأكلها الناس للعلاج، وفيها منافع وعلاج لكثير من الأمراض، كما ذكر ذلك العلماء في الكلام على منافعها، ومع ذلك فإن فيها رائحة مستكرهة عند الناس، ولما كانت مستكرهة؛ فإن الإنسان إذا شم هذه الرائحة من غيره كره مجالسته وكره القرب منه وابتعد عنه؛ حتى لا يتأذى بهذه الرائحة المستكرهة؛ فلأجل ذلك نهى الرسول ﷺ أن يأتي المسجد من فيه هذه الروائح ونحوها.
وكان ﵊ لا يأكلها دائمًا، ويعتذر بأنه يناجي الملائكة أو أنه ينزل عليه الملك، والملائكة تتأذى من هذه الرائحة مطلقًا؛ فلأجل ذلك أباح أكلها لبعض أصحابه الذين لا يناجون ما يناجي، فقوله: (فإني أناجي من لا تناجي) المناجاة: هي الكلام الخفي بين اثنين، كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المجادلة:٩] يعني: إذا تخاطبتم فيما بينكم بخطاب خفي.
فيقول: (فإني أناجي من لا تناجي) يعني: أنه ينزل علي الملك ويكلمني ويعلمني القرآن، ولما كان الملك له حرمة فإني أحب أن لا أقابله برائحة مستكرهة، وقد كان ﵊ يكره أن يوجد منه شيء من الروائح المستكرهة، ولذلك لما شرب عسلًا عند إحدى زوجاته قالت له زوجة أخرى: (إني أجد منك ريح مغافير -المغافير: هو شجر من شجر العضاة له رائحة- فقال: إنما شربت عسلًا، فقالت: جرست نحلها العرفط)، يعني: أن نحلة أكلت من شجر العرفط الذي له رائحة، فعند ذلك كره ذلك العسل مخافة أن يوجد منه رائحة مستكرهة، فهذا دليل على أنه لا يحب أن يشم منه رائحة مستكرهة.
كذلك كان يحب الروائح الطيبة، فكان دائمًا يستعمل الطيب في بدنه وفي ثيابه؛ وذلك لكي توجد منه الرائحة الطيبة التي يحبها والتي تألفها الملائكة، والتي يحبها المصلون والمؤمنون، وحث على الطيب وأمر به ورغب فيه وأخبر بأنه يحبه، وكل ذلك حرصًا منه على قطع الرائحة الكريهة واستعمال الرائحة الطيبة بحسب المستطاع.
ولما اشتكى إليه أناس في يوم الجمعة أنهم يتأذون ببعض الروائح، أمرهم بالاغتسال والتنظف في يوم الجمعة، وأن يستعمل الإنسان من طيب أهله ليوم الجمعة، حتى لا يتأذى بعضهم ببعض مما يحصل منهم من الوسخ وروائح الجلد والثياب المتسخة ونحو ذلك؛ كل ذلك لأجل احترام العبادة وأن يأتي إليها وهو راغب محب لها بكل قلبه، وأن لا يوجد منه ما ينفر منه الملائكة أو ما ينفر منه المصلون، هذه الحكمة من النهي عن هذه الروائح المستكرهة في هذه العبادة التي هي الصلاة.
والإنسان مأمور بأن يخشع ويخضع في صلاته وأن يكون قلبه مطمئنًا فيها، ومن المعلوم أنه لا يطمئن اطمئنانًا كاملًا إذا كان إلى جانبه من يشم منه رائحة مستكرهة، لا يكون في صلاته ولا يحضر قلبه، ولا يتأمل ما يقول لما يتأذى به.
نقول: هذا هو السبب في كونه ﵊ نهى عن أن يأتي إلى المساجد من فيه هذه الروائح: (من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا فلا يقربنّ مسجدنا) هذه الأشياء موجودة وهي مباحة، والدليل على إباحتها أنه قال لبعض الصحابة: (كل؛ فإني أناجي من لا تناجي) فدل على أنها مباحة وحلال.
فإذًا: نهيه في هذا الحديث بقوله: (لا يقربن مسجدنا) فيه أمر بعدم أكلها في الأوقات التي تبقى رائحتها وهو في المسجد، بل يأكلها في الأوقات التي يزول ريحها قبل أن يأتي وقت الصلاة، فإذا أكل بصلًا مثلًا أو كراثًا أو نحو ذلك أكله في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء؛ حتى يزول أثرها قبل أن يدخل وقت الصلاة.
وورد عن عمر ﵁ أنه قال: (إذا احتاج أحدكم إلى أكل هذه البقول فليمتها طبخًا) أي: أنها إذا طبخت زال أثر الرائحة منها، هذا إذا احتاج إليها قرب وقت الصلاة، وعلى كل حال فالنهي عنها قرب وقت الصلاة، وأما في الأوقات التي ليس فيها وقت صلاة، أو بالنسبة للمعذور الذي يصلي في بيته لمرض، أو المسافر الذي يصلي وحده أو نحو ذلك، فإن له ذلك، أما المساجد فلا يجوز أن يأتيها من فيه هذه الروائح.
وقد علل في الحديث الثاني بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: أن الملائكة تحضر الصلوات وتحضر المساجد، وحضورها في هذه المساجد وقت الصلاة لأجل مشاهدة صلاة العباد لا شك أن فيه خيرًا، ولذلك تشهد للمصلين، حيث يسألهم ربهم عن عباده وهو أعلم بهم؟ فيقولون: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، فهؤلاء الملائكة إذا وجدوا هذه الرائحة في المساجد تأذوا بذلك، فلذلك نهي عن استعمال هذه الأشياء قرب وقت الصلاة والإتيان إلى المساجد بها.

18 / 19