قوله: "ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام" اعتراض على تعريف الفقه بأن المراد بالأحكام إما الكل أي المجموع، وإما كل واحد، وإما بعض له نسبة معينة إلى الكل كالنصف أو الأكثر كالثلثين مثلا، وإما البعض مطلقا، وإن قل والأقسام بأسرها باطلة، أما الأول فلأن الحوادث، وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاصرين وضبط المجتهدين، وهو المعني بقوله لا تكاد تتناهى فلا يعلم أحكامها جزئيا فجزئيا لعدم إحاطة البشر بذلك ولا كليا تفصيليا؛ لأنه لا ضابط يجمعها لاختلاف الحوادث اختلافا لا يدخل الأكثر للجهل به، ولا التهيؤ للكل إذ التهيؤ البعيد قد يوجد لغير الفقيه والقريب مجهول غير منضبط، ولا يراد أنه يكون بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد؛ لأن العلماء المجتهدين لم يتيسر لهم علم بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يدر الدهر
...................................................................... ..........................
تحت الضبط فلا يكون أحد فقيها. وأما الثاني فلأن بعض من هو فقيه بالإجماع قد لا يعرف بعض الأحكام كمالك سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري. وأما الثالث فلأن الكل مجهول الكمية والجهل بكمية الكل يستلزم الجهل بكمية الكسور المضافة إليه من النصف وغيره ضرورة وبهذا يظهر أنه لا يصح أن يراد أكثر الأحكام؛ لأنه عبارة عما فوق النصف، وهو أيضا مجهول. وأما الرابع فلأنه يستلزم أن يكون العالم بمسألة أو مسألتين من الدليل فقيها وليس كذلك اصطلاحا، وهذا مذكور فيما سبق فلم يصرح به هاهنا، بل أشار إليه بلفظ: "ثم" أي بعدما لا يراد البعض، وإن قل لإيراد الكل إلى آخره وهاهنا بحث، وهو أن من الأحكام ما يصح حمله على الكل دون كل واحد كقولنا كل القوم يرفع هذا الحجر لا كل واحد منهم ومنها ما هو بالعكس كقولنا كل واحد من الناس يكفيه هذا الطعام لا كل الناس ومنها ما لا يختلف كقولنا ضربت كل القوم أو كل واحد منهم ومعرفة الأحكام من هذا القبيل، إذ معرفة جميع الأحكام معرفة كل حكم وبالعكس، وإن التزم المصنف أن معرفة جميع الأحكام أعم من معرفة كل واحد أو البعض فقط فعدم تناهي الحوادث لا ينافي ذلك والظاهر أنه قصد بالكل مجموع الأحكام الماضية والآتية وبكل واحد ما يقع ويدخل في الوجود على التفصيل ويلتفت إليه ذهن المجتهدين حيث علل عدم إرادة الأول بلا تناهي الحوادث والثاني بثبوت لا أدري ولما أجاب ابن الحاجب بأن المراد بالأحكام المجموع، ومعنى العلم بها التهيؤ لذلك رده المصنف بأن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقيه، والقريب غير مضبوط، إذ لا يعرف أن أي قدر من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب ولما فسر التهيؤ بكون الشخص بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد من الحوادث لاستجماعه المأخذ والأسباب والشرائط التي يتمكن بها من تحصيلها ويكفيه الرجوع إليها في معرفة الأحكام رده المصنف بأربعة أوجه يمكن الجواب عنها بأنا لا نسلم أن عدم تيسر معرفة بعض الأحكام لبعض الفقهاء أو الخطأ في الاجتهاد ينافي التهيؤ بالمعنى المذكور لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو وجود الموانع أو معارضة الوهم العقلي أو مشاكلة الحق الباطل ونحو ذلك ولا نسلم أن شيئا من الأحكام التي لم يرد بها نص ولا إجماع يكون بحيث لا مساغ فيه للاجتهاد ويدل عليه حديث معاذ رضي الله عنه حيث اعتمد الاجتهاد برأيه فيما لا يجد فيه النص ولم يقل النبي عليه السلام، فإن لم يكن محل للاجتهاد ولا نسلم أن لا دلالة للفظ العلم على التهيؤ المخصوص فإن معناه ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام، وإطلاق العلم عليها شائع ذائع في العرف كقولهم في تعريف العلوم علم كذا وكذا فإن المحققين على أن المراد به هذه الملكة ويقال لها أيضا الصناعة لا نفس الإدراك وكقولهم: وجه الشبه بين العلم والحياة كونهما جهتي الإدراك.
পৃষ্ঠা ৩০