بسم الله الرحمن الرحيم
سألتني - أدام الله توفيقك - أن ألخص لك شرح القصائد السبع، مع القصيدتين اللتين أضافهما إليها أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي - قصيدة النابغة الذبياني الدالية، وقصيدة الأعشى اللامية - وقصيدة عبيد بن الأبرص البائية تمام العشر، وذكرت أن الشروح التي لها، طالت بإيراد اللغة الكثيرة، والاستشهادات عليها، والغرض المقصود منها معرفة الغريب، والمشكل من الإعراب، وإيضاح المعاني، وتصحيح الروايات، وتبيينها، مع جميع الاستشهادات التي لابد منها، من غير تطويل يمل، ولا تقصير بالغرض يخل، فأجبتك إلى ملتمسك، واستعنت بالله عل شرحها، من غير إخلال بما يجب إيراده مع الاختصار، والله الموفق للسداد، والهادي إلى طريق الرشاد.
معلقة امرئ القيس
قال امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الملك بن عمرو المقصور - الذي اقتصر على ملم أبيه - ابن حجر آكل المُرَار بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن مرتع، وقال قوم: ابن معاوية بن ثور بن مرتع، وإنما سمي مرتعا لأنه كان من أتاه من قومه رتعه، أي جعل له مرتعا لماشيته - وهو عمرو بن معاوية بن ثور، وهو كندة بن عفير - وإنما سمى
1 / 2
كندة لأنه كند أباه نعمته، ويكنى أبا الحارث.
(قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبِ وَمَنْزِلِ ... بِسُقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ)
هو من الضرب الثاني من الطويل، والقافية متدارك.
السقط: ما تساقط من الرمل، وفيه ثلاث لغات: سِقْط، وسَقْط، وسُقْطٌ. واللوى: حيث يسترق الرمل، فيخرج منه إلى الجدد.
وقوله (قفا) فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن يكون خاطب رفيقين له.
والثاني: أن يكون خاطب رفيقا واحدا فثنى؛ لأن العرب تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين، قال الله ﵎ مخاطبا لمالك: (ألقيا في جَهَنَّمَ) وقال الشاعر:
فإن تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ انْزَجِرْ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعَا
أَبِيتُ عَلَى بَابِ القَوَافِي كَأَنَّمَا ... أُصَادِي بِهَا سِرْبًا مِنَ الوَحْشِ نُزَّعَا
وقال الآخر:
فَقُلْتُ لِصَاحِبي: لاَ تَحْبِسَانَا ... بِنَزْعِ أُصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا
والعلة في هذا أن أقل أعوان الرجل في إبله وماله اثنان، وأقل الرفقة ثلاثة، فجرى كلام الرجل على ما قد ألف من خطابه لصاحبه، قالوا: والدليل على ذلك إنه خاطب الواحد، والبصريون ينكرون هذا؛ لأنه إذا خاطب الواحد مخاطبته الاثنين وقع الإشكال. وذهب المبرد في قوله تعالى: (ألْقِيَا في جَهَنَّم) إلى إنه ثناه للتوكيد، معناه ألق ألق، وخالفه الزجاج فقال: ألقيا مخاطبة
1 / 3
الملكين وكذلك (قفا)
إنما هو مخاطبة صاحبيه.
والقول الثالث: إنه أراد قفن بالنون فأبدل الألف من النون، وأجرى الوصل مجرى الوقف، وأكثر ما يكون هذا في الوقف.
و(نبك) مجزوم لأنه جواب الأمر، والجيد أن يقال: نبك جواب شرك مقدَّر، كأن التقدير قفا أن تقفا نبك؛ لأن الأمر لا جواب له في الحقيقة. ألا ترى أنك إذا قلت للرجل (أطع الله يُدخلك الجنة) معناه أطع الله أن تطعه يُدخلك الجنة، لأنه لا يدخل الجنة بأمرك، إنما يدخلها إذا أطاع الله.
و(ذكرى) والذكر واحد، وقوله: (من ذكرى) من تتعلق بنبك، وذكرى جر بمن، وهي مضافة إلى الحبيب. والمنزل: نسق على الحبيب، والباء من قوله: (بسقط اللوى) يجوز أن تتعلق بقفا وبنبك وبقوله منزل. وقوله: (بين الدخول فحومل) دخول: موضع، وحومل: موضع آخر. وكان الأصمعي يرويه (بين الدخول وحومل) ويقول: لا يقال المال بين زيد فعمرو، إنما يقال: بين زيد وعمرو، ومن رواه (فحومل) بالفاء يقول: أن الدخول موضع يشتمل على مواضع، وكذلك حومل، فلو قلت: عبد الله بين الدخول - تريد بين مواضع الدخول - تم الكلام، كما تقول: دورنا بين مصر، تريد بين أهل مصر؛ فعلى هذا عطف بالفاء، وأراد بين مواضع الدخول وبين مواضع حومل.
(فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لمِاَ نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ)
تُوضح والمقراة: موضعان، وهذه المواضع التي ذكرها ما بين إمرة إلى أسود العين، وأسود العين: جبل، وهي منازل كلاب.
1 / 4
وموضع (توضح والمقراة) جر عطف على حومل، والمقراة في غير هذا الموضع: الغدير الذي يجتمع فيه الماء، من قولهم (قريت الماء في الحوض) إذا جمعته. ومعنى قوله (لم يعف رسمها) قال الأصمعي: أي لم يدرس لما نسجته من
الجنوب والشمال، فهو باق ونحن نحزن، ولو عفا لاسترحنا، وهذا كقول ابن أحمر.
أَلاَ لَيْتَ المَنَازِلَ قَدْ بَلِينَا ... فَلاَ يَرْمِينَ عَنْ شَزَنٍ حَزِينَا
أي فلا يرمين عن تحرف وتشدد. يقال (شزن فلان ثم رمى) أي تحرف في أحد شقيه، وذلك أشد لرميه. ويقال شَزَنٌ وشُزُنٌ بمعنى واحد. ومعنى البيت ليتها بليت حتى لا ترمى قلوبنا بالأحزان والأوجاع، وكان الأصمعي يذهب إلى أن الريحين إذا اختلفتا على الرسم لم تعفواه، ولو دامت عليه واحدة لعفته؛ لأن الريح الواحدة تسفي على الرسم فيدرس، وإذا اعتورته ريحان فسقت عليه إحداهما فغطته ثم هبت الأخرى كشفت عن الرسم ما سفت الأولى.
وقيل: معناه لم يعف رسمها للريح وحدها، وإنما عفا للمطر والريح وغير ذلك.
وقيل: معناه لم يعف رسمها من قلبي وهو في نفسه دارس، يقال: عفا الشيء يعفو عَفْوًا وعُفُوًا وعفاء؛ إذا درس، وعفاه غيره: درسه.
وقوله: (لما نسجتها) ما في معنى تأنيث، والتقدير للريح التي نسجت المواضع، الهاء تعود على الدخول وحومل وتوضح والمقراة، ونسجت: صلة ما، وما فيه من الضمير يعود على ما، ومثله:
أَلِفَ الصُّفُونَ فَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسيرًا
أي كأنه من الخيل التي تقوم على الثلاث، أو من الأجناس التي تقوم على الثلاث، ويروى (لما نسجته) والهاء تعود على الرسم. وقال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون
1 / 5
ما في معنى المصدر، يذهب إلى أن التقدير لنسجها الريح، أي للتي نسجتها الريح، ثم أتى بمن مفسرة فقال (من جنزب وشمأل)؛ ففي نسجت ذكر الريح؛ لأنه لما ذكر المواضع والنسج والرسم دلت على الريح، فكنى عنها لدلالة المعنى عليها، ولم يجرأ أبو العباس أحمد بن يحيى أن يكون ما في معنى المصدر قال: لأن
الفعل يبقى بلا صاحب، كأن أبا العباس لم يجز أن يكون في نسجت ذكر الريح، وفي الشمال لغات، يقال: شمال، وشمأل، وشأمل، وشَمَل، وشَمْلٌ، وشمول، قال الشاعر في الشأمل:
وَهَبَّتِ الشّأْمَلُ الْبَلِيلُ، وَإِذْ ... بَاتَ كَمِيعُ الْفَتَاةِ مُلْتَفِعَا
وقال آخر، وهو جرير في الشمْل بإسكان الميم:
أَتَى أَبَد مِنْ دُونِ حِدْثَانِ عَهْدِهَا ... وَجَرَّتْ عَلَيْها كَلُّ نَافجةٍ شَمْلِ
وقال عمر بن أبي ربيعة في الشمَل بفتح الميم:
أَلَمْ تَرْبَعْ عَلَى الطَّلَلِ ... وَمَغْنَى الْحَيِّ كَالخِلَلِ
تُعَفِّى رَسْمَهُ الأرْوَا ... حُ مَرُّ صَبًا مَعَ الشَّمَلِ
وقال ابن ميادة في الشَّمُول:
وَمَنْزِلَة أُخْرَى تَقَادَمَ عَهْدُهَا ... بِدِى الرِّمْثِ تَعفُوهَا صَبًا وَشَمُولُ
(تَرَى بَعَر الأرْآم فِي عَرَصَاتِهَا ... وَقِيعَانِهَا كَأَنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ)
1 / 6
الأرآم: الظباء البيض، واحدها رئم، والعرصات: جمع عرصة، وهي الساحة، والقيعان: جمع قاع، وهو الموضع الذي يُستنقع فيه الماء، وهذا البيت وما بعده مما يزاد في هذه القصيدة، قال الأصمعي: والأعراب ترويهما.
(كأَنِّي غَدَاةَ الْبَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الْحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَل)
سمرات: جمع سمرة، وهي شجرة لها شوك، يقول: لما تحملوا اعتزلت أبكى كأني ناقف حنظل، وإنما شبه نفسه به لأن ناقف الحنظل تدمع عيناه لحرارة الحنظل، والنقف: نقفك رأس الرجل بعصًا أو غيرها، قال الشاعر:
أن بِهَا أَكْتَلَ أو رِزَامَا ... خُوَيْرِبَيْنِ يَنْفُفَانِ الْهَامَا
يعني لصين، وخويرب: تصغير خارب، وهو سارق الإبل خاصة.
وقالوا: النقف كسر الهامة عن الدماغ، وأنقفتك المخ، أي أعطيتك العظم لتستخرج
مخه. وناقف الحنظل: الذي يستخرج الهبيد وهو حب الحنظل.
(وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لا تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَمَّلِ)
وقوفا: منصوب على الحال، والعامل فيه قفا، كما تقول: وقفت بدارك قائما سكانها
فإن قيل: كيف قال وقوفا بها صحبي والصحب جماعة، وقوله وقوفا فعل متقدم لا ضمير فيه، فلم لم يقل (واقفا بها صحبي) كما تقول: مررت بدارك قائما سكانها؟.
فالجواب أن الاختيار عند سيبويه فيما كان جمعا مكسرا أن تقول فيه: مررت برجُلٍ حِسانٍ قومُه، فإن كان مما يجمع جمع السلامة كان الاختيار ترك التثنية والجمع، فتقول: مررت برجل صالح قومه، كما قال زهير:
1 / 7
بَكَرْتُ عَلَيْهِ غُدْوَةً فَوَجَدْتُه ... قعُودًا لَدَيْهِ بالصَّرِيمِ عَوَاذِلُهْ
ويجوز أن يكون قوله: (وقوفا) منصوبا على المصدر من (قفا) والتقدير: قفا وقوفا مثل وقوف صحبي، كما تقول: زيد يشرب شرب الإبل، تريد يشرب شربا مثل شرب الإبل، ويجوز أن يكون مصدرا وقع موقع الوقت لاستيقافه، كما تقول: البث على قعود القاضي، أي ما قعد، أي في قعوده، ويكون التقدير: وقت وقوف صحبي، ثم يحذف، ويكون بمنزلة قولك: رأيته قدوم الحاج، أي وقت قدوم الحاج، قالوا: ولا يجوز مثل هذا إلا فيما يعرف، نحو قولك: قدوم الحاج، وخفوق النجم، ولو قلت: لا أكلمك قيام زيد، تريد وقت قيام زيد، لم يجز؛ لأنه لا يعرف، وموضع (صحبي) رفع بوقوف، وعلىَّ: يتعلق بوقوف، وواحد الصحب صاحب مثل تجر وتاجر. وواحد المطي مطية، والمطية: الناقة، سميت مطية لأنها يركب مطاها، أي ظهرها، وقيل: سميت مطية لأنها يمطي بها في السير أي يجد بها في السير، ووزن مطية من الفعل فعيلة أصلها مطيوة، فلما اجتمعت الواو والياء في
كلمة وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، وقوله (لا تهلك أسى وتجمل) الأسى: الحزن، يقال: أسيت على الشيء آسى أسى شديدا، إذا حزنت عليه، ونصب أسىً على المصدر؛ لأن قوله لا تهلك أسىً في معنى لا تأس، فكأنه قال: لا تأس أسىً، هذا قول الكوفيين، وقال البصريون: نصب أسىً لأنه مصدر وضع في موضع الحال، والتقدير عندهم: لا تهلك آسيا، أي جزينا، والمعنى لا تظهر الجزع، ولكن تجمَّل وتصبَّر وأظهر للناس خلاف ما في قلبك من الحزن
1 / 8
والوجد لئلا تشمت بك العواذل والعداة، ولا يكتئب لك الأو داء.
(وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ ... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ؟)
روى سيبويه هذا البيت (وإن شفاءا عبرة) واحتج فيه بأن النكرة يخبر عنها بالنكرة، ويروى (وإن شفائي عبرة لو سفحتها) أي صببتها، والعبرة: الدمعة، والعُبْر والعَبَر: سُخنة العين، ومهراقة: مصبوبة من (هرقت الماء، فأنا أهريقه) بمعنى أرقت، ووزن أرقت أفلت، وعين الكلمة محذوفة، كان أصلها أريقت على وزن أفعلت، وهو فعل معتل العين تقول في الثلاثي منه: راق الماء يريق، فالألف في راق منقلبة عن ياء، وأصله ريق على وزن فعل، فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلما أعلوها في الثلاثي وجب إعلاها في الرباعي، فإذا قالوا: أرقت الماء فالأصل أريقت، ثم نقلوا حركة الياء إلى الراء وسكنت الياء، فقلبوها ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فاجتمع ساكنان الألف والقاف، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين فصا أرقت، وقالوا في المستقبل: أريقه، والأصل أُأَريقه مثل أدحرجه، فنقلوا حركة الياء إلى الراء وسكنت الياء فصار أأريقه، ثم حذفوا احدى الهمزتين لاستثقالهم الجمع بينهما فصار أريقه، ومن العرب من يبدل من الهمزة الهاء فيقولون: هرقت الماء، وقالوا في المستقبل: أهريقه، ولم يحذفوا الهاء؛ لأنه لم يجتمع فيه مثلان كما اجتمع في أُأَريقه، واحتاجوا إلى حذف
أحدهما، وقالوا: أهرقت الماء فأنا أهريقه بسكون الهاء في الماضي والمستقبل جميعا، فالهاء في المسألة الأولى مفتوحة في الماضي والمستقبل لأنها فاء الكلمة، وفي هذه المسألة الأخيرة زائدة، وإنما زادوها ليكون جبرا لما دخل الكلمة من الحذف، كما زادوا السين في أسطاع يسطيع، بمعنى أطاع يطيع، ليكون جبرا لما دخل الكلمة من التغيير، لأن أصلها أطوع يطوع، والرسم: الأثر،
1 / 9
والمعول: يحتمل تفسيرين؛ أحدهما أن يكون معول موضع عويل، أي بكاء، كأنه قال: هل عند رسم دارس من مبكى؟ أخذ من العويل وهو الصياح، يقال: قد أعول الرجل فهو معول، إذا فعل ذلك، ويحتمل أن يكون المراد بالمعول موضعا ينال فيه حاجته، كما تقول: معوَّلنا على فلان، ومعول: محمل، يقال: عول على فلان، أي احمل عليه، يقول: فهل يحمل على الرسم ويعول عليه بعد دروسه؟
فإن قيل: كيف قال في البيت الأول (لم يعف رسمها) فأخبر أن الرسم لم يدرس وقال في هذا البيت (فهل عند رسم دارس)؟
قيل له: في هذا غير قول، قال الأصمعي: معناه قد درس بعضه ولم يدرس كله، كما تقول: درس كتابك، أي ذهب بعضه وبقى بعضه، وقال أبو عبيدة: رجع فأكذب نفسه بقوله: (فهل عند رسم دارس من معول؟)، كما قال زهير:
قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُهَا القِدَمُ ... بَلَى، وَغَيَّرَهَا اْلأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ
وقيل: ليس قوله في هذا البيت (فهل عند رسم دارس) مناقضا لقوله (لم يعف رسمها) لأن معناه لم يدرس رسمها من قلبي وهو في نفسه دارس. وقالوا: أراد زهير في بيته قف بالديار التي لم يعفها القدم من قلبي، ثم رجع إلى معنى الدروس فقال: بلى وغيرها الأرواح والديم.
(كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا ... وَجاَرَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ)
كدأبك: أي كعادتك، وروى أبو عبيدة (كدينك) والدين هنا بمعنى
1 / 10
الدأب والعادة،
والكاف متعلقة بقوله: قفا نبك، كأنه قال: قفا نبك كعادتك في البكاء، والكاف في موضع نصب، والمعنى بكاء مثل عادتك، ويجوز أن تكون الكاف متعلقة بشفائي، ويكون التقدير: كعادتك في أن تشتفي من أم الحويرث، والباء في قوله (بمأسل) متعلقة بقوله كدأبك، كأنه قال: كعادتك بمأسل، ومأسل: موضع، وأم الحويرث: هي هر أم الحارث بن حصين بن ضمضم الكلبي، وأم الرباب: من كلب ايضا، يقول: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها، وقيل: المعنى إنك أصابك من التعب والنصب من هذه المرأة كما أصابك من هاتين المرأتين.
(إذا قَامَتَا تَضَوّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا ... نَسِمَ الصَّبَا جَاَءتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ)
المسك يذكر ويؤنث، وكذلك العنبر، وقيل: من أنث إنما ذهب به إلى معنى الريح، ومن أنث فروايته (تضوع المسك منهما) يريد تتضوع، فحذف إحدى التاءين، ومعنى تضوع أي فاح متفرقا، ونصب (نسيم الصبا) لأنه قام مقام نعت لمصدر محذوف، التقدير: تضوع المسك منهما تضوعا مثل نسيم الصا، وقيل: نسيم نصب على المصدر، كأنه في التقدير تنسم تنسُّم الصبا، ونسيم الصبا: تنسمها، وريا القرنفل: رائحته، ولا يكون الريا إلا ريحا طيبة، ويروى (إذا التفتت نحوي تضوع ريحها، البيت) وجعل ابن الانباري (جاءت) صلة الصبا، وقال: إنما جاز أن توصل الصبا لأن هبوبها يختلف فيصير بمنزلة المجهول، فتوصل كما توصل الذي، قال الله ﷿: (كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَارًا)، فيحمل صلة الحمار، والتقدير: كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا، وهذا الذي يذكره ينكره البصريون؛ لأنهم قالوا: أنا لا نجد في كلام العرب اسما موصولا محذوفا وصلته مبقاة، ويجعلون مثل هذا حالا، فإذا كان الفعل ماضيا قدَّروا معه قد.
1 / 11
(فَفَاضَتْ دُمُوعُ العَيْنِ مِنِّى صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مْحَمَلِي)
فاضت: سالت، والصبابة: رقة الشوق، يقال: صببت أصب، قال الشاعر:
يَصَبُّ إلى الْحَيَاةِ وَيَشْتَهِيهَا ... وَفِي طولِ الْحَيَاةِ لَهُ عَنَاءُ
والمحمل: السير الذي يحمل به السيف، والجمع حمائل على غير القياس، وليس لها من لفظها واحد، ولو كان لها واحد من لفظها لكان حميلة، ولكنها لم تسمع، قال الشاعر في المحمل:
فَارْفَضَّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهْرِ المِحْمَلِ
ونصب (صبابة) لأنه مصدر وضع موضع الحال كقولك: زيد مشيا، أي ماشيا، ومثله قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ أن أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا) أي غائرا، ويجوز أن يكون نصب (صبابة) على إنه مفعول له.
ومما يسأل عنه في هذا البيت أن يقال: كيف يلل الدمع محمله وإنما المحمل على عاتقه؟
فيقال: قد يكون منه على صدره، فإذا بكى وجرى الدمع عليه ابتل.
(أَلاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنّ صَالِحٍ ... وَلاَسِيمَا يَوْمٌ بِدَارَةِ جُلْجُلِ)
ألا: افتتاح للكلام، ورُبَّ فيها لغات، أفصحهن ضم الراء وتشديد الباء، ومن العرب من يضم الراء ويخفف الباء، فيقول: رُبَ رجل قائم، ويروى عن عاصم إنه قال: قرأت على زر بن حُبيش (رُبَّما) بالتشديد، فيقال: انك لتحب الرُّبَّ، ربما مخففة، ومن العرب من يفتح الراء ويشدد الباء فيقول: رَبَّ رجل قائم، وزعم الكسائي إنه سمع التخفيف في المفتوحة، ومن العرب من يدخل معها تاء التأنيث ويشدد الباء، ويجوز تخفيفها مع تاء التأنيث فيقول: رُبَة رجل قائم. والمعنى ألا رب يوم لك منهن سرور وغبطة. والسيُّ: المثل، ودارة
1 / 12
جلجل: موضع، ويروى ولاسيما يومٍ ويومٌ بالجر والرفع فمن جره جعل ما زائدة للتوكيد، وهو الجيد، ومن رفعه جعل ما بمعنى الذي وأضمر مبتدأ، والمعنى: ولاسيما هو يوم، وهذا أقبح
جدا؛ لأنه حذف اسما منفصلا من الصلة، وليس هذا بمنزلة قولك: الذي أكلت خبز؛ لأن الهاء متصلة فحسن حذفها، ألا ترى إنك لو قلت (الذي مررت زيد) تريد الذي مررت به زيد؛ لم يجز. فأما نصب سي فبلا، ولا يجوز أن يكون مبنيا مع لا؛ لأن لا لا يبني مع المضاف، لأن ما يبنى مشبه بالحروف، ولا تقع الإضافة في الحروف، فإذا أضفت المبني زال البناء، ولا يجوز أن تقول: ما جاءني القوم سيما زيد، حتى تأتي بلا، وحكى الأخفش إنه يقال (لاسيما) مخففا. ومعنى قوله (ولاسيما يوم بدارة جلجل) التعجب من فضل هذا اليوم، أي هو يوم يفضل سائر الأيام، وقال هشام ابن الكلبي: دارة جلجل عند غمر كندة، وقال الأصمعي وأبو عبيدة: دارة جلجل في الحمى، ويقال: دار، ودارة، وغدير، وغديرة، وإزار، وإزارة، ويروى (ألا رب يوم صالح لك منهم).
فإن قيل: كيف جاز أن يقال (منهم) وهن نساء؟
فالجواب أن يقال: كأنه عناهن وعنى أهلهن، فغلب المذكر على المؤنث، ويروى (صالح لم منهما) وأجود الروايات (ألا رب يوم لك منهن صالح) على ما فيه من الكف، وهو حذف النون من مفاعلين.
(وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ... فَيَا عَجَبَا مِن رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ)
1 / 13
العذارى: جمع عذراء، يقال: عذراء وعذار وعذارى؛ فعذار منون في موضع الرفع والجر وغير منون في موضع النصب، وإذا قلت عذارى فالألف بدل من الياء لأنها أخف منها.
فإن قال قائل: فلم لا أبدل الياء في قاض ألفا؟
فزعم الخليل أن عذارى إنما أبدلت من الياء منه الألف لأنه لا يشكل إذ كان ليس في الكلام فعال، ولم تبدل الياء في قاض فيقال قاضا، لانه في الكلام فاعل نحو طابق وخاتم.
فإن قال قائل: فلم لا تنون عذارى في موضع الرفع والجر، كما تفعل في عذارٍ؟
فالجواب في هذا أن سيبويه زعم أن التنوين في عذارٍ وما أشبهها عوض من الياء، فإذا جئت بالألف عوضا من الياء لم يجز أن تعوض من الياء شيئا آخر. وزعم أبو العباس محمد بن يزيد أن التنوين في عذارٍ وما أشبهها عوض من الحركة؛ فإذا كان عوضا من الحركة والألف لا يجوز أن يحرَّك، فكيف يجوز أن يدخل التنوين عوضا من الحركة فيما لا يحرك؟
وقوله (فيا عجبا) الألف بدل من الياء، كما تقول: (يا غلاما أقبل) تريد يا غلامي.
ويقال: كيف يجوز أن ينادى العجب وهو مما لا يجيب ولا يفهم؟
فالجواب في هذا أن العرب إذا أرادت أن تعظم أمر الخبر جعلته نداء، قال سيبويه: إذا قلت يا عجبا كأنك قلت تعال يا عجب فإن هذا من إبانك؛ فهذا أبلع من قولك تعجبت، ونظير هذا قولهم (لا أرينك هاهنا)؛ لأنه قد علم إنه لا ينهى نفسه، والتقدير: لا تكن هاهنا فإنه من يكن هاهنا أره، وقال الله ﷿ (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فقد علم إنه لا ينهاهم عن الموت، والتقدير والله أعلم: اثبتوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت، وكذلك قوله (يا عجبا) قد علم إنه لا ينادى العجب، فالمعنى انتبهوا للعجب.
وقوله (يوم عقرت) يوم: في موضع جر معطوف على يوم الذي يلي سيما، ومن رفع فقال (ولاسيما يوم) فموضع يوم الثاني رفع، وإنما فتح لأنه جعل يوما وعقرت بمنزلة
1 / 14
اسم واحد، وكذلك ظروف الزمان إذا أضيفت إلى الأفعال الماضية أو اسم غير متمكن بنيت معها، نحو (أعجبني يوم خرج زيد) ونحو ما أنشد سيبويه:
عَلَى حِينَ ألْهى النَّاسَ جُلُّ أَمُورِهِمْ ... فَنَدْلًا زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثّعَالِبِ
ويجوز أن يكون يوم منصوبا معربا كأنه قال: اذكر يوم عقرت؛ ففي إعراب (يوم) ثلاثة أوجه: النصب بفعل مضمر، والجر عطفا على اليوم الذي قبله، والثالث أن يكون مرفوع الموضع مبني اللفظ لإضافته إلى فعل مبنى، وعند الكوفيين يجوز أن تُبنى ظروف الزمان مع الفعل المستقبل، ولا يجوز ذلك عند البصريين لأن المستقبل معرب.
ومن خبر هذا اليوم أن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها: (عُنيزة) وكان يحتال في طلب الغرة من أهلها، فلم يمكنه ذلك، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل، احتمل الحي، فتقدم الرجال وخلَّفوا النساء والعبيد والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلَّف بعد قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مرت به النساء، وإذا فتيات فيهن عنيزة، فعدلن إلى الغدير ونزلن، وتحيز العبيد عنهن، ودخلن الغدير، فأتاهن امرؤ القيس - وهن غوافل - فأخذ ثيابهن ثم جمعها وقعد عليها، وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو ظلت في الغدير إلى الليل حتى تخرج كما هي متجردة فتكون هي التي تأخذ ثوبها، فأبين عليه، حتى ارتفع النهار وخشين أن يقصرن دون المنزل الذي يردنه، فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فمشت إليه فأخذته ولبسته، ثم تتابعن على ذلك، حتى بقيت عنيزة، فناشدته الله أن يضع ثوبها، فقال لها: لا والله لا تمسينه دون أن تخرجي عُريانة كما خرجت فنظر
1 / 15
إليها مُقبلة ومُدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته ولبسته، فأقبلت النسوة عليه، وقلن له: غدِّنا فقد حبستنا وجوَّعتنا، فقال: أن نحرت لكن ناقتي تأكلن منها؟ قلن: نعم، فاخترط سيفه فعرقبها، ثم كشطها، وجمع الخدم حطبا كثيرا، وأجج نارا عظيمة، وجعل يقطع لهن من كبدها وسنامها وأطايبها فيرميه على الجمر، وهن يأكلن ويشربن من فضلة كانت معه في ركوة له، ويغنيهن وبنبذ إلى العبيد من الكباب، حتى شبعن وشبعوا وطربن وطربوا، فلما ارتحلوا قالت
إحداهن: أنا أحمل حشيته وأنساعه، وقالت الأخرى: أنا أحمل طنفسته، فتقسمن متاع راحلته بينهن، وبقيت عنيرة لم يحملها شيئا، وقال: ليس لك بد من أن تحمليني معك؛ فإني لا أطيق المشي ولم أتعوده، فحملته على بعيرها، فلما كان قريبا من الحي نزل، فأقام حتى إذا جنه الليل أتى أهله ليلا.
وقوله (فيا عجبا لرحلها المتحمل) أي العجب لهن ومنهن كيف أطقن حمل الرجل في هوادجهن؟ وكيف رحلن إبلهن على تنعمهن ورفاهة عيشهن؟
(فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بِلَحْمِهَا ... وَشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ)
يرتمين: يناول بعضهن بعضا، والهداب والهدب واحد، وهو طرف الثوب الذي لم يستتم نسجه، والدمقس: الحرير الأبيض، ويقال: هو القز، وهو المدقس أيضا، وقيل الدمقس والمدقس كل ثوب أبيض من كتان أو إبريسم أو قز، وشبه شحم هذه الناقة وهؤلاء الجواري يترامينه - أي يتهادينه - يهداب الدمقس، وهو غزل الإبريسم المفتول، والمفتل بمعنى المفتول، إلا أنك إذا قلت (مفتول) يقع للقليل والكثير، وإذا قلت (مفتل) لم يكن إلا للكثير، ويقال: ظلَّ يفعل كذا،
1 / 16
إذا فعله نهارا، وبات يفعل كذا، إذا فعله ليلا، وأصل ظلَّ ظلل، فكرهت العرب الجمع بين حرفين متحركين من جنس واحد، فأسقطوا حركة الحرف الأول وأدغموه في الثاني، والعذارى: اسم ظل، ويرتمين: خبرها، والكاف في قوله (كهداب) في موضع جر؛ لأنها نعت للشحم، أي مثل هُدَّاب.
(وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَة ... فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ! إِنَّكَ مُرْجِلِي)
قوله (ويوم) معطوف على قوله (يوم عقرت) ويجوز فيه ما جاز فيه، والخدر: الهودج، ويروى (ويوم دخلت الخدر يوم عنيزة) فعنيزة على هذه الرواية: هضبة سوداء بالشحر ببطن فلج، وعلى الرواية الأولى اسم امرأة، وقوله (لك الويلات) دعاء عليه، و(مرجلي) فيه وجهان: أحدهما أن يكون المراد: أني أخاف أن تعقر
بعيري كما عقرت بعيرك، والثاني - وهو الصحيح - أن يكون المراد إنها لما حملته على بعيرها ومال معها في شقها كرهت أن يعقر البعير، يقال: رَجِل الرَّجُلُ يَرْجَل، إذا صار راجلًا، وأرجله غيره، إذا صيَّره كذلك، وقال ابن الانباري: في قوله (لك الويلات) قولان: أحدهما أن يكون دعاء منها عليه إذ كانت تخاف أن يعقر بعيرها، والقول الآخر: أن يكون دعاء منها له في الحقيقة كما تقول العرب للرجل إذا رمى فأجاد: قاتله الله ما أرماهُ، قال الشاعر:
لَكَ الْوَيْلاَتُ أَقْدِمْنَا عَلَيْهِمْ ... وَخَيْرُ الطَّالِبِي التِّرَةِ الغَشُومُ
وقالت الكندية ترثي اخوتها:
هَوَتْ أُمُّهُمْ، مَاذَا بِهِمْ يَوْمَ صُرِّعُوا ... بِجِيْشَانِ مِنْ أَسْبَابِ مَجْدٍ تَصَرَّما؟
1 / 17
فقولها (هوت أمهم) دعاء عليهم في الظاهر، وهو دعاء لهم في الحقيقة، وحقيقة مثل هذا إنه يجري مجرى المدح والثناء عليهم، لا الدعاء لهم.
(تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعًا: ... عَقَرْتَ بَعِيرِي - يَا امْرَأَ القَيْسِ - فَانْزِلِ)
الغبيط: الهودج بعينه، وقيل: قتب الهودج، وقيل: مركب من مراكب النساء، ونصب (معا) لأنه في موضع الحال من النون والألف، والعامل فيه مال، فأما قولك (جئت معها) فنصبها عند سيبويه على إنها ظرف، قال سيبويه: سألت الخليل عن قولهم (جئت معه) لم نصبت؟ فقال: لأنه كثر استعمالهم لها مضافة، فقالوا: جئت معه، وجئت معه، وجئت من معه، فصارت بمنزلة أمام - يعني أنها ظرف - فأما قول الشاعر:
فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ ... وإِنْ كَانَتْ زِيَارَتُكُمْ لِمَامَا
فعند أبي العباس إنه قدر مع حرفا بمنزلة في؛ لأن الأسماء لا يسكن حرفا الإعراب منها، وقوله (عقرت بعيري) قال أبو عبيدة: إنما قال عقرت بعيري ولم يقل ناقتي لأنهم يحملون النساء على الذكور؛ لأنها أقوى وأضبط، والبعير يقع على
المذكر والمؤنث، وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن تقول بعيري وأن تقول ناقتي؛ لأن البعير يقع عليهما، والجملة التي هي قوله (وقد مال الغبيط بنا معا) في موضع الحال، وقوله (عقرت بعيري) مفعول تقول، وإنما مال الغبيط لأنه انثنى عليها يُقبِّلها فصارا معا في شق واحد.
1 / 18
(فَقُلْتُ لَهَا: سِيرِي، وَأَرْخِى زِمَامَهُ ... وَلاَ تُبْعِدِينِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ)
جناها: ما اجتنى منها من القبل، والمُعلِّل: الذي يعلله ويتشفى به، وابن كيسان يروى المعلَّل بفتح اللام أي الذي عُلِّل بالطيب، أي طُيِّب مرة بعد مرة، ومعنى البيت إنه تهاون بأمر الجمل في حاجته، فأمرها أن تخلي زمامه ولا تبالي ما أصابه من ذلك.
(فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ ... فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ)
ورواية سيبويه (ومثلك بكرا قد طرقت وثيبا) يريد رُبَّ مثلك، والعرب تبدل من ربَّ الواو، وتبدل من الواو الفاء لاشتراكهما في العطف، ولو روى (فمثلك حُبلى قد طرقت ومرضعا) لكان جيدا، على أن تنصب مثلا بطرقت وتعطف مرضعا عليه، إلا إنه لم يُرو، وألهيتها: شغلتها، يقال: ألهيت عن الشيء إلهاءًا، إذا تركته وشُغلت عنه، والمصدر بهى ولُهيا، وحكى الرياشي لهيانا، ولهوت به ألهو لهوًا لا غير، وقوله (عن ذي تمائم) أي عن صبي ذي تمائم، أقام الصفة مقام الموصوف، والتمائم: التعاويذ، واحدتها تميمة، وتجمع تميمة على تميم، ومعنى (محول) أي قد أتى عليه حول،
1 / 19
والعرب تقول لكل صغير: مُحول، ومُحيل، وإن لم يأت عليه حول، وكان يجب أن يكون محيل مثل مقيم، إلا إنه أخرجه على الأصل كما جاء استحوذ.
ومعنى البيت: إنه ينفق نفسه عليها فيقول: أن الحامل والمرضع لا تكادان ترغبان في الرجال، وهما يرغبان فيَّ لجمالي، ويروى مُغيل، والمغيل: الذي تؤتى أمه
وهي ترضعه.
(إذا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ، وَتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَوَّلِ)
ويروى (انحرفت له). قال ابن الأنباري: يقول كانت تحته، فإذا بكى الصبي انصرفت بشق ترضعه، وهي تحته بعد، وإنما تفعل هذا لأن هواها معه. ويروى (إذا ما بكى من حبها) وقال أبو جعفر النحاس: معنى البيت إنه لما قبَّلها أقبلت تنظر إليه وإلى ولدها، وإنما يريد بقوله: (انصرفت له بشق) يعني أنها أمالت طرفها إليه، وليس يريد أن هذا من الفاحشة؛ لأنها لا تقدر أن تميل بشقها إلى ولدها في وقت يكون منه إليها ما يكون، وإنما يريد إنه يقبلها وخدُّها تحته.
(وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَلَىَّ، وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلّلِ)
نصب (يوما) بتعذرت، ومعنى تعذرت امتنعت، من قولهم: (تعذرت عليَّ الحاجة) قال أبو حاتم: أصله من العذر، أي وجدها على غير ما يريد، وقيل: تعذرت جاءت بالمعاذير من غير عذ، يقال: تعذَّر فهو متعذر، وعذَّر فهو مُعذِّر، إذا تعلل بالمعاذير، وآلت: حلفت، يقال: إلى يُولى إيلاء وألية وأَلوة وأُلوة وإِلوة، ونصب (حلفة) على المصدر؛ لأن معنى إلى حلف، والعرب تقول: هو يدعه تركا، ومعنى (لم تحلل) لم نقل أن شاء الله، من التحلة في اليمين، والكثيب: الرمل المجتمع المرتفع على غيره.
1 / 20
(أَفَاطِمَُ مَهْلًا بَعْضَ هذَا التَّدَلُّلِ ... وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِى فَأَجمِلِي)
قال ابن الكلبي: فاطمة هي ابنة عبيد بن ثعلبة بن عامر، قال: وعامر هو الأجدار بن عوف بن عذرة، قال: ولها يقول:
لاَ وَأَبِيكِ ابنْةَ العَامِرِيّ ... لاَ يَدَّعِي القَوْمُ أَنِّى أفِرّْ
وإنما سمي الأجدار لجدرة كانت في عنقه وقوله: (أزمعت صرمي) أي عزمت عليه، والصُّرم: الهجر، والصَّرم: المصدر. وأفاطم: ترخيم فاطمة، على لغة من
قال: يا حار أقبِل، والعرب تجعل الألف ياء في النداء والترخيم. وزعم سيبويه أن الحرو التي يُنبه بها - يعني ينادي بها - يا، وأيا، وهيا، وأيْ، والألف، وزاد الفراء أيْ زيد، ووازيد. ومعنى البيت إنه يقول لها: أن كان هذا منك تدلُّلا فأقصري، وان كان عن بغضة فأجملي، أي أحسني، ويقال: أجملي في اللفظ، ويقال: أدل فلان على فلان؛ إذا ألزمه ما لا يجب عليه دالة منه عليه، وروى أبو عبيدة: (وإن كنت قد أزمعت قتلي).
(وَإنْ تَكُ قَدْ سَاَءتْكِ مِنِّى خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ)
ساءتك: آذتك، والخليقة والخلق واحد. وتنسل: تسقط، يقال: نسل ريش الطائر؛ إذا سقط، ينسل، وأنسل إذا نبت، وقوله: (تك) في موضع الجزم، وأصله تكون، فتحذف النون للجزم، وتبقى النون ساكنة، والواو ساكنة فتحذف الواو لسكونها وسكون النون، فيصير تَكُن، ثم حذفت النون من تكن، ولا يجوز أن تحذف من نظائرها لو قلت: (لم يص زيد نفسه) لم يجز حتى تأتي بالنون، والفرق بين يكون وبين نظائرها أن يكون فعل يكثر استعمالهم له، وهم يحذفون مما كثر استعمالهم له، ومعنى كثرة الاستعمال
1 / 21