শরহ মুশকিল
شرح المشكل من شعر المتنبي
) فَمَا كَان ذلك مَدحًا لهُ ... ولكنه كان هَجْو الوَرى (
اي إذا كان مقصودهُم وممدوحهم مثل كافور، فكفى بذلك هجوًا لهم.
وإن شئت قلت: أحوجني الوَرَى إلى مدح كافور، وذلك سَفهُ، فكان ذلكم المدح هجوا لهؤلاء، إذ لو كانوا كُرماء أحرارًا، أغنوني عن مدحه، والتعرض للقائه.
وله ايضا:
) قال الزمانُ لهُ قولًا فأفهمهُ ... إن الزمان على الإمساكِ عذال (
يقول: من رأى المسكين خشية الإقلال، وموتهم عن الأمول، وتخليتها للأعداء الأضداد غير الشكال، فقد اراه الزمانُ فيهم العِبَر والغير، فكأنه قد حذره الإمساك، ولاَمهَ على ذلك، وليس للزمان على الحقيقه قولٌ، لان الزمان عَرضٌ مُتولد عن حركة الفلك، وليس للعرض قول، إنما هو للجوهر الناطق، لكنه لما اتعظ بتصاريفه، ومشاهدة تكاليفه، صار كأنه لهُ لائمٌ ومثله كثير.
والقول الذي قاله الزمان، إنما هو: لا تمسك المال، فإنك إن فعلت ذلك كان عليك حُوبُه، وللوارث لذته وطيبهُ.
وقد ألم الحارث بن حلزة بهذا المعنى في قوله:
لا تكسعِ الشول بأغبارها ... إنكَ لا تدرِي من الناتجُ
) القائدُ الأسد غذتها براثُنه ... بمثلها من عداهُ وهي أشبالُ (
براثهم: سيوفهم. وأما البرثن في الحقيقة، فهو المخلب، لكن السلاح للإنسان كالبراثن للسباع، اي انه يسير للهيجاء في غلمانه الذي رباهم وضراهم وثيتهم لسلب عداه، الذين هم مثلهم في الشجاعة، وذلك من حد صغرهم إلى كبرهم، وقوله: وهي أشبال: جملة في موضع الحال، إذ رددتها إلى المفرد، فكأنك قلت: غذتها براثنهُ صغارًا، والشبل: ولد الأسد.
) وقد يُلقبهُ المجنُون حاسدُهُ ... إذا اختلطن وبعضُ العقل عُقالُ (
معنى هذا أن) فاتكا (كان يُلقب) المجنون (، وهو لقب له - كما تراه - قبيح، فاحتال المتنبي، لتأوله على أحسن الوجوه، فقال: إنما جنونه إذا تزحمت السيوف، واختلطت الصفوف، في الاقتحام والاهتجام. ثم قال: وبعضُ العقل عُقال: لان الجُبن يتصور لأهله في مَعرض الحزم والعقل، وهو مذموم. وعُقال: اي انه يعقلهم عن الجراءة، لان العُقال ظَلع يكون بالبعير ساعة ثم ينشط.
) إذا العدا نشبت فيهم مخالبُه ... لم يجتمع لهُمُ حلمٌ ورئبالُ (
هذا تفسير للبيت الأول، واعتذار من تلقيبه) المجنون (. يقول: فهو في الحرب أسد، والأسد لا يُوجد عنه الحلم، فلا يُلامن في عدمه الحِلم، كما لا يلام الأسد، ولا يُسمينَّ) مجنونًا (لانه قد تحول في الحرب عن طبيعة الإنسان، إلى طبيعة الأسد، وإنما كان يسمى) مجنونًا (لو فارق الحلم وهو في النوع الإنساني، فلا يصح عليم اسم الجنون كما لا يصح على الأسد.
والرئبال: الأسد يُهمز ولا يهمز. وليس ترك الهمز فيه على التخفيف القياسي، إذ لو كان كذلك لم يقل في الرئبال والريبال. إنهما لُغتان، كما لا قول في) ذيب، وذئب (أنهما لغتان. وذلك أن تحقيق الهمز وتخفيفه لا يُسمى فيهما لغة، ما دام التخفيف قياسًا، إذ التخفيف على القياس في فئة المحقق. ويدلك على أن) ريبالا (ليس بتخفيف قياسي، وإنما هي لغة قولُهم في جمعه: رَيابيل. فلو كان) رِيبالا (على التخفيف، لقيل في جمعه) رآبيل (لان العلة التي كانت تقلب الهمزة ياء، وهي الكسرة في رئبال، وقد زالت في حد الجمع، وعاقبتها الفتحة. وينبغي أن يكون وزن الكلمة) فِعلالا (. وإن كانت الياء لا تكون أصلا في بنات الأربعة، وأمثال ذلك إن كانت زائدة كان في الكلام فِيعَال. وهذا بناء قد نقاه سيبويه عن الأسماء، إنما هو للمصادر.
فلما كان ذلك أشذذنا) رِيبالًا (فجعلنا الياء فيهِ أصلا لعدم) فِيعَال (في الاسم، كما حملت الضرورة سيبويه، على أن يعتقد الواو في) وَرَنتل (أصلًا، وإن كانت الواو لا تكون أصلا في بنات الأربعة.
ومن العرب من يقول:) رَئبال (بفتح الراء فإذا جاز ذلك، فالياء حينئذ زائدة وليست من لفظ رئبال، ولو أسعده الوزن والقافية فقال) حلمٌ ورأبلة (لُيوفق بين المصدر والمصدر، لكان أذهب في الصنعة.
فقد قالوا:) ما اشد رأبلته (. وحكى ابو زيد عن العرب: خرج المُترأبلُون) وهم المتلصصون (ليلًا كالأسد.
واستجاز أن يجعل لفاتك مخالب، وإنما المخالب للسبُع، لكن سوغه ذلك جعلُه إياه رئبالا. والرئبال ذو مخالب، لان المِخلب للسبُع كالظفُر للإنسان.
1 / 92