ذات يوم، إِذ طلع علينا رجل شديدُ بياض الثياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه
أثرُ السفر، ولا يعرفُه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتبه إلى ركبتيه،
ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يامحمد! أخبرني عن الإِسلام. قال: (الإِسلام: أن
ــ
قوله: (ذات يوم) ظرف لمعنى الاستقرار في الخبر. و(ذات) يجوز أن يكون صله، قال
صاحب النهاية: في الحديث (يطلع عليكم رجل من ذي يمن على وجهه مسحة من ذي ملك)
كذا أورده عمرو الزاهد، وقال: (ذي) هنا صلة؛ وأن يكون غير صلة، في المغرب: ذو بمعنى
الصاحب، تقول للمرأة: امرأة ذات مال، ثم أجروها مجرى الأسماء التامة المستقلة بأنفسها،
فقالوا: ذات قديمة أو محدثة، ثم استعملوها استعمال النفس والشيء، فعلى هذا قوله: (ذات
يوم) يفيد من التوكيد مالا يفيده لو لم يذكر، لئلا يتوهم التجوز إلى مطلق الزمان، نحو
قولك: رأيت نفس زيد، وقولك: رأيت زيدًا.
وقوله: (لا يرى عليه أثر السفر) (مح): يعنى تعجبنا من كيفية إتيانه، ووقع في خاطرنا أنه
ملك، أو من الجن؛ لأنه لو بشرًا إما أن يكون من المدينة، أو غريبًا، ولم يكن من
المدينة؛ لأنا لا نعرفه، ولم يكن إتيانه من بعد؛ لأنه لم يكن عليه أثر السفر من الغبار وغيره.
وقوله: (حتى جلس) متعلق بمحذوف، تقديره: استأذن وأتى حتى جلس عند النبي (عليه
الصلاة والسلام).
وقوله: (فأسند ركبتيه إلى لركبتيه) يقال: أسند، إذا اتكأ على شيء وأوصل. وأنما جلس هكذا
ليتعلم الحاضرون جلوس السائل عند المسئول؛ لأن الجلوس على الركبة أقرب إلى التواضع
والأدب، واتصال ركبة السائل بركبة المسئول يكون أبلغ في استماع كل واحد من السائل
والمسئول كلام صاحبه، وأبلغ في حضور القلب، وألزم للجواب؛ لأن الجلوس على هذه الهيئة
دليل على شدة حاجة السائل إلى السؤال، وتعلق قلبه واهتمامه إلى استماع الجواب، فإذا عرف
المسئول هذا الحرص والاحتياج من السائل إلى يلزم على نفسه جوابه، ويبالغ في الجواب
أكثر وأتم مما سأل السائل. تم كلامه.
قوله: (وضع يديه على فخذيه) قال الشيخ: التوربشتى: الضمير في الكلمتين راجع إلى
جبرئيل ﵇ فلو ذهب مؤول إلى أن الثاني يعود إلى رسول الله ﷺ لم ينكر عليه،
لما يدل عليه نسق الكلام من قوله: (وأسند ركبتيه إلى ركبتيه) غير أنا نذهب إلى الوجه الأول،
لأنه أقرب إلى التوقير، وأشبه بسمت ذوى الأدب. وذهب محيي السنة إلى الوجه الثاني فى
كتابه المسمى ب (الكفاية). وكذا إسماعيل بن الفضل التيمى في كتابه المسمى ب (الترغيب
والترهيب).
2 / 422