لذ بالقرآن
يقول ابن القيم عن كتاب الله ﷿ (القرآن): [القرآن كلام الله] قال ﷺ: (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه).
قال الحسن البصري رضوان الله عليه: هنيئًا لك يا ابن آدم إن أردت أن تكلم الله فأحرم بالصلاة، وقد تقدم أن في الصلاة مدلولات غريبة! فنحن حين نعدد فرائض الصلاة نقول: النية، ثم: تكبيرة الإحرام، وقولنا تكبيرة الإحرام مشعر بفريضة الحج، فإني حين أعتمر أو أحج أحرم، فكأن المصلي يذهب بجسده وروحه إلى هذا المكان الذي يجب ألا يدخله إلا محرمًا، وكأن العبد في دخوله إلى الصلاة لا يصح له الدخول على الله إلا بعد الإحرام، أما هيئتها وهي رفع اليدين إلى حذو المنكبين فهي مشعرة أن المؤمن قد ألقى الدنيا خلف ظهره واستقبل الله بقلبه، وغيرها من أسرار الصلاة.
فأنا بعد أن ألقيت الدنيا خلف ظهري واستحضرت الله ﷿ بكياني ووجهي أدخل في الصلاة، فهنيئًا لك يا ابن آدم؛ إن أردت أن تكلم الله فأحرم بالصلاة.
ثم قال الحسن: وإن أردت أن يكلمك الله فاقرأ القرآن، وفي الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، إذا قرأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، يقول الله ﷿: حمدني عبدي، فإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة:٣]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:٤]، قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، قال الله: هذه بيني وبين عبدي، فإذا أكمل إلى قوله تعالى: ﴿وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:٧]، قال الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل).
إذًا: فأنا إذا أردت أن أكلم الله ﷾ أحرم بالصلاة، فإذا أحرمت بالصلاة فأنا أكلم الله ﷿، والكلام مع الله يستلزم طهارة أمور أربعة: طهارة الثوب والبدن من النجاسات، وطهارة الجوارح من المعاصي، طهارة القلب من الأحقاد والآثام والأمراض، طهارة السر عما سوى الله ﷿.
إذا أراد الأب أن يسجل ابنه في المدرسة، سيقال له: نريد شهادة الميلاد، ومهنة الأب وعنوان السكن، ورقم التلفون، والزي المدرسي والمصروفات وسيارة النقل، وغيرها من المطالب وكل هذه الأمور لابد أن تسجل وتوضع في الملف، كل ذلك لمجرد أن الابن يدخل المدرسة، فما بالنا بمن يلقى الله ﷿؟ إذًا لابد أن يكون طاهر البدن طاهر الثوب.
ولذلك ينبغي على العبد وهو داخل على الله في الصلاة ألا يضع في ذهنه أن الأمر دقيقتين ثم ينصرف، بل لابد أن يكون قد هيأ نفسه تهيئة كاملة، كان علي ﵁ يصفر وجهه ويهتز جسده إذا جاء وقت الصلاة فيسأل: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: لقد جاء وقت الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملناها وأشفقن منها وحملتها أنا إني كنت ظلومًا جهولًا.
وإذا أردت أن يكلمني الله، فإني اقرأ القرآن، فالقرآن يرفع مستوى العقيدة لدينا، ويرفع مستوانا نحن الضعفاء أن الله يكلمنا، ولذلك قال ابن مسعود: اقرأ القرآن وكأنه عليك قد نزل، وكان يقرأ القرآن كأنه أنزل عليه، وظل تلميذه الحسن البصري يترقى ويتعلم على يده ﵁ حتى بلغ مبلغًا عظيمًا، عبر عنه فقال: قرأت القرآن على يد عبد الله بن مسعود فلما حفظته وتدبرت بعض ما فيه من معان ترقى بي الحال فصرت كأني أسمعه من رسول الله، فلما ترقى بي الحال كنت كأني أسمع الله ﷿ يبلغ جبريل ليبلغ محمدًا ﷺ.
وفي الدعاء وصل به إلى أن قال: والله إني لأدعو الله ﷿ وأرى يد الله تكتب لي الإجابة.
فقد كان عنده يقين بإجابة ربه له، وفي الحديث (ادع الله وأنت موقن بالإجابة) ولا يحقرن الإنسان نفسه فإن رحمة الله عظيمة وخيره عميم.
يذكر أن أحد العلماء الصالحين في مصر في عهد التابعين ﵃ مات جاره فدعوه ليصلي عليه، فأبى، وكان جاره هذا لا يترك موبقة ولا كبيرة ولا محظورًا إلا وارتكبه والعياذ بالله، وكان مجاهرًا بالمعصية.
فذهبوا وصلوا على الرجل ودفنوه، فرآه هذا العالم في المنام في أول ليلة مات فيها يرفع في الجنة، ففوجئ من ذلك وقال: ما الذي أوصلك إلى هذا المكان؟ فقال له: لو كنت من الذين يملكون خزائن رحمة الله إذًا لأمسكت خشية الإنفاق.
فلما أتى الصبح ذهب إلى زوجته وقال لها: أستحلفك بالله ماذا كان يصنع زوجك، فقالت: والله ما كان يصنع خيرًا قط إلا أنه في كل ليلة جمعة يجمع يتامى الحي ويجلس معهم على مائدة واحدة يطعمهم في أفواههم ويقول: ادعوا لعمكم عسى أن يغفر الله له.
فرحمة الله واسعة، وفي الحديث: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئًا)، كما لا ينبغي للمسلم أن يرجئ العمل فيقول: أنتظر حتى يكون عندي قوة وأصلي عشر ركعات، بل لو عنده قوة يصلي بها ركعتين فليصل ولا يرجئ وهكذا في قراءة القرآن وغيرها من الأعمال.
ولا يعني ذلك عدم الاهتمام بالمواظبة، وإنما التنبيه على أنه لو فتح باب خير دخل العبد فيه ولا ينتظر، فهي فرصة قد لا تعوض.
ومن رحمة الله بعباده أنه جعل للعباد كفارات، وهم الذين لا يسلمون من المعاصي الكفارات، وفي الحديث قال: (من الحج إلى الحج كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)، بل ومن العمرة إلى العمرة، ومن رمضان إلى رمضان، ومن الجمعة إلى الجمعة كفارة.
وليس ذلك فحسب، بل من الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها.
ولذلك كان عباد الله الصالحون يشعرون عندما يقرءون القرآن برحمة الله وبغضب الله، فكان الصحابة ﵃ يقولون: كنا والقرآن ينزل على رسول الله ﷺ نرى الجنة والنار، وليس المراد برؤيتها أنهم يروها رأي العين، ولكن المعنى أن قلوبهم تحس بريح الجنة، وعظمة نعيمها، وتحس بقبح النار وعذابها، حتى كأن تلك القلوب قد رأتها.
ومما علمنا أهل العلم -جزاهم الله عنا خيرًا- أن الرضا بما ابتلي العبد به صورة من صور الجنة في الدنيا أي: أن الذي عنده حالة من الرضا فقد أعطاه الله جزءًا من الجنة في الدنيا، قال الحسن ﵁: يا بئس أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا فيها أحلى ما فيها الرضا، عن الله وبالله ﷿، فالذي ينبغي على الإنسان أن يكون راضيًا؛ فإن من رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.
فاللهم اجعلنا من الراضين يا رب العالمين.
6 / 3