الشرح: العمر هو مدة بقاء النفس متصرفة في البدن، وهو مدة الحياة. والصناعة ملكة نفسانية يقتدر بها على استعمال موضوعات B ما نحو غرض من الأغراض على سبيل الإرادة، صادرة عن بصيرة بحسب الممكن فيها، فجميع العلوم إذا صنائع. وأما الطويل والقصير: فإن الطويل يقال مطلقا، كقولنا: الزمان طويل؛ ويقال مضافا، وكذلك القصير، ويجب أن يكون حقيقة في غير المضاف لأن الطويل هو شيء له طول، والطول هو الامتداد ولهذا يقال: "الخط طول لا عرض له" والامتداد غير مضاف، فالطويل كذلك ولا يمكن أن يكون الشيء قصير إلا إذا كان متناهيا. ويدل على تناهي العمر وجوه: أحدها: البدن مركب من أجزاء أماكنها الطبيعية متباينة، واجتماعها بالقشر، والقشر لا يدوم. وثانيها: لا يمكن تكون البدن إلا من جسم رطب مقارن لحرارة تعقده وتنضج غذاءه وتحلل فضلاته، فيجب أن تبخره لا محالة، لكن الغذاء يقوم بدل المتحلل، والقوة الغاذية جسمانية، فتكون متناهية. وثالثها: بقاء البدن بدون الغذاء محال، وآلة القوة الغاذية هى الحرارة فيلزمها تحليل البدن، فإذا طال الزمان قوى التحليل لدوام المؤثر في متأثر واحد، A ولا يزداد الغذاء لأنه ليس واحدا فيدوم تأثير المؤثر فيه، وذلك مؤد إلى الجفاف وانطفاء الحرارة الغريزية لفناء مادتها، التي هى الرطوبة الغريزية، التي هى كالدهن للسراج، ويلزم ذلك ضعف الهضم وغلبة الرطوبات الفضلية التي هى كالماء للسراج. ورابعها: لو بقيت أشخاص الناس بلا نهاية لم يبق لما عداهم مادة ولا مكان ولا رزق، فيجب بقاءهم على العدم دائما وبقاء الأولين على الوجود دائما، وهو ظلم. وإذا ثبت أن العمر متناه، فأقول إنه قصير، لأن البدن رطب، قابل للتحلل سريعا، وقد فارقته حرارة غريزية محللة تعاضدها الحرارة المستفادة من الحركات البدنية والنفسانية والحرارة الخارجية، وكل ذلك محلل للبدن، فالعجب من بقائه لا من سرعة فنائه. وغالب الأعمار ما بين الستين والسبعين سنة، وأطولها مائة وعشرون سنة وقلما تجاوز ذلك، والعمدة في ذلك على الاستقراء، وأما ما جاء في التواريخ وصدقتها الكتب الإلهية من إثبات الأعمار الطويلة المجاوزة لتسع مائة وخمسين سنة فلعل B ذلك كان قبل زمان أبقراط بكثير، فإن تقدير أبقراط الأسنان هو بحسب هذا العمر. فإن قيل: إذا كان الموت واجبا والعمر قصير، فأي فائدة في صناعة الطب. قلنا: ليس الغرض من الطب أن يمنع الموت أو يطول العمر مطلقا أو بحسب نوع الإنسان، بل أن يبلغ كل شخص أجله المقدر له بحسب قوة مزاجه ومقدار رطوبته وحرارته، بأن يحمي رطوبته عن العفن البتة وعن التحلل الزائد على المجرى الطبيعي. فإن قيل: إما أن تكون إرادة الله تعالى أو علمه، أو الطالع النجومي، اقتضى أن زيد لا تعفن رطوبته أو لا تتحلل بأكثر من المقدار الواجب، أو لا يمرض، أو أنه يبريء من مرضه، أو أنه اقتضى أضداد ذلك؛ فإن كان الأول استغنى عن الطب، وإن كان الثاني لم يفد استعماله. قلنا: ينبغي لقائل هذا أن يستريح من كلفة الطعام والشراب، فإن كانت هذه الأشياء المذكورة اقتضت حياته لم يضره ترك الغذاء والشراب وإلا لم يفده استعمالهما، وما يجيب عنه فهو جوابنا. وأما أن الصناعة طويلة: A ونريد بالصناعة صناعة الطب؛ لأن الألف واللام لها في اللغة ثلاثة معان: أحدها: الاستغراق، بأن يكون موقعها موقع كل، ولا يستقيم بأن يكون هذا مرادا لأن بعض الصنائع قصيرة جدا. وثانيها: تعريف الحقيقة، وظاهر أن هذا غير مراد، فإن نفس مسمى الصناعة من حيث هى هى لا يصدق عليه أنه طويل. وثالثها: المعهود، والمعهود هاهنا هو الطب، ويدل على طوله أن من جملة موضوعاته بدن الإنسان من جهة ما يصح ويمرض، وبدن الإنسان دائم التغير في كمه وكيفه لأن التحليل دائم والغذاء الوارد لا يوجد منه ما هو شبيه به في كيفياته من كل جهة، فهو يغيره لا محالة؛ وكذلك الهواء الخارجي في أكثر أوقاته لا يكون شبيها بكيفية بدن الإنسان. وإذا كان التغير دائما كانت أحواله متبدلة دائما، وأحوال الموضوع هى مطالب الصناعة، فتكون مطالب هذه الصناعة كثيرة جدا، وهذا معنى طولها. فثبت أن العمر قصير في نفسه، وأن الصناعة طويلة في نفسها، ويلزم ذلك كون كل واحد منهما كذلك بالقياس B إلى الآخر. ولو كان مراده أن العمر قصير بالنسبة إلى الصناعة، وأن الصناعة طويلة بالنسبة إلى العمر كما هو المشهور، لكان ذلك تكرارا بلا معنى. ولو قيل: إن العمر قصير بالنسبة إلى أكثر الصنائع، وأن الطب طويل بالقياس إلى تلك الصنائع، فيلزم أن يكون العمر قصيرا جدا بالنسبة إلى الطب لحسن، ولكنه بعيد عن اللفظ. وأما أن "الوقت ضيق" والوقت والطرفة واللحظة والساعة كلها متقاربة المفهوم وتستعمل للزمان القصير، ويريد بذلك الزمان الذي يمكن الإنسان صرفه إلى تحصيل هذه الصناعة من جملة عمره، لأن في بعض العمر يكون الإنسان طفلا أو شيخا أو نائما أو مشغولا بمهام. ويمكن أن يكون مراده الزمان الذي يبقى فيه بدن الإنسان على حاله، ليكون ذلك دلالة على طول الصناعة. وأما أن "التجربة خطر" فلأن موضوع الصناعة قابل للفساد بسرعة. ثم كثير من الصنائع وإن شاركت الطب في قبول موضوعها الفساد، إلا أن موضوع الطب أشرف؛ فكان خطره أعظم. والتجربة هى امتحان ما يؤثره الشيء في البدن بإيراده عليه، وذلك على قسمين؛ أحدهما: امتحان ما اقتضاه القياس، كما إذا دل القياس A على برودة الكافور فأردنا امتحان ذلك. وثانيهما: امتحان الشيء من غير قياس. ولا شك أن الخطر في القسم الثاني أعظم. وأما أن "القضاء عسر" والقضاءهو الحكم، فقيل: أراد الحكم على المريض بما يؤول إليه حاله من صحة أو عطب، ولا شك في عسر ذلك. وقيل: أراد الحكم بموجب التجربة، وذلك عسر أيضا؛ لأن التجربة إنما يوثق بها إذا كانت على بدن إنسان، وكان الوارد خاليا عن كل كيفية غريبة، واستعمل في علل متضادة وبسيطة بما قوته مقاربة لقوة العلة، وكان فعله أولا ودائما أو أكثريا؛ ولا شك أن ما (2) توقف على ذلك فهو عسر، وخصوصا إذا كنا استعملنا صنوفا من المعالجة، كالفصد والاستفراغ وسقي أدوية فحصل النفع، فإنا لا ندري عن أيها حصل. وقيل: أراد بالقضاء القياس؛ لأن القياس يلزمه الحكم بموجبه فأطلق اسم اللازم على الملزوم. ولا خفاء بعسر معرفة صحيح القياس من فاسده، ولو سهل التمييز بينهما لما خالف العلماء ولا ناقض أحدهم نفسه. ونقول:العلم الذي يميز بين صحيح القياس وفاسده هو المنطق، فلابد للطبيب القايس من معرفة المنطق. فظهر B أن العمر قصير وأن الصناعة طويلة، ومع ذلك فالوقت الذي يمكن الإنسان تعلمها فيه ضيق، ومع ذلك فتعلمها صعب؛ لأن آلة اكتسابها هو التجربة وهى خطر والقياس عسر. وأما باقي الكلام فبعضهم جعله منفصلا عن الأول وبعضهم جعل الكل فصلا واحدا، وجالينوس قال: سواء كان الجميع فصلا واحدا أو فصلين فليس الباقي على نهج الأول؛ لأن الأول إخبار عما ذكرناه، والثاني مشورة، قال: وهو مشورة على قاريء الكتاب إذا أراد امتحانه، لأنه قد يقع الخطأ بإغفال هذه الأشياء فيظن كذب ما تضمنه الكتاب. أقول: بل وإن كان ظاهره كالمشورة، فالمراد منه بالذات ليس المشورة، بل ليكون كالبرهان على صعوبة استعمال هذه الصناعة، كأنه قال: ومع ما بينا من صعوبتها وطولها وقصر العمر عنها فاستعمالها عسر؛ لأنه لا يكفي في استعمالها الاقتصار على فعل ما قد فرغ العمر في تعلمه، بل يحتاج إلى مراعاة أمور أخرى غير مضبوطة، كشهوة المريض وأخلاقه ومن يحضره من الخدم والعواد، وأشياء أخر خارجية كالأخبار الواردة عليه، A وغير ذلك لتكون هذه على وجه ينتفع به، ولا شك أن ذلك صعب جدا. وهاهنا شك أورده فاضل في زماننا وقد زدنا في تقريره ما يفعله المريض ومن يحضره، والأشياء التي من خارج إما أن تكون مما ينبغي أن يفعل فتكونداخلة فيما يتوخاه، أو تكون مما ينبغي أن لا تفعل فينبغي أن تقتصر على فعل ما ينبغي دونها، أو لا يكون مما ينبغي أن يفعل ولا مما ينبغي أن لا يفعل فلا حاجة للطبيب إلى التعرض لها البتة. وجوابه: إن معنى قولنا: "إن كذا (3) مما ينبغي يفعل" هو أن الصناعة تقتضيه، وهذه الأشياء ليست من الأشياء التيتقتضيها الصناعة. ولكن ليس كل ما (4) تقتضيه الصناعة لا ينبغي للطبيب أن يفعله، فإن كون الطبيب عدلا أمينا وغير ذلك ليس مما تقتضيه الصناعة وينبغي للطبيب أن يكون كذلك. فإن قيل: العادة جرت في أوائل الكتب أن تمدح الصنائع وترغب فيها،فكيف ابتدأ أبقراط ببيان صعوبتها وطولها. قال بعضهم: غرضه الصد عنها؛ وهو قبيح وبعيد عن المعقول. وقال آخر: ليبين أنها B تخمين؛ وهو بعيد عن اللفظ وغير لائق بافتتاح الكتب. وقال آخر: لإقامة عذره في تصنيف الكتب لئلا تدرس الصناعة ولا يسع عمر الإنسان لابتداعها. وقال آخر: ليبين السبب في تصنيفه هذا الكتاب على طريق الفصول ليسهل حفظه وفهمه فيمكن في العمر القصير أن ينال منها طرفا. وقال آخر: لإقامة عذر الطبيب إذا أخطأ. وقال آخر: ليحبب (5) المتعلم. وقال آخر: لامتحان همة الطالب. وهذه الأقاويل كلها حسنة ويمكن أن تكون مراده. واعلم أن جميع الشراح اقتصرت همتهم على بيان وجه افتتاحه بهذا الفصل، ونحن نرجوا أن يوفقنا الله لبيان ترتيبه لكل فصل.
[aphorism]
পৃষ্ঠা ৮