108

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية

شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية

জনগুলি

فصل الشرك بالله أعظم الذنوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نواصل درسنا في الفتاوى، ولا زلنا في الحديث عن موضوع حقيقة العبودية، وفي هذا الدرس سنذكر بعض الصور التي تنافي توحيد الإلهية والربوبية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [اعلم رحمك الله! أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، وفي الصحيحين أنه ﷺ: (سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)، والند: المثل.
قال تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:٢٢]، وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ [الزمر:٨]، فمن جعل لله ندًا من خلقه فيما يستحقه ﷿ من الإلهية والربوبية فقد كفر بإجماع الأمة.
فإن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته؛ لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب، وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر مقهور بالعبودية، فكيف يصلح أن يكون إلهًا، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ [الزخرف:١٥]، وقال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم:٩٣]، وقال الله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء:١٧٢]، وقال تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات:٥١]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر:١١].
فالله سبحانه هو المستحق أن يعبد لذاته، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، فذكر (الحمد) بالألف واللام التي تقتضى الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله، ثم حصره في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، فهذا تفصيل لقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، فهذا يدل على أنه لا معبود إلا الله، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد سواه، فقوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهى.
«وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب ﷾ هو المالك وفيه أيضًا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء].
قوله ﷿: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] شملت تحقيق أنواع التوحيد جميعًا، لا سيما وأنها سبقت بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، والحمد للمحمود الذي يستحق الحمد لكماله وجلاله ﷿، والحمد متضمن لمعاني الكمال ومعاني الألوهية والربوبية؛ لأنه لا يستحق الحمد إلا الكامل في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي ربوبيته وإلهيته، خاصة أيضًا إذا أضيف لها رب العالمين، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢]، الحمد هو للمحمود سبحانه، ثم قوله: (لله) تشمل الألوهية بالضرورة وتشمل الربوبية بالاستلزام، (رب العالمين) تدخل فيها الربوبية بالضرورة والإلهية بالاستلزام أو بالتضمن.
ثم بعد ذلك أعقبها بقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، وبين الشيخ أن هذه الآية قد جمعت جميع الدين؛ لأن «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» تعني: جميع العبودية لله ﷿، وتحقيق توحيد الإلهية، «وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» جمعت الأمرين، أي: توحيد الإلهية والربوبية؛ لأن الاستعانة لا تكون إلا بالمعين، والإعانة فعل الله ﷿، وهو الذي يملك الإعانة مطلقًا، ولا يملك غيره أن يعين العباد من كل وجه، فهو سبحانه له التصرف في الخلق، وبيده مقاليد السماوات والأرض.
فإذًا: هو المعين في ربوبيته وإلهيته، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] فجمعت جميع أنواع التوحيد.

9 / 2