شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية
জনগুলি
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [١]
إن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول هو الإيمان بالله ورسوله، فقد فطر الله عباده على الاعتراف بوجوده، وجعل طريقهم إلى ما يرضيه باتباع شرعه ومتابعة نبيه، ومما يدل على أن هذا الأصل هو أعظم المطلوبات وأجل الواجبات أن من أخل به أو لم يأت به ابتداء قوتل عليه.
1 / 1
أول واجب على العباد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فسنشرع في هذا الدرس من المجلد الثاني من فتاوى شيخ الإسلام ويبدأ فيه بمسألة مهمة في توحيد الربوبية، وأحب أن أتكلم عنها قليلًا قبل أن نبدأ بها؛ لأنها من المسائل الكلامية التي فيها شيء من الغموض والتعقيد أحيانًا، وهي مسألة أول الواجبات، ما هو أول واجب على العباد؟ هذه مسألة بدهية فطرية، لكن مع ذلك بعد دخول الأهواء على الأمة، وبعد وجود الافتراء، وبعد أن مالت كثير من الفرق إلى مناهج الفلاسفة في تقرير الدين، ومناهج أهل الكتاب، ومناهج الصابئة، ومناهج المجوس، ومناهج غيرهم من الأمم الأخرى، دخلت مفاهيم غريبة وبعيدة كل البعد عن مقتضى الفطرة والشرع، فصارت مسالك لأقوام منهم علماء، والسبب الذهول عن الحقيقة الفطرية البدهية، وهي أن أول واجب على العباد جميعًا الإيمان بالله ﷿، لكن ليس مجرد الاعتراف بوجود الله، إنما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ لأن مسألة الإيمان بالله لا تعني مجرد الإقرار؛ لأن الإقرار فقط ليس هو الموصل إلى ما يرضي الله ﷿ ويسعد البشر، لا سيما وأن الإقرار فطري عند جميع الناس، ليس هناك أمة من الأمم تنكر مبدأ وجود الله أو وحدانية الله بالخلق والربوبية، ليس هناك أمة تنكر ذلك وإن وجدت بعض النزعات النادرة.
إذًا: القضية في أول واجب هو: ما المطلوب من العباد؟ المطلوب من العباد هو عبادة الله المتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولذلك صار مفتاح الدخول في الإسلام الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وبذلك نقول: إن أول واجب هو الإقرار بالشهادتين، أول واجب هو تحقيق التوحيد، أول واجب هو تحقيق الإيمان، أول واجب تحقيق الإسلام وذلك يكون بأركان الإسلام.
هذا ما سيبينه الشيخ ويرد على المخالفين، والمخالفون لهم أقوال كثيرة في أول واجب، وسيأتي الكلام عنها الآن وسترون فعلًا مدى بعد المتكلمين عن المنهج الحق في تقرير التوحيد وبيانه.
1 / 2
أول العلم الإلهي ومبدؤه ودليله الأول عند الرسول وعند المؤمنين
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قدّس الله روحه: [بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
قاعدة أولية: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله، وعند الرسول ﷺ: هو وحي الله إليه، كما قال خاتم الأنبياء: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وقال الله تعالى له: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ:٥٠].
وقال: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى:٧].
وقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف:٣]، فأخبر أنه كان قبله من الغافلين.
وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى:٥٢].
وفي صحيح البخاري في خطبة عمر لما توفي النبي ﷺ كلام معناه: أن الله هدى نبيكم بهذا القرآن فاستمسكوا به فإنكم].
في السنن وردت هذه العبارة عن عمر بصيغ كثيرة، اخترت منها ما ورد في البخاري، وهو أن عمر ﵁ قال: قد جعل الله بين أظهركم نورًا تهتدون به، بما هدى الله به محمدًا ﷺ.
وفي بعض الروايات بعد قوله: إن الله هدى نبيكم بهذا القرآن أو نحو هذا اللفظ قال: فخذوا به واهتدوا، بدل فإنكم وهناك عبارات أخرى، فالقصد أنه يتم الاستدلال بهذا الشاهد الذي أورده شيخ الإسلام بهذا اللفظ وبما يرادفه من الألفاظ الأخرى.
هنا وقفات موجزة عند كلام الشيخ منذ أن بدأ.
أراد الشيخ أن يبين تقرير أول الواجبات، وأنه الإيمان بالله ﷿، الذي هو التوحيد والهدى واتباع المرسلين، قعّد لذلك بقاعدة وهي: أن أصل العلم الإلهي ومبدأه ودليله الأول عند الذين آمنوا: هو الإيمان بالله ورسوله إذًا: هذا هو أول واجب؛ لأن هذا هو مبدأ العلم الإلهي، وهو أصله ومبعثه ومنشؤه وغايته في الجملة الإيمان بالله ورسوله.
قال: (وعند الرسول ﷺ: هو وحي الله إليه) يقصد أن الرسل جميعًا هم الوسائط بين الله وبين خلقه، فالواجب على الرسل التلقي عن الله، وأن العلم الإلهي هو من وحي الله ﷿، وأن الرسل إنما يطلبون الهدى من الله، والرسل هم مبلّغون للأمم فيكون الواجب على أتباع الرسل وعلى الذين آمنوا الإيمان بالله وطاعة الرسول ﷺ.
وقد فرّق بين الرسول ﷺ وبين المؤمنين؛ لأن الرسول ﷺ لا يتأتى منه أن يطيع نفسه إنما يطيع الله، فالرسول مطيع لله ﷿، والأمة مطلوب منهم أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول ﷺ؛ لأن الله أمرهم بذلك.
ثم ذكر ما أشار إليه النبي ﷺ من أول مطلوب من العباد، وأنهم إذا أخلوا بهذا المطلوب قوتلوا، وهذا يدل على أن هذا أعظم المطلوبات؛ لأنه لا يكون القتال إلا على أعظم الواجبات، وأول الواجبات، فالنبي ﷺ حين ذكر القتال ذكر أول ما يقاتل عليه الناس هو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأنهم إذا شهدوا بهما والتزموا بلوازمهما عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فيكون هذا دليلًا قاطعًا على أن أول واجب من العباد يُلامون ويؤاخذون ويقاتلون إذا تركوه هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لا كما يقول المتكلمون الذين زعموا أن أول واجب هو النظر والقصد إلى النظر، أو هو التفكير، أو هو التوصل إلى معرفة الله من خلال الألفاظ والمصطلحات المحدثة، والمقاييس العقلانية المعقدة، كل هذا ليس مطلوبًا من العباد؛ لأن الله ﷿ كفاهم، بأن فطر عباده على الاعتراف بوجوده، لكنهم لا يعرفون الطريق إلى ما يرضي الله ﷿ إلا بالعبادة على ما شرع الله وشرعه الرسول ﷺ.
ثم ذكر الأدلة الفرعية على هذا، منها: قوله ﷿: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ:٥٠] في هذه الآية دلالة على أن الفارق بين الضلالة وعدمها هو اتباع الوحي؛ لأن الوحي هو الطريق إلى الهدى، الذي هو أول واجب، فأول واجب على العباد أن يهتدوا بهدي الله، أن يهتدوا بالحق الذي جاء به الرسل، وهذا إنما يتم بما أوحى الله إلى رسوله.
وكذلك في هذه الآية د
1 / 3
تقرير الحجة في القرآن ببعث الرسل
قال رحمه الله تعالى: [وتقرير الحجة في القرآن بالرسل كثير، كقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:١٦٥].
وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:١٥].
وقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ﴾ [طه:١٣٤].
وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ [القصص:٥٩] الآية.
وقوله: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك:٨].
وقوله: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الزمر:٧١] الآية.
وقوله: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الأنعام:١٣٠] الآية].
وجه الاستدلال بهذه الآيات واضحة، وهو أنه لو كان الناس يستقلون بعقولهم لإدراك ما يرضي الله ﷿ لما احتجوا بأنهم يحتاجون إلى بعث الرسل، ولما كان بعث الرسل هو الطريق الموصل إلى رضا الله ﷿، ولذلك فإن أول واجب على العباد لا يمكن أن يدركوه بعقولهم، أي: البداية لا يمكن أن تدرك بمجرد العقول، لا تدرك إلا من خلال الرسل الذين بعثهم الله لهداية العباد، لذلك أخبر الله ﷿ أنه لو لم يبعث الرسل لاحتجت الأمم بذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:١٥]، وقال: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:١٦٥]، فلو كان الناس يدركون الواجب ويدركون ما يرضي الله بعقولهم لما قرر الله ﷿ هذه الحجة، وجعلها حجة قائمة لو لم يبعث الله الرسل، فهذا دليل على أن الناس لا يدركون الواجبات بعقولهم، ولا يقررون الدين بعقولهم، ولا يعرفون العقيدة تفصيلًا بعقولهم، ولا يتوصلون إلى ما يرضي الله ﷿ على جهة التشريع بعقولهم؛ فلذلك كان بعث الرسل حجة، والله ﷿ لو لم يبعث رسلًا لما عذّب العباد، ولكان في ذلك احتجاج من الأمم جميعًا فيما يقضيه الله ﷿ بينهم يوم القيامة.
والمقصود بالآية: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ﴾ [الأنعام:١٣٠] هي الآية: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ [الأنعام:١٣٠]، هذا هو الظاهر وهذا مقتضى السياق؛ لأن القصد بعث الرسل، ولذلك استنبط بعض أهل العلم من هذه الآية الدلالة على أن الرسل كلهم بعثوا في الإنس، وبعضهم استنبط منها العكس.
1 / 4
ابتداء طائفة من المصنفين بأصل العلم والإيمان عند تصنيفهم في العلم
قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب، إذا جمعوا فيها أصناف العلم ابتدءوها بأصل العلم والإيمان، كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله؛ فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولًا، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي.
وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي صاحب المسند ابتدأ كتابه بدلائل النبوة، وذكر في ذلك طرفًا صالحًا، وهذان الرجلان أفضل بكثير من مسلم والترمذي ونحوهما؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل يعظّم هذين ونحوهما؛ لأنهم فقهاء في الحديث أصولًا وفروعًا].
أشار الشيخ في المقطع السابق إلى منهجية مهمة جدًا ينبغي أن يفهمها طلاب العلم، وما أكثر الأصول المنهجية التي ذكرها شيخ الإسلام عن السلف، لكن هذه مهمة جدًا في هذا الوقت الذي كثر فيه التصنيف والتأليف، وكثر فيه الاستطراد وتشقيق الكلام وحشو العلم، ينبغي أن ننبه على ضرورة التزام منهج السلف في تقرير العقيدة وبيانها، وهو أنهم يبدءون بما بدأ الله به، ويبدءون بما هو الأصل في تقرير مسائل الدين، يبدءون بالأهم فالأهم، وهذا منهج للتأليف ومنهج للدعوة أيضًا، ينبغي أن يبدأ المسلم وطالب العلم والعالم في أي أمر بتقرير الدين وبتقرير التوحيد، ابتداء من بدء الوحي ومصادر الدين ومنهج التلقي، ثم بيان أصول الإيمان وما يحقق توحيد الله من قبل العباد، ولا يعني ذلك إغفال الجوانب الأخرى، لكنها تأتي ضمنًا، فتقرير أسماء الله وصفاته وأفعاله جاء للوصول إلى عبادته، وتقرير الربوبية جاء للوصول إلى عبادة الله ﷿، فلا يصح أن يبدأ بأمور فرعية؛ لأن ذلك يؤدي غالبًا إلى إبعاد القلوب والعقول عن تقبل الهدى.
فمنهج السلف في تصنيف العقائد وتقرير العقيدة يبدأ بتقرير ما يتعلق بتوحيد الله ﷿ في أسمائه وصفاته وأفعاله، وتوحيد الربوبية والإلهيات دون فصل واحد عن الآخر؛ لأن هذا هو المطلوب من العباد، وهو الذي يحتاجونه، وهو الذي لا بد فيه من شرع مفصّل، وهذا عكس منهج المتكلمين والفلاسفة، فالمتكلمون والفلاسفة أول ما يبدءون في تقرير الدين بمسألة وجود الله، وهذا خلاف الأصل؛ لأن الله ﷿ يقول: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم:١٠]، ثم يعرّجون على مسألة وحدانية الله، وهذا أيضًا مما لا يخالف فيه أحد، ثم يعرّجون على مسألة تقرير الصفات بقواعد عقلية وفلسفية، أيضًا لو أنهم بدءوا بتقرير الصفات على منهج السلف لكان الأمر يسيرًا وسهلًا، ولكان منهجهم قريبًا من المنهج الحق، لكنهم يعرّجون على تقرير الصفات لله ﷿ بمناهجهم الكلامية التي ينفون بها صفات الله، أو يؤولونها على مختلف رؤيتهم.
ثم بعد ذلك أيضًا لو أنهم توصلوا بهذه الأساليب إلى توحيد الإلهية لكان الأمر فيه فائدة، وإن كانت فائدة عسيرة لا تتم إلا عبر الدخول في الشبهات والشكوك التي تمرض القلوب، كذلك لو أنهم ختموا مناهجهم وطرائقهم وأسلوبهم في تقرير التوحيد بتوحيد الإلهية لكان الأمر مقاربًا، لكنهم ما عرّجوا على توحيد الألوهية، توحيد الألوهية لم يرد في كتبهم إلا نادرًا، وهذا دليل فساد المسلك والمنهج، وأنهم تكلموا في قضايا فطرية ليست محل خلاف عند البشر، وإن خالف فيها بعض النزّاع من البشر، لكن ليست محل خلاف عند جماهير الأمم، ثم إنهم قرروها على مبادئ فلسفية تؤدي إلى شرك أكثر مما تؤدي إلى اليقين، ولذلك كان الواحد منهم لا يسلم من الشبهات والاعتراض عليها، وافتراض الشبهات والاعتراض عليها، فلا يصل بذلك إلى نتيجة، وأعظم من هذا كله أنهم صرفوا الناس عن الجد والعبادة إلى الجدل والمراء والمناظرات؛ بسبب سلوكهم هذا المنهج كما سيأتي بيانه.
الخلاصة وهو ما أردت أن نتوقف عنده: هو أن منهج السلف تقرير التوحيد المطلوب من العباد، والتوصل إليه بتوحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية لا حرج، لكن لا لتقرير البدهيات؛ لأنها واضحة، لكن منهج المتكلمين عكس ذلك، فهم يقفون عند مسائل بدهية ويتوهمون أن أمامهم خصومًا وإنما هم معترضون، والأمر لا يعدو أن تكون هناك شياطين في رءوسهم أوحت لهم ووسوست لهم وشككتهم، فظنوا أنهم بذلك يحسنون صنعًا.
1 / 5
ذكر هداية الخلق بالرسالة في القرآن الكريم
قال رحمة الله تعالى: [ولما كان أصل العلم والهدى هو: الإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة، كان ذكره طريق الهداية بالرسالة التي هي القرآن، وما جاءت به الرسل كثيرًا جدًا، كقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة:٢].
وقوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران:١٣٨].
وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:٩].
وقوله: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران:٣ - ٤].
وقوله: ﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [إبراهيم:١].
وقوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:١٢٣ - ١٢٤].
وقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ﴾ [الشورى:٥٢ - ٥٣].
وقال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [آل عمران:١٠١] فيُعلم أن آيات الله والرسول تمنع الكفر، وهذا كثير].
يشير الشيخ بهذا إلى أمر مهم جدًا، يحسن استصحابه في الكلام القادم، وهو أن أصل العلم الهدى، أي: أن أول واجب على العباد هو تحقيق التوحيد، فهذا هو أصل العلم والهدى، ويتحقق بالإيمان بالرسالة المتضمنة للكتاب والحكمة.
والعبد إذا عمل بأول واجب وهو مبدأ الإيمان بالله ﷿ والإيمان برسوله، ورضي العلم والهدى الذي تضمنه الكتاب والسنة فإن ما فيهما يرشد إلى كل ما زعمه المتكلمون من تحقيق وجود الله، وتحقيق وحدانية الله ﷿، وتحقيق تعظيم الله ﷿ بأسمائه وصفاته كما يزعم المتكلمون ويسعون إليه، كل هذا إنما يحصل بالاهتداء بالكتاب والسنة؛ لأن هذه الأصول أرشد إليها القرآن والسنة، بل أول ما دعا إليها، فلا يمكن أن تتحقق عبادة الله التي هي أعظم الغايات إلا بتحقيق ما يحتاجه العباد من أسماء الله وصفاته وأفعاله وربوبيته؛ ولذلك فالله ﷿ حينما أقام الحجة على المشركين في تحقيق عبادته أقامها عليهم بإقرارهم بالربوبية.
فإذًا: ليست الربوبية محل نزاع إنما جعل إقرارهم بالربوبية وسيلة إلى إلزامهم بالمطلوب، وهو ألا يعبدوا غير الله، جعل الربوبية المعلومة عند جميع الأمم حتى عند المشركين وسيلة إلى تحقيق عبادة الله وحده لا شريك له.
فالشيخ كأنه يقول: إذا قلنا: إن أول واجب هو الاهتداء بما جاء به الرسول ﷺ، فإن هذا الهدى تضمن كل ما سعى إليه المتكلمون، وزعموا أنهم يريدون أن يحصلوه بزعمهم أن أول واجب هو التفكير والنظر العقلي إلى آخره، قال: هذه الأمور أرشد إليها القرآن بطرق سليمة فطرية صحيحة، لا على مناهجكم المعقّدة.
1 / 6
ذكر حصول الهداية والفلاح للمؤمنين وذكر أهل الجنة والنار وأعمالهم ومآلهم
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ذكره حصول الهداية والفلاح للمؤمنين دون غيرهم ملء القرآن، كقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:٢ - ٣] الآية، ثم ذم الذين كفروا والذين نافقوا.
وقوله: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر:١ - ٣].
وقوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [التين:٥ - ٦].
فحكم على النوع كله والأمة الإنسانية جميعها بالخسارة والسفول إلى الغاية، إلا المؤمنين الصالحين.
وكذلك جعل أهل الجنة هم أهل الإيمان، وأهل النار هم أهل الكفر، فيما شاء الله من الآيات، حتى صار ذلك معلومًا علمًا شائعًا متواترًا اضطراريًا من دين الرسول ﷺ، عند كل من بلغته رسالته.
وربط السعادة مع إصلاح العمل به، في مثل قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:٩٧].
وقوله: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء:١٩].
وأحبط الأعمال الصالحة بزواله، في مثل قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ [النور:٣٩].
وقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ﴾ [إبراهيم:١٨].
وقوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾ [آل عمران:١١٧] الآية.
وقوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان:٢٣]، ونحو ذلك كثير.
وذكر حال جميع الأمم المهدية أنهم كذلك، في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [البقرة:٦٢] الآية.
ولهذا أمر أهل العقل بتدبره، وأهل السمع بسمعه، فدعا فيه إلى التدبر والتفكير والتذكر والعقل والفهم، وإلى الاستماع والإبصار والإصغاء، والتأثر بالوجل، والبكاء وغير ذلك، وهذا باب واسع.
ولما كان الإقرار بالصانع فطريًا كما قال ﷺ: (كل مولود يولد على الفطرة) الحديث، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو الذي يُعرف ويُعبد، وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع].
بدأ الشيخ يشير إلى منهج المتكلمين، وهو أنهم يسلكون في تحقيق التوحيد مسلك الإقناع بالإقرار بوجود الخالق، الشيخ عبّر بالصانع وأرى أننا نلتزم اللفظ الشرعي: الخالق؛ لأن شيخ الإسلام يرد على المتكلمين بمصطلحهم، وإلا فالأصل التزام الألفاظ الشرعية، ولذلك كان ينبغي أن يقول: ولما كان الإقرار بالخالق فطريًا، كما قال النبي ﷺ: (كل مولود يولد على الفطرة).
إذًا: أراد بهذا الرد على زعمهم أن أول واجب من أجل إثبات وجود الخالق: النظر، يقول: هذا أمر فطري، فليس بصحيح أنه أول الواجبات، وليس صحيحًا أنه هو المنهج السليم في تحقيق التوحيد؛ لأن الإقرار بالخالق أمر بدهي فطري أشار إليه النبي ﷺ في قوله: (كل مولود يولد على الفطرة)، فإن الفطرة تتضمن الإقرار بالله ﷿، يعني بربوبيته، والإنابة إليه، يعني بالعبودية، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا قلنا: لا معبود إلا الله، فكيف يُعبد وهو لم يُعرف؟ هذا أمر مستحيل، إذًا: فالإله هو الذي يُعرف ويُعبد، فلا يُعبد إلا وقد عُرف، ولذلك حينما وجّه الله العباد وأمرهم بعبادته دل هذا بالضرورة أنهم ليسوا بحاجة إلى التعريف بوجوده؛ لأنه أمر فطري، إنما هم بحاجة إلى التعريف بعبادته، كيف يعبدونه، وإلى الأمر بأن يعبدوه، لا بأن يقروا بأنه الخالق، فإن هذا أمر تقتضيه الفطر، فالناس كأنهم مجمعون على الإقرار بالله، وما بعد هذا الإقرار هو المطلوب منهم، أما الإقرار فقد كفاهم الله إياه حيث فطرهم عليه، وهو مقتضى فطرة كل إنسان، وإن شذ بعض المختلّين في عقولهم فلا عبرة بهم؛ لأن النادر لا حكم له.
1 / 7
المقصود بدعوة المرسلين إيصال العباد إلى عبادة الله الحقة
قال رحمه الله تعالى: [وكان المقصود بالدعوة: وصول العباد إلى ما خُلقوا له من عبادة ربهم وحده لا شريك له، والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح].
يقصد بهذا أن العبادة أصلها عبادة القلب لا العقل ولا الفكر، ولذلك الذين يعبدون الله بالتفكير أو العقول من الفلاسفة وغلاة الجهمية هؤلاء ما وصلوا إلى الحق، وهم أصحاب المذاهب الوثنية الآن، فتجد مثلًا في الديانات الهندية والديانات اليونانية القديمة أن هؤلاء الأقوام ضلوا الطريق مع أنهم اعترفوا بالرسل ويقرون بوجود الله ويرون الحاجة إلى عبادته، لكنهم يعبدونه بعبادة عقلية بالتأمل والنظر والتفكّر، أو عبادة فكرية بمجرد التأمل في آلاء الله ﷿، يسمون هذا عبادة، ويستميتون لهذا الفكر ويقاتلون عليه، وهذا خطأ وضلال؛ لأنهم ما وصلوا إلى ما يريده الله ﷿.
فإذًا: لا بد من تقرير بأن المقصود بدعوة المرسلين ودعوة المصلحين في كل زمان إيصال العباد إلى عبادة الله التي خُلقوا من أجلها، فقد خُلقوا كما قال الله ﷿: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] ما قال: ليقروا بي أو لينظروا أو ليتفكروا؛ لأن النظر والتفكر إنما يكون بعد الخضوع والعبادة على منهج، تنظر وتفكر كما أرشدك الله إلى أصول النظر والتفكر.
قال: (والعبادة أصلها عبادة القلب) يعني: يعبد الله بالمحبة والخوف والرجاء والتوكل، وسائر أنواع العبادة التي تنبثق عنها أعمال الجوارح.
1 / 8
الرد على المتكلمين في تقرير الربوبية والنبوة وإغفال توحيد الألوهية
قال رحمه الله تعالى: [والعبادة أصلها عبادة القلب المستتبع للجوارح، فإن القلب هو الملك والأعضاء جنوده، وهو المضغة الذي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، وإنما ذلك بعلمه وحاله كان هذا الأصل الذي هو عبادة الله بمعرفته ومحبته، هو أصل الدعوة في القرآن، فقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، وقال في صدر البقرة بعد أن صنف الخلق ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر، ومنافق، فقال بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١]، وذكر آلاءه التي تتضمن نعمته وقدرته، ثم أتبع ذلك بتقريره النبوة، بقوله: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ [البقرة:٢٣].
والمتكلم يستحسن مثل هذا التأليف ويستعظمه حيث قررت الربوبية ثم الرسالة، ويظن أن هذا موافق لطريقته الكلامية في نظره في القضايا العقليات.
أولًا: من تقرير الربوبية، ثم تقرير النبوة، ثم تلقي السمعيات من النبوة كما هي الطريقة المشهورة الكلامية للمعتزلة والكرامية والكلابية والأشعرية، ومن سلك هذه الطريق في إثبات الصانع، أولًا: بناء على حدوث العالم، ثم إثبات صفاته نفيًا وإثباتًا بالقياس العقلي، على ما بينهم فيه من اتفاق واختلاف إما في المسائل وإما في الدلائل، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات من المعاد والثواب والعقاب والخلافة والتفضيل والإيمان بطريق مجمل].
نقف عند هذا؛ لأنه سيبدأ في موضوع جديد، ختم الشيخ هذا المقطع بالإشارة إلى منهج المتكلمين وخطر هذا المنهج وخطئه؛ لأن الشيخ قال حين ذكر قوله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:٢١] ذكر أن المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف؛ لأن الله ﷿ ذكر آلاءه ونعمه في قوله ﷿: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة:٢٢] إلى آخر الآيات التي يقرر فيها النعم، ثم يقرر فيها التحدي لهؤلاء العباد؛ لأنهم إن كانوا في ريب مما نزل على عبده فليأتوا بسورة من مثله أو نحو ذلك.
فهو يقول: إن المتكلمين يعجبهم هذا المنهج، لكنه خلاف ما قصدوا من أنه يبدأ بذكر الآلاء والنعم ثم ذكر النبوة، لكنهم نسوا أن الله ﷿ صدّر الآية بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة:٢١] بعد تقرير توحيد العبادة لفتهم إلى نعمه وآلائه، وإلى النبوة وتقريرها، وأشار إلى أنه يتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فهم ذُهلوا عن أصل القضية وهو الدعوة إلى عبادة الله، فقال: (المتكلم يستحسن مثل هذا التأليف) أي: ذكر الخلق أولًا، ثم النعم، ثم الرسالة والنبوة، ثم يعرّج بعد ذلك على ما ذكره الشيخ من تقرير الربوبية وتقرير النبوة والسمعيات، ثم الكلام في الصفات إلى آخره، وأن هذا منهج معوّج من حيث الأصل، وكل قضية يبدأ أصلها خطأ تكون نتائجها خطأً، لذلك هم قد يوافقون الحق في بعض الأمور، لكن على أصل خاطئ، فتقريرهم للنبوة بحد ذاته صحيح، وينبغي أن يقرر مبدأ صحة النبوة وصدق الأنبياء، وتقريرهم لذكر نعم الله وخلقه للوصول إلى صحة وجود الخالق صحيح أيضًا، لكن النتيجة التي هي مطلوبة من العباد لم يصلوا إليها، ولذلك عندما ذكر الشيخ منهجهم هذا الإثبات بالقياس العقلي وما بينهم من اختلاف في مناهجهم الكلامية قال: (غاية ما يصلون إليه هو هذه الأمور) كأنه يقول: ومع ذلك فإنهم لا يعرّجون على توحيد العبادة الذي هو الغاية الكبرى وهو المطلوب ابتداء وانتهاء.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 9
الأسئلة
1 / 10
معنى قول الناظم: (قالوا بم عرف المكلف ربه قلت بالنظر الصحيح المرشد)
السؤال
قال الكلوذاني في منظومة عقيدة أهل السنة: قالوا بم عرف المكلف ربه قلت بالنظر الصحيح المرشد؟
الجواب
نعم، ليس هذا على إطلاقه، إن قصد النظر الصحيح تحقيق العبادة فصحيح، لكن ظاهر البيت أنه يوافق المتكلمين وهذا خطأ في المنهج.
على أي حال هذا البيت يبدو أن له احتمالين: إن قصد المعرفة التي هي معرفة وجود الله فهذا صحيح، وإن قصد بالمعرفة التوحيد فغير صحيح.
1 / 11
تعريف الإسلام
السؤال
ما رأيكم بهذا التعريف للإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله؟
الجواب
زيادة (أهله) ليس لها لزوم؛ لأن من خلص من الشرك فأهله تبع، فالتعريف ينبغي أن يوجز إلى أقصى حد ممكن، فالعبارة التي تغني عن غيرها يوقف عندها ولا يؤتى بالفروع والاحترازات، والتعريف إذا كان جامعًا شاملًا مانعًا أولى من أن يفرّع عنه، فأقول: إن الخلوص من الشرك تكفي عن زيادة عبارة (وأهله) كما ذكر السائل.
والبراءة هو الخلوص، وكلها عبارات صحيحة، والقصد الوصول إلى المعنى الصحيح، الخلوص قد تكون ليست واضحة عند بعض الناس فيقال: والبراءة من الشرك، وليس بينهما فرق، لكن لفظ البراءة أدق على معنى والخلوص له معنى آخر، والخلوص أشمل من البراءة.
1 / 12
ثناء شيخ الإسلام على الدارمي ومسنده
السؤال
ذكر الشيخ مسند الدارمي وعظمه فهل يرى أنه يقدّم على صحيح مسلم؟
الجواب
لا أظن.
1 / 13
حكم الجهاد ضد اليهود وغيرهم
السؤال
هل الجهاد فرض عين ضد اليهود؟
الجواب
هذه مسألة من المسائل التي تتعلق بمصالح الأمة العظمى، لا بد من الرجوع فيها إلى أهل الحل والعقد من العلماء الكبار؛ لأن هذه فيها مزلة وفيها أيضًا افتئات على الشرع والدين والعلم، والفتاوى المتسرعة فيها سواء كانت بالمنع أو بالمشروعية، كل ذلك قد يؤدي إلى نتائج وخيمة إذا صدر من أناس لم يتدارسوا هذا الأمر مع أهل العلم الكبار، ففرضية العين لها شروط وضوابط، أنا أظنها لا تتحقق في هذا الظرف الذي نعيشه، نعم الواجب تجاه إخواننا المسلمين في كل مكان الذين يستضعفون ويقاتلون النصرة لهم بما نملك من الوسائل المتاحة والمشروعة أيضًا، لكن ليس بالعواطف والأعمال المتهورة أو الفتاوى المتعجّلة، أو إيقاع الأمة والناس في حرج قد يكون الذي يفتي جالسًا على أريكته، ويوقع شباب المسلمين في أمور قد تكون نتائجها غير مشروعة ومحرجة، وليست على وجه شرعي صحيح.
أنا لا أفتي في كون الجهاد على اليهود الآن فرض عين أو غيره، هذا يرجع فيه إلى أهل العلم، لكن فيما يبدو لي ولست بهذا أفتي، إنما أوجه المسألة توجيهًا يمهّد للفتوى وهو أنه قد لا يتأتى فرض العين في الواقع الذي تعيشه الأمة الآن.
ثم كيف السبيل إليه؟ الراية راية من؟ لا يجوز الجهاد إلا تحت راية شرعية، أما التصرف الفردي فهذا تهوّر لا يجوز أن يسلكه المسلم، وحتى التسرع شبه الفردي، أن تتجمع مجموعات أو طوائف محدودة وتقوم بعمل انتحاري ونحو ذلك، فهذا في تقديري أنه ليس بمشروع على هذا النحو، فالجهاد يكون براية، والراية لها شروط وضوابط، لكن لابد من نصرة إخواننا في كل مكان، والناس أيضًا أحيانًا تثيرهم قضية المسجد الأقصى، نعم هذا صحيح المسجد الأقصى لا شك أنه من مساجد المسلمين ومن المساجد الثلاثة، لكن ما السبيل إلى تحريره؟ ما السبيل إلى الجهاد؟ هذا أمر يحتاج إلى أناة ودراسة مشروعة، فالمسلمون أنفسهم هل هم مهيئون للجهاد؟ يحتاج الأمر إلى مناقشة شرعية مؤصّلة، نسأل الله أن يعلي كلمته، وينصر دينه، ويعز الإسلام والمسلمين في كل مكان.
1 / 14
شرح باب توحيد الربوبية من فتاوى ابن تيمية [٢]
لقد سلك المتكلمون مناهج منحرفة في تقرير أصول الدين، وهم يظنون أنهم موافقون للقرآن، وأنى لهم ذلك وقد خالفوا نهج الكتاب والسنة في ذلك، فقد حكموا عقولهم القاصرة في النصوص المتعلقة بالعقائد فردوها أو تأولوها، ومثل ذلك فعلوا فيما يتعلق بالأحكام العملية بحجة أنها تخالف عقولهم.
2 / 1
منهج المتكلمين في تقرير الدين والعقيدة
الملقي: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما عمدة الكلام عندهم ومعظمه: هو تلك القضايا التي يسمونها العقليات وهي أصول دينهم، وقد بنوها على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة].
الشيخ هنا قعّد قاعدة ذهبية جيدة عظيمة رد بها على المتكلمين، فقد ذكر أن عمدة الكلام عند أهل الكلام الذين يزعمون أنهم يقررون التوحيد بالمصطلحات الفلسفية والعقلانية الكلامية قال: (عمدتهم في ذلك قضايا يسمونها العقلية) يعني: هذه القضايا هي أوهام وتخرصات، ومع ذلك سموها عقلية.
ثم قال: (وهي أصول دينهم) يعني: هم يعتمدون في أصول دينهم على مسألة المصطلحات الفلسفية، وذلك بالبدء بالحديث عن الأعراض والجواهر وما تستلزمه من معان عندهم، وهذه الأصول والقضايا بنوها على مقاييس وهمية، ونحن لا نذم على الإطلاق استعمال العقليات، بل لابد من توظيف العقل لفهم كلام الله ﷿، والعقل نعمة من الله ﷿، وهو وسيلة لفهم الشرع، ووسيلة إدراك نعمة الله وتعظيم الله ﷿، لكن العقل له مدارك محدودة، فالعقل لا يدرك الغيب، وكل ما تحدث به المتكلمون في مسائل العقيدة، في تقرير التوحيد، في وجود الله ووحدانيته وخلقه وربوبيته وأسمائه وصفاته سبحانه، كل ما تكلموا به خلاف ما جاء في الكتاب والسنة، فإنما هي أوهام وتخرصات؛ لأنها غيب، وأنى لهم أن يطّلعوا على الغيب، فمن هنا ذكر الشيخ أن أصول دينهم إنما هي قضايا يسمونها العقليات وبنوها على مقاييس عقلانية ووهمية؛ لأنها غيبية تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، وهذا هو الذي حصل حينما قاسوا الله بخلقه، تعالى الله عما يزعمون، اضطروا أن ينكروا صفات الله؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق، ولأضرب لذلك مثالًا: أهل الأهواء الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية أنكروا استواء الله على عرشه، ليس عندهم ما يقولونه إلا شبهة وهي أن الاستواء يستلزم حاجة الله ﷿ إلى العرش واتكاءه عليه، واعتماده عليه، من أين هذا؟ هذا من قياس الخالق على المخلوق، وإلا من أين أتوا بأن الله لا يمكن أن يستوي على العرش إلا إذا كان محتاجًا إليه؟ لولا القياس لما جاءوا بهذا الأمر، لا يمكن أبدًا أن يأتوا بهذه الشبهات إلا بقياس.
إذًا: هم اعتمدوا على مقاييس تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة، فلحقهم الذم من جهة ضعف المقاييس التي بنوا عليها، ومن جهة ردهم لما جاءت به السنة.
قال رحمه الله تعالى: [وهم قسمان: قسم بنوا على هذه العقليات القياسية الأصول العلمية دون العملية كالأشعرية، وقسم بنوا عليها الأصول العلمية والعملية كالمعتزلة].
الأمور العلمية هي الاعتقادية، والأمور العملية هي الأحكام.
قال رحمه الله تعالى: [حتى إن هؤلاء يأخذون القدر المشترك في الأفعال بين الله وبين عباده، فما حسن من الله حسن من العبد، وما قبح من العبد قبح من الله؛ ولهذا سماهم الناس: مشبهة الأفعال].
أي: المعتزلة في صفات الله ﷿ في مسألة أفعال الله، ومسألة التحسين والتقبيح قالوا بكلام تشمئز منه النفوس، وتنفر منه الطباع السليمة، لو قيل هذا الكلام الذي قالوه في حق الله سبحانه حتى عند العوام لاشمأزت نفوسهم منه، يقولون: يجب على الله أن يفعل كذا، ويلزم من الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل، ويلزمه ألا يفعل، من أين هذا؟ من باب قياس الخالق على المخلوق، ولذلك أنكروا أفعال الله ﷿، بل أنكروا صفات الله؛ لأنهم قاسوا الخالق سبحانه على المخلوق، فلما قاسوا وقعوا في معضلة، فبدل أن يسلموا لله ﷿ بالكمال المطلق ويتركوا القياس بناء على قوله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، بدلًا من ذلك وقعوا في إنكار كلام الله وكلام رسوله ﷺ أو تأويله.
قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن هؤلاء هم المتكلمة المذمومون عند السلف؛ لكثرة بنائهم الدين على القياس الفاسد الكلامي، وردهم لما جاء به الكتاب والسنة].
يعني: الجهمية والمعتزلة.
قال رحمه الله تعالى: [والآخرون لما شاركوهم].
الآخرون هم الأشاعرة والماتريدية والكلابية والسالمية والكرامية ومن سلك سبيلهم.
قال رحمه الله تعالى: [والآخرون لما شاركوهم في بعض ذلك لحقهم من الذم والعيب بقدر ما وافقوهم فيه، وهو موافقتهم في كثير من دلائلهم؛ التي يزعمون أنهم يقررون بها أصول الدين والإيمان، وفي طائفة من مسائلهم التي يخالفون بها السنن والآثار وما عليه أهل العقل والدين.
وليس الغرض هنا تفصيل أحوالهم فإنا قد كتبنا فيه أشياء في غير هذا الموضع].
من أكثر ما كتب الشيخ في هذا الموضوع في (درء التعارض) وفي (تلبيس الجهمية) وفي (منهاج السنة).
2 / 2
كمال طريقة القرآن في عرض أصول الدين وفروعه بخلاف طريقة المتكلمين
قال رحمه الله تعالى: [وإنما الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج.
والمتكلم يظن أنه بطريقته التي انفرد بها قد وافق طريقة القرآن: تارة في إثبات الربوبية، وتارة في إثبات الوحدانية، وتارة في إثبات النبوة، وتارة في إثبات المعاد، وهو مخطئ في كثير من ذلك أو أكثره مثل هذا الموضع].
سيذكر الشيخ هذه الطرائق فلا نستعجلها، يعني ما سلكه المتكلمون في الطرائق التي ظنوا أنهم وافقوا بها القرآن، وهم أخطئوا في هذا، سيبدأ فيه الشيخ بعد قليل.
قال رحمه الله تعالى: [فإنه قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه: منها: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته، التي يستلزم العلم بها العلم به، كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتياج إلى قياس كلي، يقال فيه: وكل محدث فلا بد له من محدث، أو كل ممكن فلا بد له من مرجح، أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية].
هنا سيدخل الشيخ في موضوع يحتاج إلى التمهيد، يقول: إن إثبات الخالق ﷿ وإثبات ربوبية الله وإلهيته ما جاءت بطرق فلسفية معقدة، جاءت بالاستدلال بنفس الآيات، فالله ﷿ لفت أنظار العباد إلى خلقه؛ ليستدلوا بذلك على أمرين: الأمر الأول بدهي لا يحتاج إلى تكلف: وهو أنه الخالق: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥]، وقوله ﷿: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس:٧٨ - ٧٩] فالله ﷿ في استدلاله على ربوبيته وإلهيته ما استعمل المقدمات المعقدة التي أتى بها أهل الكلام، كمسألة المُحدِث والمُحدَث، لابد للمحدث من محدث، ولابد لكل ممكن من واجب، وهذه أمور تشطح بالفطرة والعقل السليم إلى معان غامضة، فالله ﷿ استعمل البراهين مباشرة دون مقدمات؛ لأن المقدمات تحتاج إلى إعمال عقلي صعب، والإعمال العقلي الصعب غالب الناس لا يدركونه ولا يستطيعونه، والذين يستطيعونه أيضًا يحتاجون إلى كد للذهن، والذهن إذا كُد في إدراك بدهية اهتزت قناعته في البدهيات، يعني: مثل: لو قلت لإنسان: والشمس في رابعة النهار: أيش رأيك الشمس طالعة؟ فهو بهذا السؤال سيفاجأ؛ إما أنه لا يصدق أنك جاد بسؤالك هذا، فيحتاج إلى أن يتعب ذهنه هل تلغّز وتخدعه؟ هل تريد أن تضحك عليه وتقصد معنى آخر؟ هل تقصد شمسًا أم بشرًا؟ لأن الشمس طالعة، وهي تدنو وتكاد تدمغ رأسك، فكذلك استعمال المقدمات العقلية عند المتكلمين في إثبات وجود الله ووحدانيته من هذا النوع، من صرف الناس عن البدهيات إلى التشكيك، ولذلك قال الله ﷿: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ﴾ [إبراهيم:١٠] ثم قال: ﴿فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم:١٠] فالله ﷿ من أساليبه التي ذكرها في إثبات وجوده أنه يذكر الاستدلال على ذلك بنفس آياته: السماوات، والنجوم، والشجر، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والحر، والبرد إلى آخره، آياته التي خلقها في عباده هي الدليل، من غير أن نستعمل مقدمات معقدة أو ألفاظًا تبعد الذهن عن مجال البدهيات.
والأمر الثاني سيذكره الشيخ فيما بعد، لكن لابد أن أقرنه بهذا؛ لأنه هو الثمرة التي نريد أن نفرق بها بين منهج السلف ومناهج المتكلمين المفاليس، نسأل الله العافية: وهو أن الله ﷿ حينما استدل بالدلالة الفطرية المباشرة دون مقدمات على ربوبيته ووجوده وخلقه إنما أراد بذلك أن يلزم العباد بعبادته، ولذلك كلما ذكر آية من آيات الربوبية، قال: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام:٩٥] ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس:٣٢] يعني: عن عبادة الله، كيف تصرفون إلى الشرك؟ كيف تُصرفون عن توحيد الله، فهذه هي الغائية، المتكلمون لم يوفقوا لهذه الغاية، وهذه عقوبة لهم حينما استعملوا طريقة غير مشروعة على تقرير التوحيد، تاهوا ولم يصلوا إلى الغاية الكبرى التي بعث الله بها النبيين، والتي خلق الله من أجلها الخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] ذُهلوا عنها، وهذه عقوية نسأل الله السلامة، وكل من نهج نهجًا بدعيًا فإنه لا يوفق للهدى عن طريق البدعة، وهذه قاعدة: كل من نهج نهجًا بدعيًا في تقرير الدين في الجزئيات أو الكليات فإنه لا يوفق للهداية عن طريق البدعة، بل العكس البدعة تجره إلى بدعة وتجره إلى ضلالة، وتعميه عن الحق، كما وصف النبي ﷺ أهل الأهواء بأنهم تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، يعني: مرض يجر إلى مرض، ثم يأخذ أوصال جسمه وصلة وصلة حتى يهلك الجسم كله، نسأل الله السلامة.
قال رحمه الله تعالى: [أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال: سبب الافتقار إلى الصانع هل هـ
2 / 3
ذكر الدليل العقلي الفطري على وجود الخالق سبحانه وغناه وافتقار المخلوقات إليه
قال رحمه الله تعالى: [وعلى هذا جاء قوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥]].
يعني: هذه الحقائق تغني عن كل فلسفة المتفلسفين في أن الله ﷿ هو الخالق، وأن الخلق لا بد له من خالق، فهي دليل على وجود الخالق سبحانه ووحدانيته بالضرورة، كما أنها دليل على كمال الخالق وغناه سبحانه، ثم إنها دليل على حدوث المخلوقات وفقرها إليه ﷿، فقوله ﷿: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ [الطور:٣٥] إذا استعمل الإنسان ذهنه وجد أن الجواب بدهي، لا يمكن أن يخلقوا من غير شيء، الافتراض الآخر: ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور:٣٥] أي: لأنفسهم؟ هذه مردودة تصادم العقل السليم والفطرة، فهم لا يمكن أن يخلقوا أنفسهم؛ لأن هذا يؤدي إلى الدور، بمعنى أنه لا بد للخلق من خالق.
فمن هنا ننتهي إلى الحقيقة الشرعية الفطرية بدون مقدماتهم التي لجئوا إليها.
قال رحمه الله تعالى: [قال جبير بن مطعم: لما سمعتها أحسست بفؤادي قد تصدع.
وهو استفهام إنكار يقول: أؤجدوا من غير مبدع؟ فهم يعلمون أنهم لم يكونوا من غير مكوّن، ويعلمون أنهم لم يكونوا نفوسهم، وعلمهم بحكم أنفسهم معلوم بالفطرة بنفسه، لا يحتاج أن يستدل عليه بأن كل كائن محدث].
فقد كان خطباء الجاهلية أفقه من المتكلمين، وقد كانوا على غير شرع؛ أما الحنيفية فقد اندثرت ملة إبراهيم، لكن كانت الفطرة موجودة عند أهل الجاهلية، وكان بعضهم يتكلم ويخطب في أمور بدهية، كقول أحدهم: سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج.
ثم ذكر أدلة على وجود الله ﷿: أن الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير إلى آخره، ثم قال: ألا يدل ذلك على العليم الخبير؟ وهو في الجاهلية يخطب بها في ذي المجاز أو عكاظ أو في أحد أسواق الجاهلية، يعني: كان هذا الإنسان في الجاهلية أفقه بكثير من المتكلمين الذين عقّدوا عقول الناس، وشتتوا المسلمين وفرقوهم الآن إلى أشاعرة وماتريدية وجهمية ومعتزلة، وكل واحد يقول: هذا هو الدين الحق أما الآخر فباطل، إلى أن وصل الأمر عند بعض العلماء الفضلاء بأن زعموا أن هذه المناهج المعقّدة واجبة على كل إنسان، قالوا: يجب على كل إنسان النظر، فإن لم ينظر فهو خارج من الملة لا يدخل في الإسلام، يعني: النظر بهذه الطريقة، سبحان الله! إذًا: ما بقي من المسلمين إلا هم، وهم حينما نظروا هل وصلوا إلى نتيجة؟ وهل اتفقوا على شيء؟ ما وصلوا إلى نتيجة، ولا اتفقوا على شيء.
فإذًا: هذه المسالك هي خلاف الفطرة، حتى الناس الذين كانوا في مجتمعات شركية وجاهلية كانوا يقررون توحيد الربوبية بمبادئ فطرية عقلية بدهية، بعيدة عن هذه التعقيدات الكلامية والفلسفية، بل هذه المسالك التي سلكها المتكلمون هي مسالك الملاحدة خصوم الأنبياء.
قال رحمه الله تعالى: [أو كل ممكن لا يوجد بنفسه ولا يوجد من غير موجد، وإن كانت هذه القضية العامة النوعية صادقة، لكن العلم بتلك المعينة الخاصة، إن لم يكن سابقًا لها فليس متأخرًا عنها، ولا دونها في الجلاء.
وقد بسطت هذا المعنى في غير هذا الموضع، وذكرت دعوة الأنبياء ﵈، أنه جاء بالطريق الفطرية، كقولهم: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [إبراهيم:١٠].
وقول موسى: ﴿رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الإسراء:١٠٢].
وقوله في القرآن: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا﴾ [البقرة:٢١ - ٢٢] بيّن أن نفس هذه الذوات آية لله، كما أشرنا إليه أولًا من غير حاجة إلى ذينك المقامين، ولما وبخهم بين حاجتهم إلى الخالق بنفوسهم، من غير أن تحتاج إلى مقدمة كلية هم فيها وسائر أفرادها سواء، بل هم أوضح، وهذا المعنى قررته مبسوطًا في غير هذا].
يعني: أن الله ﷿ عندما قرر توحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء على إقرارهم بقوله: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [البقرة:٢٢] إلى نحو هذا مما يعرفونها، أراد به ما ذكره في أول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة:٢١] فجعل هذه الأمور للإلزام بالعبادة، لا لأنهم ينكرونها، لكن لتذكيرهم بها؛ لأنهم يعترفون بها، فألزمهم بواسطة الاعتراف بها بعبادة الله، وهذا هو الغاية من الاستدلال بنعم الله وخلقه، أي: الغاية من ذلك أن يعبد الناس الله وحده، أما الربوبية فإنهم مقرون بها، فهو تحصيل حاصل أن نطلب من الناس أن يقروا بالربوبية.
2 / 4
مفارقة الطريقة القرآنية للطرق الكلامية
قال رحمه الله تعالى: [الوجه الثاني: في مفارقة الطريقة القرآنية الكلامية، أن الله أمر بعبادته التي هي كمال النفوس وصلاحها وغايتها ونهايتها، لم يقتصر على مجرد الإقرار به، كما هو غاية الطريقة الكلامية، فلا وافقوا لا في الوسائل ولا في المقاصد، فإن الوسيلة القرآنية قد أشرنا إلى أنها فطرية قريبة، موصلة إلى عين المقصود، وتلك قياسية بعيدة، ولا توصل إلا إلى نوع المقصود لا إلى عينه.
وأما المقاصد فالقرآن أخبر بالعلم به والعمل له فجمع بين قوتي الإنسان العلمية والعملية: الحسية والحركية، الإرادية الإدراكية والاعتمادية: القولية والعملية، حيث قال: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:٢١] فالعبادة لا بد فيها من معرفته، والإنابة إليه والتذلل له والافتقار إليه، وهذا هو المقصود، والطريقة الكلامية، إنما تفيد مجرد الإقرار والاعتراف بوجوده.
وهذا إذا حصل من غير عبادة وإنابة كان وبالًا على صاحبه وشقاء له، كما جاء في الحديث: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة: عالم لم ينفعه الله بعلمه) كإبليس اللعين، فإنه معترف بربه مقر بوجوده، لكن لما لم يعبده كان رأس الأشقياء، وكل من شقي فباتباعه له، كما قال: ﴿لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص:٨٥]].
يعني: أن توحيد الربوبية يقر به جميع الناس، حتى إبليس الذي طرده الله وجعله أصل كل شر، وجعله هو القائد إلى جهنم نسأل الله العافية، هو مقر بالربوبية، بل أحيانًا عنده ما هو أعظم من ذلك، أحيانًا عنده شيء من الخوف من الله ﷿ لا خوف العبادة بل خوف المعرفة، ولذلك لما تراءى الجمعان نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم، ثم قال: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ [الأنفال:٤٨] فلذلك هذا الكائن الذي جعله الله أصل الشر عنده نوع من الإقرار، بل هو مقر بربوبية الله ومدرك لعظمة الله، ولذلك يخاف الله لا خوف العبادة إنما خوف المعرفة، يعرف الله ﷿.
قال رحمه الله تعالى: [فلا بد أن يملأ جهنم منه ومن أتباعه، مع أنه معترف بالرب مقر بوجوده، وإنما أبى واستكبر عن الطاعة والعبادة، والقوة العلمية مع العملية بمنزلة الفاعل والغاية؛ ولهذا قيل: العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والمراد بالعمل هنا عمل القلب الذي هو إنابته إلى الله وخشيته له، حتى يكون عابدًا له.
فالرسل والكتب المنزلة أمرت بهذا وأوجبته، بل هو رأس الدعوة ومقصودها وأصلها، والطريقة السماعية العملية الصوتية المنحرفة توافق على المقصود العملي، لكن لا بعلم، بل بصوت مجرد، أو بشعر مهيج، أو بوصف حب مجمل، فكما أن الطريقة الكلامية فيها علم ناقص بلا عمل، فهذه الطريقة فيها عمل ناقص بلا علم، والطريقة النبوية القرآنية السنية الجماعية فيها العلم والعمل كاملين.
ففاتحة دعوة الرسل: الأمر بالعبادة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة:٢١].
وقال ﷺ: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله)، وذلك يتضمن الإقرار به وعبادته وحده، فإن الإله هو المعبود، ولم يقل: حتى يشهدوا أن لا رب إلا الله؛ فإن اسم الله أدل على مقصود العبادة له، التي لها خلق الخلق، وبها أمروا.
وكذلك قوله لـ معاذ: (إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) وقال نوح ﵇: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ﴾ [نوح:٣]، وكذلك الرسل في سورة الأعراف وغيرها.
وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل:٣٦].
وقال للرسل جميعًا: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون:٥١ - ٥٢].
وقال تعالى: ﴿لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:١ - ٤].
وقال: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ [النمل:٩١].
وقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون:١ - ٣].
وقال في الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ
2 / 5
الأسئلة
2 / 6