الاشتراك بين الخالق والمخلوق في الاسم أو الصفة إنما هو اشتراك في الاسم المطلق
هنا مسألة في مسألة التشبيه لا بد من التحقيق فيها، فإنك إذا نظرت في كتاب الله ﷾ وجدت أن بعض الصفات -بل وبعض الأسماء- التي أضافها الله ﷾ إلى نفسه تضاف إلى الخلق.
فمثلًا: قال الله عن نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء:٥٨] وقال عن الإنسان: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان:٢] فترى أن السياقين فيهما قدر من الاشتراك، وقال عن نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء:٥٨] ولما ذكر عبده المخلوق قال: ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان:٢] وقال عن نفسه ﷾: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:٤٣] وقال عن عبده ورسوله محمد ﷺ: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨] فسمى نفسه رحيمًا، وسمى نبيه رحيمًا بالمؤمنين.
بل إن هذا قد يقع في آية واحدة، فإن الله يقول: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة:١١٩] والصفة المشتركة هنا هي صفة الرضا.
وقال عن نفسه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ﴾ [الحشر:٢٣] وقال عن عبده: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ [يوسف:٥٠] وسمى نفسه العزيز، وقال في كتابه: ﴿قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ [يوسف:٥١] إلى غير ذلك.
فهناك قدر مشترك في ذكر الأسماء والصفات، وهذا صريح في كتاب الله، فضلًا عن غيره.
فهذا الذي في القرآن من هذا الاشتراك هو اشتراك في الاسم المطلق، والعقائد -والمعاني جملةً سواء كانت في باب الخبر أو باب الطلب- لا تؤخذ من الألفاظ المجردة، أي: المقطوعة عن الإضافة والتخصيص، سواء كانت اسمًا أو فعلًا ليس له مقارن من القول أو الحال، وإنما تؤخذ المعاني من الجمل المركبة، والجمل عند العرب هي ما كوِّن من المبتدأ والخبر أو كوِّن من الفعل والفعال، هذه هي الجمل التي تحصل المعاني، وأما ما قصر عن ذلك فإن الكلام لا يكون عندها مفيدًا، فإنك إذا ذكرت مبتدأً ولم تذكر خبره، والسياق والحال لا يدلان على خبره، فإنك لم تذكر شيئًا مفيدًا، ولا يمكن أن يستفاد من تلك الكلمة معنى.
فالاشتراك المذكور في مثل الآيات السالفة إنما وقع في اللفظ المطلق، لا في السياق المركب، فإن الذي يريد أن يذكر هذا الاشتراك سيقول: إن صفة الرضا أضيفت إلى الله وأضيفت إلى المخلوق، وإن السمع أضيف إلى الله وأضيف إلى المخلوق ..
وهلم جرًاَ من الصفات.
وقد عني الإمام ابن تيمية بتقرير ذلك في كتبه ولخصه في الرسالة التدمرية، فذكر أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل بعد الإضافة والتخصيص عقلًا؛ لأن الاسم المطلق لا وجود له في الخارج، وإنما توجد حقيقته في الخارج بعد إضافته أو تخصيصه، فإذا ما أضيف أو خصص تعلق به معناه في الخارج والوجود.
فهذه الأسماء وإن اشتركت بعضها بين الخالق والمخلوق، إلا أن ما يليق بالله أضيف إليه، وما يليق بالمخلوق أضيف إليه، فما كان مضافًا إلى الله فإن معناه يكون مناسبًا للموصوف به، وما أضيف إلى المخلوق فإن معناه يكون مناسبًا للموصوف به.
فالتشبيه والتمثيل الذي نفته النصوص في مثل قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١] هو الاشتراك فيما كان من المعاني مضافًا مخصصًا، أما الاسم المطلق فإن النصوص لم تنفه.
ولو قال قائل: ألا يكون كمال التحقيق لتنزيه الله عن التشبيه والتمثيل أن ننفي مشابهة الباري لخلقه في الاسم المطلق والاسم المقيد؟
قلنا: التشبيه الذي نفته النصوص هو ما كان من الأسماء مضافًا مخصصًا أو مقيدًا ..
إلى غير ذلك، وأما الاشتراك في الاسم المطلق فإن هذا الاشتراك ليس هو المنفي في النصوص، وتسميته تشبيهًا فيه نظر؛ لأن التشبيه مبني على القياس، وليس في الاسم المطلق مقيس ومقيس عليه؛ لأن الاسم المطلق لم يضف إلى أحد بعينه.
والتحقيق أن هذا لا يمكن أن يسمى تشبيهًا؛ لأن التشبيه يستلزم وجود المشبه والمشبه به، والاسم حال إطلاقه وتجريده عن الإضافة والتخصيص لا يمكن أن يتحصل منه مشبه أو مشبه به، إنما المشبه والمشبه به وجوده وثبوته فرع عن إضافة الاسم، إذا قلت: هذا باب زيد وهذا باب عمر، فهنا لك أن تقول: إن باب زيد مشابه لباب عمر ..
فهنا أثبتنا تشبيهًا، لكن إذا ما قلنا: (باب).
فلا يمكن لقائل أن يقول: إن هذا اللفظ تضمن تشبيهًا، فإن قال: تضمن تشبيهًا، فإنا نقول له: أين المشبه وأين المشبه به؟
فحين يقول: باب زيد وباب عمر.
يكون ثمة مشبه ومشبه به، أما إذا قال: (باب) فإننا نقول: إنه لفظ مشترك.
ومعنى كونه مشتركًا: أنه يمكن أن يذكر على غير مورد وعلى غير سياق وعلى غير دلالة.
إذًا: التشبيه الذي نفته النصوص ليس هو الاشتراك في الاسم المطلق ..
وذلك لأسباب عقلية شرعية، أهمها: أن الاسم المطلق يمتنع ثبوت المشبه والمشبه معه، ومن هنا امتنع أن يسمى وروده تشبيهًا.
فلو قال قائل: أليس النفي حتى في الاسم المطلق أبلغ في تنزيه الله عن خلقه؟
قلنا: ليس النفي في ذلك أبلغ؛ لأنه لولا هذا الاشتراك في الاسم المطلق لما تحصل العلم بأسماء الله وصفاته، ولذلك بعض المعطلة الذين بالغوا في مسألة تنزيه الله ﷾، لما وجدوا القرآن يذكر العلم مضافًا إلى الله ومضافًا إلى العبد، ويذكر الرحمة مضافةً إلى الله ومضافةً إلى العبد؛ قالوا: إن هذا من باب الاشتراك اللفظي.
ومراد المناطقة بالاشتراك اللفظي أن اللفظ هو اللفظ، ولكن ليس هناك أدنى نسبة من المعنى بين المرادين، وقالوا: إن هذا من باب التنزيه.
مثلًا: الكلام الذي أضيف إلى المخلوق: هو ما يعبر به من القول الذي هو بحرف وصوت.
والكلام الذي أضيف إلى الله قطعوا عنه أدنى نسبة من المعنى تتعلق بالكلام الذي أضيف إلى المخلوق، وجعلوا الاشتراك اشتراكًا لفظيًا.
وهذا ليس من التنزيه، بل هو عند التحقيق من التعطيل؛ لأنه لو قيل في أسماء الله وصفاته: إن ما ذكر منها مضافًا إلى المخلوق هو من باب الاشتراك اللفظي الذي معناه أنه لا توجد أدنى نسبة مطلقة ولا مقيدة من المعنى بين المضافين، لاستحال أن يعلم ما يتعلق بربوبية الله؛ فإذا قال الله عن نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء:٥٨] لم نفقه معنى كونه سميعًا بصيرًا.
فإذا قيل في باب الأسماء والصفات: إن ما أضيف منها إلى المخلوق هو من باب المشترك اللفظي، قلنا: هذا ممتنع؛ لأنه يستلزم عدم فهم الخطاب القرآني المضاف إلى الله.
ومن هنا أبطل شيخ الإسلام ﵀ هذه المسألة، وهي ما زعمه الرازي مذهبًا لـ أبي الحسن الأشعري، وقال: إنه غلط على الأشعري في هذا المسلك، والأشعري وأئمة المتكلمين يعلمون فساد هذه الطريقة التي تقول: إن هذا من باب المشترك اللفظي.
فإن قيل: إذًا ثمة نسبة، قلنا: إن هذه النسبة هي في المطلق، والمطلق ليس هو من باب التشبيه؛ لأنه لا يمكن أن يحصل منه مشبه ومشبه به، فهي نسبة كلية لا وجود لها في الخارج، بها يعلم ويفقه الخطاب؛ ولهذا جميع المسلمين ومن يعرف لغة العرب حتى من الكافرين إذا قرءوا قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء:٥٨] فقهوه، ولم يستلزم فقههم له أن الباري يكون مشابهًا ومماثلًا للمخلوقين، وذلك مما يدل على أن الإثبات مناسب للعقل والفطرة، ولو كان صاحبها ليس على دين المسلمين.
ولهذا لم يعترض أحد ممن وصفهم القرآن بالسفه والجهل من مشركي العرب على آية من آيات الأسماء الصفات؛ مما يدل على أنها مناسبة لعقولهم، مع أنهم ما فتئوا يبطلون القرآن حتى قالوا: إنه سحر يؤثر، وحتى قالوا عن النبي ﷺ: إنه كاهن ومجنون ..
إلى غير ذلك.
فلو كان من قضاء العقل عندهم أن صفات الباري منتفية أو أن الإثبات يستلزم التشبيه، لاعترضوا على كتاب الله بذلك؛ كما اعترضوا في مسألة البعث؛ كما في مثل قول الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ [يس:٧٨].
5 / 5