شرح الأربعين النووية لعطية سالم
شرح الأربعين النووية لعطية سالم
জনগুলি
شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [١]
1 / 1
مقدمة عن مؤلف الأربعين النووية وسبب تأليفها
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف ﵀: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم] .
فهذا أول حديث في مجموع النووي ﵀، المسمى بالأربعين النووية، والنووي ﵀ يتفق علماء الرجال ويتفق المحدثون والفقهاء من بعده: على أنه إمام جليل، زاهد ورع، فقيه محدث، وهو محل اتفاق على جلالته وفضله في العلم، وله مصنفات عديدة وكلها نفع الله بها طلبة العلم، سواءً في الفقه كالمجموع شرح المهذب، ولا أعتقد أنه توجد موسوعة فقهية تضاهي هذا الكتاب، اللهم إلا إن كان المغني لـ ابن قدامة عند الحنابلة.
وله أيضًا كتاب روضة الطالبين في الفقه الشافعي، وله شرح مسلم، وله رياض الصالحين من أحاديث خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وكلها بحق مراجع في بابها.
وهذا الكتاب الذي اشتهر عند الناس بالأربعين النووية، نسبة إلى مؤلفه الإمام النووي، الذي ينسب إلى نَوى، وهي منطقة تتبع الجولان من أعمال دمشق، ونشأ بها، ثم تعلم في دمشق أي في الجامع الأموي، ورحل إلى عدة أقطار وتعلم، ونفع الله ﷾ به وبمؤلفاته.
1 / 2
سبب تسمية الأربعين النووية
وأصل كتابه هذا الأربعين النووية، يقول بعض العلماء: إن كثيرًا من العلماء قد ألفوا في الأربعينيات، فمنهم من يجمع أربعين حديثًا في موضوع واحد، كفضائل العلم، ومنهم من يجمع في فضائل البلدان، أو في المسلسلات أو في غير ذلك.
وأما سبب التحديد بهذا العدد فقد ورد حديث ضعفه البعض، ولكنهم عملوا به في فضائل الأعمال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا على أمتي من أمور الدين أدخله الله الجنة، أو جعله الله من المتقين)، ورتب ﷺ جزاءً على من جمع أربعين حديثًا من أمور الدين.
قالوا: وإن كان ضعيفًا إلا أن كثيرًا من العلماء جمعوا أربعينات في مواضيع مختلفة، وأصل الأربعين النووية كما ذكر ابن رجب في مقدمة شرحه: أن ابن الصلاح وهو من أجل علماء الحديث في الشام، جلس في يومٍ مجلسًا ليملي أحاديث من جوامع كلمه ﵊، فأملى ستةً وعشرين حديثًا في مجلسه ذاك، فجاء النووي ﵀ وأخذ هذه الستة والعشرين وأضاف إليها ما أكمل الأربعين، وبالتحديد اثنين وأربعين حديثًا، انتخب فيها الأحاديث الجامعة التي تعد كأصل أصيل في الإسلام.
وبعضها يقول عنه بعض العلماء: ربع التشريع، أو ربع الدين، أو ثلث الدين، هناك أحاديث عامة كما جاء عن أحمد ﵀: أن ثلاثة أحاديث تدور عليها الشريعة كلها: حديث عمر بن الخطاب: (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)، وحديث: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك المتشابهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) .
ويقول أحمد لأن الأعمال كلها لا تقبل إلا بنياتها، والأعمال الفرعية لابد أن تكون مطابقة لما جاء به رسول الله ﷺ، وهذا هو الحديث الثاني، والثالث: أن الأعمال منها ما هو بين حلال، ومنها ما هو بين حرام وبينهما المشتبهات، وجميع أحكام الفقه هكذا: إما حلال بين وإما حرام بين، وإما مشتبه بينهما، ليس هناك قسم رابع، (فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) فيقول أحمد ﵀: لم يخرج حكم تشريعي عن هذه الأحاديث الثلاثة.
ويروون عن أبي داود ﵀ أنه يقول: جمعت أربعمائة ألف حديث، ووجدتها تدور على أربعة أحاديث، وذكرها ابن رجب في مقدمته، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تعتبر قواعد عامة، وأخذوا ذلك من قوله ﷺ: (أوتيت جوامع الكلم)، فهو ﷺ أعطي جوامع الكلم والحكم؛ لأنه يجمع المعنى الكبير جدًا في كلمتين، كما في هذا الحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد)، فلو جئت بجميع أعمال المكلفين في الطهارة أو الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج.
إلخ، فقسه على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، إن كان موافقًا لما جاء فيها فبها ونعمت، وإلا فهو مردود، ويشهد له قوله سبحانه، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧] .
والشافعي ﵀ كان له بحث أو له جمع آية وحديث، يقول: إن جميع الأحاديث النبوية لها أصل يشير إليه في كتاب الله، ولكن ما كل إنسان يجد هذا.
يهمنا أن العلماء جمعوا أربعينات في مسائل مختلفة، وكان ممن جمع فيها النووي ﵀، وكان جمعه في جوامع كلمه ﵊، وقد جمعت هذه الأربعين دون أن يلاحظ فيها التناسق بين الأحاديث، والمهم أنها موجودة في هذا المجموع لو استوعبها إنسان لكأنما استوعب جوامع كلمه ﷺ.
1 / 3
ما استدركه بعض العلماء على الإمام النووي
ويورد عليه بعض العلماء مما ترك من الأحاديث التي تعتبر الأم في بابها قالوا: ترك حديثًا في الفرائض هو أصل للفرائض (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى ذكر وارث) .
وقد اتفق علماء الفرائض أن هذا الحديث أصل في باب الميراث، والاتفاق على أن الإرث يكون بالفرض والتعصيب، إذًا: ألحقوا الفرائض على ما جاء في كتاب الله، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وبين ميراث الزوجين عند وجود الولد وعدمه، وبين حق الذكر مع الأنثى في الأولاد والأخوة والأخوات، وبين حق الأم والأب إذا كان هناك أولاد أو ليس هناك أولاد، وبين ميراث الجميع، وما بقي فلذوي العصبات، (لأولى رجل ذكر) .
فيقولون: إنه لم يذكره وكان من حقه أن يذكره مع هذه الأحاديث، ولذا جاء ابن رجب ﵀ وأخذ الأربعين أو الاثنين والأربعين وأضاف إليها ثمانية حتى كملت الخمسين حديثًا وأدخل فيها هذا الحديث، وما شاكله مثل: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أيضًا أصل في بابه، فلم يفصل في ذكر المحرمات وأحال ذلك إلى ما ذكر من المحرمات من النساء في القرآن.
ومهما يكن من شيء فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي لنفسه الكمال، والنووي بنفسه في هذا المجموع ما قال: جمعت كل شيء، إنما جمع ما وقع عليه اختياره في هذا الباب.
وهذا الحديث الذي بدأ به هذا المجموع المبارك يتفق العلماء على أنه أصل من أصول الدين، وعلى أنه ثلث أو ربع أو خمس الدين، ويتفق العلماء أيضًا على أن هذا الحديث يدخل في كل باب من أبواب الفقه، ولذا جاء عن بعض السلف أنه قال: لقد بدأ البخاري كتابه بهذا الحديث تنبيهًا على وجوب إخلاص النية في العمل لله، ولو ألفت كتابًا لجعلت مقدمة كل باب: (إنما الأعمال بالنيات) نأتي إلى هذا الحديث وإلى منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله.
يروي النووي ﵀ هذا الحديث عن عمر مباشرة، وقد أشار في مقدمته أنه التزم أمرين: - حذف السند ليسهل الحفظ.
- وصحة الحديث لنطمئن إليه، فلا يوجد في الأربعين النووية حديث ضعيف.
1 / 4
تلقيب عمر بن الخطاب بأبي حفص والفاروق
وفي بداية الحديث عن هذا الإيراد لعلنا نتساءل عن هذه الألقاب والكنى والأسماء، أمير المؤمنين أبو حفص الفاروق عمر يبين علماء اللغة: أن العلم اسم يعين المسمى مطلقًا كما قال ابن مالك في الألفية، ثم بين أنه يأتي كنية وعلمًا واسمًا ولقبًا، والعلم هو ما يعين مسماه بدون قرينة، وسمي الاسم اسمًا لأنه وسم أي: علامة على صاحبه، وأصل الوسم العلامة للإبل ونحوها، وهو مأخوذ أيضًا من السمو وهو العلو، ومنه السماء، سما يسمو سموًا، لكأن الاسم سمة علت على صاحبها فميزته عن غيره.
والكنية ما صدرت بأب أو بأم كأبي حفص وأبو بكر، واللقب ما أشعر بمدح كالفاروق وذي النورين أو بذم.
السؤال هنا: ما هو سبب هذه الألقاب التي لقب بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؟ أما أمير المؤمنين فيقولون: إنه في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانوا يقولون لـ أبي بكر خليفة رسول الله، فلما جاء عمر كانوا يقولون: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر فقالوا: جاء وافد من العراق يسأل أين أميركم؟ قالوا: من أميرنا؟ قال: عمر، قالوا: جئت بها، فسموه أمير المؤمنين، وقالوا: إنه هو الذي قال: أنتم المؤمنين وأنا أميركم فأنا أمير المؤمنين، يهمنا أنه لقب جاءه بعد توليه الخلافة.
أبو حفص الحفص: الأسد قالوا: كني أبو حفص عمر بذلك لشجاعته وقوته وخفته، ويذكرون عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمسك أذن الفرس بيد ويثب على ظهر الفرس، دون أن يعتمد على شيء، وذلك لنشاطه وخفته، وهذا القصد والوثب من سمات الأسد والنمر، فلقب أبو حفص لهذه الصفة كما يقولون.
أما الفاروق فقد لقبه به رسول الله ﷺ، كما لقب خالدًا بسيف الله، ويذكرون ذلك في قصة إسلامه وأنه كان أشد الناس على المسلمين إيذاء، وفي يوم أخذ سيفًا، ومضى يسأل عن رسول الله ﷺ يريد أن يقتله، فلقيه رجل وقال: أين يا عمر؟ قال: أريد قتل محمد.
قال: هل ترى بني هاشم تاركيك؟ فقال له عمر: صبأت، قال: أدلك على أعجب من ذلك، أختك وزوجها أسلما.
فبدل أن يذهب إلى رسول الله ﷺ ذهب إلى بيت أخته، وكان عندها وعند زوجها خباب بن الأرت يقرئهما القرآن ويخفيان إسلامهما، فلما جاء عمر وسمع خباب صوته اختفى داخل البيت، ودخل عمر إلى البيت فقال لأخته وزوجها: ما هذه الهمهمة التي سمعتها، قال له زوج أخته: ما هو إلا حديث بيننا -وكانا يقرءان سورة طه-، فعدا على زوج أخته، فقامت أخته تدافع عن زوجها فلطمها فأدماها، فلما رأى الدم من أخته أسف على ذلك.
ثم قالت له أخته: رغم أنفك يا عمر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فقال: أريني الصحيفة التي كنتما تقرآنها، قالت: لا.
إنك رجس وهذا كتاب الله، اذهب فاغتسل، فذهب ثم جاء وأخذ الصحيفة وقرأ ما فيها ثم قال: أين محمد الآن؟ فلما سمع خباب قول عمر نادى وخرج وقال: أبشر يا عمر! لعل دعوة رسول الله ﷺ ليلة الخميس أصابتك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (اللهم أعز الإسلام بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام) قال: أين محمد الآن؟ قال: في الدار التي بأعلى الصفا.
فذهب عمر رضي الله تعالى عنه فوجد حمزة على الباب رضي الله تعالى عنه ومعه رجال، فلما رآه حمزة قال: لقد جاء عمر إن كان أراد الله له خيرًا فالحمد لله، وإلا فقتله يسير علينا، فلما طرق الباب وسمع رسول الله ﷺ صوته خرج إليه رسول الله ﷺ، وأمسك بتلابيبه وبحمالة سيفه وقال: أما آن لك أن تسلم يا عمر!! قبل أن يخزيك الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
ثم جلسوا في الدار فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق أحياءً وأمواتا؟ قال: والذي نفسي بيده إننا على الحق أحياءً وأمواتًا، قال: فلماذا نجلس هنا أفلا نعلنها، وخرج عمر وخرج رسول الله في صفين على أحدهما عمر وعلى الآخر حمزة وذهبا إلى البيت وطافا بالبيت، فساءت وجوه قريش، وقالوا: الآن انتصف المسلمون منا.
فحينئذٍ سماه الرسول الله ﷺ الفاروق، كأنه فرق في ذلك اليوم بين الخفاء بالدعوة وبين ظهورها، أو بين المسلمين والمشركين، حيث تميزت جماعة المسلمين حينما دخل عمر في الإسلام وكان ابن مسعود يقول: (إسلام عمر فتح، وهجرته نصر، وخلافته رحمة) من هنا سمي الفاروق، وذلك كما سمى الله ﷾ يوم بدر يوم الفرقان؛ لأنه يوم فرق الله فيه بين قوة الشرك الطاغية وبين قوة الإسلام الداعية إلى الله.
1 / 5
شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)
نأتي إلى حديث النية منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله: أولًا: من حيث اللفظ (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأة ما نوى) هاتان جملتان متقاربتان لفظًا مختلفتان مضمونًا.
كلمة (إنما) تعتبر عند علماء اللغة أداة قصر، ومعنى القصر أو الحصر هو أن تقصر المبتدأ على الخبر، ومن أساليب القصر النفي والإثبات (ما وإلا) مثل: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران:١٤٤]، وكذلك تقديم ما حقه التأخير مثل: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] فأصلها (نعبدك ونستعينك) ولكن تقديم المعمول يدل على أنه محصور على ما بعده، فالمعنى: (إياك وحدك نعبد) فقصر العبادة على مرجع الضمير المتقدم هنا (إياك) وكان أصله ضمير وصل وهو الكاف: (نعبدك) فلما فصل جيء بـ (إيا) فصار (إياك) لأنه لا ينطق بالكاف وحده، فصارت الجملة هكذا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك.
ومن أساليب الحصر أيضًا: تعريف كل من المبتدأ والخبر كقوله: (الكاتب زيد) فزيد معرفة والكاتب عرف بأل، والمعنى أنه لا كاتب إلا زيد، وكقول البعض: الشاعر شوقي أو الشاعر المتنبي فقصر الشعر على المتنبي كأن غيره لا يذكر معه، فتعريف الطرفين، وتقديم ما حقه التأخير، والنفي والإثبات، و(إنما) كلها أساليب قصر، وأم الباب هي (إنما) ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ﴾ [الرعد:٧] فكلمة (إنما) هي أداة حصر وحدها.
وهنا (الأعمال) هي المحصور والمقصور على النية، فجميع الأعمال مقصورة ومحصورة ومتعلقة بالنية.
1 / 6
هل تدخل النية في جميع الأعمال
وهنا (الأعمال) معرف بأل فيشمل جميع الأعمال، ومن هنا قال جمهور العلماء: كل عمل لابد أن يتعلق بالنية.
بعض العلماء يقول: هذا العام مخصوص خرج منه ما لا يحتاج إلى نية، كالأمور التي ليست مقصودة للتعبد، كالأمور الجبلية، كالأكل والشرب والنوم واللبس، فهذه أمور جبلية لا تحتاج إلى نية، وتحصل بدون النية، فإذا أكلت شبعت ولو ما نويت الشبع، وإذا لبست سترت وإن لم ترد الستر.
ويقول الآخرون: الحديث على عمومه ولا يخرج منه شيء، حتى الأمور الجبلية داخلة في هذا الحديث؛ لأنك إذا أكلت لتشبع شكرًا لله على النعمة، أو لتتقوى على طاعة الله، فإن نيتك في الأمور العادية تحولها إلى عبادة، فإذا لبست تنوي الستر كان لك أجر، وإذا لبست تنوي الفخر والخيلاء كان عليك وزر، إذًا: ما خرج من هذا الحديث شيء.
ويقول آخرون: إذا كانت عندك أمانة أو وديعة أو عليك دين، فعندما ترد الوديعة لمودعها، وتؤدي الأمانة لصاحبها، وتقضي الدين، فهذه الأمور لا تحتاج إلى نية، والآخرون يقولون: بل النية تدخل هنا أيضًا، فإن كنت تريد أن تأكل الأمانة، أو أن تجحد الوديعة، أو ألا ترد الدين، وجاء الحاكم وأخذها منك قهرًا ليوصل الحق لصاحبه، فأنت أثمت بنية الخيانة أو الغدر، وإذا دفعتها إليه عملًا بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:٥٨] كان لك أجر بنية الوفاء امتثالًا لأمر الله.
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تستدين، فقالوا لها: لماذا تستدينين وقد تكونين في غنى عن الاستدانة؟ قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من استدان وهو ينوي السداد كان الله في عونه حتى يسدد دينه) .
إذًا: النية لها دخل حتى في العادات، فإذا كان الإنسان يريد عملًا ما من أمور الدنيا أو أمور الآخرة فله من الجزاء بحسب نيته، مثل إنسان بنى بيتًا يستتر فيه ويأوي إليه عياله، ويتركه لعياله من بعده فله أجر على هذا العمل، ألا ترون الحديث في قوله ﷺ: (حتى اللقمة يضعها في فيَّ امرأته فله بها أجر)، وقال: (أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيت لو وضعتها في حرام أليس عليك وزر) .
إذًا: قوله ﷺ: (إنما الأعمال) عامة لا يخرج من ذلك عمل قط.
1 / 7
كلام العلماء على نية القصد
والنية في الأعمال على قسمين: - نية بالقصد.
- ونية للتعيين والتمييز.
النية التي للقصد، تكون في الأعمال الأخروية التي قد يدخلها الرياء والسمعة، وقد يدخلها مصلحة أخرى، فهذه الأعمال أجرها متعلق بالنية الخالصة لوجه الله.
أما المميزة فتأتي في الصلاة والصيام، وهي التي يهتم بها علماء الفقه.
وقد جاء في نية القصد أن رجلًا سأل النبي ﷺ: (يا رسول الله الرجل يقاتل حمية، الرجل يقاتل ليرى مكانه، الرجل يقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فالنية نية القصد أي: ماذا قصد بقتاله؟ ونحن نعلم أن الرسول ﷺ لما فتح مكة وسمع أن ثقيفًا اجتمعت له وأراد أن يخرج إليهم، فأراد أن يخرج مسلمة الفتح مع رسول الله ﷺ، فاحتاجوا إلى دروع وإلى سيوف وإلى عتاد، فأرسل إلى صفوان وكان على دين قومه -لم يسلم بعد- يطلب منه أن يعيره أدرعًا، قال: غصبًا أم عارية؟ قال: بل عارية مؤداه أو قال: مضمونة، وجاء صفوان بنفسه وهو على دين قومه، وخرج مع رسول الله ﷺ في حنين، وحينما فوجئ المسلمون بهوازن ترشقهم بالنبال كالجراد رجع من رجع من المسلمين، وثبت رسول الله ﷺ في أرض المعركة وقال قائل: هؤلاء أصحاب محمد لا يردهم إلا البحر، فقال صفوان: والله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن، وإنما قال ذلك حمية لقريش لا غير.
وهكذا الأعمال التي يقصد بها وجه الله فالنية فيها بمعنى القصد ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:١١٠]، ولهذا جاء في الحديث أنه ﷾ يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا وأشرك معي فيه غيري تركته وشركه) ويؤتى يوم القيامة وينادى من عمل عملًا يرائي به غير الله فليطلب جزاءه ممن كان يرائي، والأحاديث في هذا كثيرة.
1 / 8
طروء الرياء وإحباط أجر العمل
ويبحث العلماء في مسألة: إذا دخل الرياء عملًا أصله لوجه الله ولكن طرأ عليه مقصد جانبي، فهل يبطل هذا العمل لقوله: (تركته وشركه)، أو أنه يبطل منه بالقدر الذي دخل فيه الرياء؟ نعلم جميعًا أن الرسول ﷺ حذر من الرياء وقال عنه إنه الشرك الخفي، والرياء: أن ترائي بعملك فتعمل بقصد أن يذكرك الناس، أو يمدحوك، ولذا قيل في الذي يجاهد حمية: (يأتي يوم القيامة فيذكره الله تعالى بنعمه عليه فيذكرها، فيقول له: فما صنعت فيها؟ فيقول: خرجت بمالي وبنفسي وجاهدت في سبيل الله، فيقول: كذبت! خرجت ليقال فلان شجاع، وقد قيل، ويؤتى بالعالم فيعرفه الله نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت بها؟ فيقول: تعلمت وعلمت ليعلم دينك، فيقول: كذبت! إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل) ولهذا يقول الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله: من تعلم العلم ليماري به العلماء أو يجاري السفهاء أو يلفت أنظار الناس إليه فالنار فالنار، ويقول ابن عبد البر: من تعلم ليماري العلماء فقد قسا قلبه، أي: ضاع عن التحصيل؛ لأنه لم يرد بتعلمه وجه الله، وهذا مما يوقف طلبة العلم على أحرج المواقف، لأن الشهرة أمرها خطير، ولأن طلب الرياء عند الناس أخطر، فليتق الله كل طالب في نفسه وفي علمه وليرجُ وجه الله فيما علم وفيما علَّم، سواء استفاد منه الناس أم لا.
وفيما يتعلق بالرياء هل هو يحبط جميع الأعمال أو العمل الذي راءى فيه، وإذا قصد بعمله وجهًا سوى وجه الله، هل يكون له في ذلك حض؛ كمن حج ليتجر، وكمن قاتل ليغنم مع إعلاء كلمة الله.
يقول العلماء: إن كان القصد الأول هو وجه الله وما جاء من غيره فإنما هو تبع، فلا شيء في ذلك، والمسلمون كانوا يخرجون ويقاتلون وكانوا يغنمون، ولا يؤثر ذلك على قصدهم في إعلاء كلمة الله.
وبعضهم يقول: إن قاتلوا وغنموا فقد فاتهم ثلثا أجر الغزاة، وإن قاتلوا ولم يغنموا فلهم أجر الغزاة كاملة.
ولكن الرسول ﷺ كان يغزو ويقاتل ويغنم، ويأخذ من الغنيمة خمسها ويقسم على أصحابه، ولا يؤثر ذلك؛ لأن القصد الأول إنما هو إعلاء كلمة الله.
ولذا كان مالك ﵀ يكره النفل أي: تنفيل الإمام أو القائد للغزاة في أول الأمر في ذهابهم، والنفل هو أن يقول القائد: من قتل مشركًا فله سلبه، يقول مالك: الأولى ترك هذا في الذهاب مخافة أن يذهب هذا المسلم لا لإعلاء كلمة الله ولكن لقتل المشرك ليأخذ السلب، فكرهه حتى لا تغلب المادية على نيته وعلى قصده، أما في العودة فلا مانع؛ لأنهم قد تحدد القصد عندهم وانقضى، فلا تأثير هنا على القصد.
وجاء في الحديث (يخرج جيش يريد الكعبة فيخسف الله بهم الأرض، قالت عائشة: يا رسول الله!! يكون فيهم السوقة وغيرهم فما ذنبهم؟ قال: يخسف بهم جميعًا ويبعثون على نياتهم)، فبعضهم نيتهم هدم البيت، وبعضهم لا قصد لهم، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنما صحبوا ذلك الجيش ليبيعوا ويشتروا ويربحوا، فيبعث كل واحد منهم على نيته.
وهكذا نية القصد تأتي في الأعمال التي يراد بها وجه الله، فهذا الذي حج ويتجر إن كان خروجه للحج، وإنما يتجر ليستعين على نفقة الحج، فلا مانع من ذلك؛ لأن القصد هو الحج والاتجار إنما هو وسيلة وليس بغاية، أما إذا كانت غايته التجارة والحج جاء تبعًا فهذا بقدر جزئية النية في الحج يكون له أجر، وهكذا في جميع الأعمال.
وهذا يتكلم فيه علماء العقائد وعلماء التوجيه والتربية.
1 / 9
كلام العلماء على نية التعيين والتمييز
القسم الثاني من النيات: وهي نية التمييز والتعيين، يقول الفقهاء في قوله: (إنما الأعمال بالنيات): إن العمل قد يقع ولو لم توجد نية، فالصلاة استقبال وقيام وركوع وسجود إلى آخره، فلو أن إنسانًا استقبل القبلة وكبر ووضع يديه وركع ورفع وسجد وسلم، فقد أتى بالصلاة وحصَّل العمل، لكن النية غير موجودة، قالوا: فإن كان في الفريضة فلا تصح فريضة إلا بالنية، وهل تنقلب هذه الصلاة نافلة وتصح أم أنها باطلة؟ خلاف بين العلماء.
ومثل آخر: سنة الفجر ركعتان، والفريضة ركعتان، فالذي يميز بين ركعتي الفريضة وركعتي النافلة هو النية، فإذا نوى بالركعتين الأوليين النافلة، ونوى بالركعتين الأخريين الفريضة فقد ميز بين الصلاتين بالنية.
ومثال آخر في باب الطهارة: إنسان في شدة الحر انغمس في بركة أو في حوض، أو دخل تحت الدش يتبرد من الحرارة، وأراد أن يصلي، فلابد له أن يتوضأ؛ لأن نيته ليست لاستباحة الدخول في الصلاة، إنما اغتسل للتبرد.
والخلاف في هذا بين أبي حنيفة ﵀ والجمهور؛ فالجمهور يقولون: إن النية تكون في الأعمال الأساسية التي هي المقصد، أما الوسائل فلا تحتاج إلى نية، فإذا لبست ثيابك من أجل أن تستر عورتك للصلاة لم تحتج إلى تنوي عند اللبس أن تستر العورة لأجل الصلاة؛ لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة وليس غاية.
فالإمام أبو حنيفة ﵀ يقول: الوضوء أيضًا ليس غاية بذاته وإنما هو شرط لصحة الصلاة، فإذا توضأت للتبرد لا بنية استباحة الصلاة وصليت بهذا الوضوء؛ صحت صلاتك بهذا الوضوء كما صحت صلاتك بذلك الثوب.
والجمهور يقولون: الوضوء بذاته عباده وليس هو مجرد شرط للصلاة؛ لأن الرسول ﷺ ذكر في الحديث الصحيح: (إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت ذنوبه من فيه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل وجهه خرجت ذنوب وجهه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه خرجت ذنوبه مع آخر قطر الماء، ويخرج من الوضوء لا ذنب له، وكانت خطواته إلى المسجد وصلاته نافلة له)؛ قال الجمهور: فالوضوء بذاته عبادة؛ لأنه يكفر الذنوب.
والرجل الذي وجد امرأة في أقصى المدينة، وجاء إلى الرسول ﷺ وقال: (يا رسول الله! أصبت امرأة في أقصى المدينة، وما تركت شيئًا يفعله الرجل مع امرأته إلا فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني يا رسول الله، فقال له ﷺ: أصليت العصر معنا؟ قال: لا، قال: توضأ وصل، فلما توضأ الرجل وصلى نزلت الآية: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود:١١٤] فدعا الرجل وقرأها عليه، فقال: ألي خاصة يا رسول الله!! قال: بل لأمتي كلهم)، قال العلماء: إن وضوءه مع صلاته من مكفرات الذنوب، إذًا فالوضوء عبادة بذاته.
وإذا نظرنا أيضًا إلى أعمال الوضوء وجدناها تدور بين العادة وبين العبادة، فالاغتسال من الجنابة تعميم للبدن بالماء، والاغتسال يوم الجمعة تعميم للبدن بالماء، الاغتسال من التبريد والنظافة تعميم للبدن بالماء، وكل هذه الأغسال في صورة واحدة، فما الذي يميز ما كان واجبًا عما كان مسنونًا وما كان عادة؟ النية هي التي تميز ذلك، ولهذا فالجمهور على أن النية شرط في صحة الطهارة.
نأتي إلى الصلاة كما أشرنا، فإذا صلى ركعتي الفجر ثم صلى الصبح لم يفرق بين ذلك إلا النية، وإذا أراد أن يجمع الظهر والعصر، فالنية تحدد الظهر وتحدد العصر وهكذا، إذًا: النية تدخل في العبادات في وسائلها وفي غاياتها.
وهل النية شرط في صوم رمضان؟ قال بعض العلماء: لا تشترط النية في صوم رمضان، فيكفي أن ينوي الصوم، ولا حاجة إلى تعيين النية، فكونه ينوي الصوم فذلك يكفي؛ لأن الإنسان قد يمتنع عن الطعام حمية، وقد يمتنع عن الطعام لعدم رغبة فيه، وقد يمتنع عن الطعام لعدم وجود الطعام، فإن كان في رمضان فظرف الصوم يعيِّن المقصود فلا حاجة للنية عن ذلك.
وقال بعض العلماء: بل النية واجبة، وتكون من الليل.
فإذا كان في غير رمضان، فهناك صوم قضاء رمضان، وهناك صوم كفارة، وهناك صوم تطوع، وهناك صوم نافلة، كالإثنين والخميس، فإذا أراد أحدنا أن يصوم يومًا قضاء أو كفارة أو نافلة أو نذارًا، فلابد من النية لكي يميز نوعية الصيام هنا.
فمن هنا يقول بعض العلماء: (إنما الأعمال بالنيات) أي: تعيينها وصحتها بالنية، ولقوله ﷺ: (من لم يبيت الصيام بالليل فلا صيام له) .
وبعضهم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أي: كمالها وفضيلتها.
والصحيح: أن كل عمل توقفت صحته على النية فإنه يقدر المحذوف في قوله: (إنما الأعمال) أي: إنما صحة الأعمال بنياتها، وإذا كان يؤدى بغير نية، كدين أخذ من صاحبه، بأن حكم الحاكم على مدين بدفع الدين فامتنع فباع ماله ووفّى الدائن حقه؛ صح السداد، ولا يتوقف سداد الدين على نية المدين؛ ولكن كمال أجر هذا العمل يتوقف على النية.
إذًا: النية تدخل في جميع الأعمال، فهي إما أن تصحح ما يفسد بدونها، وإما أن تكمل وتحسن ما يصح بدونها، ولهذا فالحديث عام في جميع الأعمال التي يتناولها التكليف.
1 / 10
شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [٢]
2 / 1
أقسام العمل
(إنما الأعمال بالنيات أو بالنية) بالإفراد وبالجمع -روايتان- والأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أعمال اللسان.
القسم الثاني: أعمال البدن.
القسم الثالث: أعمال القلب.
فأعمال اللسان: النطق من ذكر، وتلاوة، وكلام، وغير ذلك.
وأعمال البدن -الجوارح-: الصلاة من قيام وركوع، والصيام والحج، والجهاد، وغيرها من الأعمال البدنية.
وعمل القلب: ما ينعقد عليه القلب من عقائد كالإخلاص والخوف والرجاء.
كما جاء عن بعض السلف، أظنه عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (كنا جلوسًا عند النبي ﷺ فقال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج رجل معلقًا نعليه في يده، فمضى، ومن الغد قال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، ثلاث مرات، قال: فتبعته فقلت: إنه قد وقع بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده، وقد أقسمت ألا آتيه ثلاثة أيام، فإن رأيت أن تؤويني هذه الأيام الثلاثة وجزاك الله خيرًا، قال: تفضل، وبات عنده لكنه لم ير عنده شيئًا جديدًا، فقال: لعله أن يكون اليوم تعب، وفي الليلة الثانية لم ير شيئًا، قال: لعله أن يكون مستحيًا، وفي الليلة الثالثة قال له: يا عبد الله! والله لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكني سمعت النبي ﷺ يقول فيك: إنك من أهل الجنة، فطمعت أن يكون عندك عمل خاص، فجئت لأرى ما تعمل، قال: والله يا عبد الله ما هو إلا ما رأيت، فذهب، ثم ناداه وقال: ما هو إلا ما رأيت؛ غير أني أبيت وليس في قلبي غل لأحد، قال: هي هذه، وهي التي لا نطيق)، كان يبيت كل ليلة صافي القلب، ليس في قلبه غل لأحد، مهما كان من الناس إليه من إساءة، ومهما صدر من الناس نحوه من تقصير فإنه لا يحمل غلًا على أحد.
ولهذا قال العلماء في قوله سبحانه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:١٠٣] التطهير: التنقية، فإنها تطهر الغني والفقير معًا، تطهر الغني من أدران الشح والبخل، ومن أن يمسك ماله عن الفقراء، وتطهر الفقير من أن يحقد أو يحسد الغني على ما أعطاه الله؛ لأنه يأخذ حقه منه، فإذا كان الفقير يأخذ حقه من مال الغني، فلا يحقد عليه، بل يدعو له بالبركة، لكن إذا أمسك الغني ماله ولم يزكه وحرم الفقير، يتمنى أن يذهب الله مال الغني، لأنه ما أعطى حق الله فيه.
2 / 2
أهمية النية
فالنية من أعمال القلب، ولهذا يأتي في بحث القصد: أن النية إنما هي القصد إلى العمل، وليس هناك حاجة للتلفظ بها، فيكفي حينما تتوجه إلى القبلة أن ترفع يديك وتقول: الله أكبر! وتستحضر في قلبك ماذا ستصلي من فريضة أو نافلة، وإن كانت فريضة فتستحضر هل هي صلاة العشاء أم المغرب غيرها، وكل هذا محله القلب.
فهذا الحديث كما أشرنا يعتبر أصلًا من أصول الدين، ويدخل في كل باب، وفي كل عمل لفرد من أفراد المسلمين، سواء كان ابتغاء وجه الله أم لغرض دنيوي.
وبحسب ما يقصده العبد بعمله يكون أجره وثوابه، أو نكاله وعقابه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) إذًا نية القصد قد تكلمنا الكلام عنها.
2 / 3
دخول النية في العبادات وأثرها في صحتها وثوابها
قال الشافعي ﵀: هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا من أبواب الفقه، وقال غيره: لو ألف مائة كتاب لجعلت مقدمة كل باب هذا الحديث، ولو أردت تتبع ذلك لطال بك المقام.
نية التعيين التي يتكلم عنها الفقهاء، مثالها: إذا عممت بدنك بالماء فإن أردت النظافة فلك ما نويت، وإن أردت رفع حدث بأعضائك فلك ما نويت، وكذلك أيضًا إذا كان هناك أمران يقتضيان غسلًا أحدهما واجب والآخر مسنون، فإذا نويت المسنون لم يسقط الواجب، وإذا نويت الواجب سقط المسنون ودخل ضمنًا، كمن أصبح يوم الجمعة جنبًا فاغتسل ينوي غسل الجنابة، فإنه يدخل غسل الجمعة معه، أما إذا نوى غسل الجمعة فإنه لا ترتفع عنه الجنابة؛ لأنه لم ينوها؛ والأعمال بالنيات.
وفي باب الصلاة أشرنا إلى أن الصلاة نافلة وفريضة، فإذا أراد النافلة لم تندرج تحتها الفريضة بحال، وإذا نوى الفريضة فقد تندرج معها النافلة، فإذا جئت والإمام في الصلاة في صلاة الصبح ونويت الفريضة دخلت تحية المسجد معها، وكذلك إذا أردت سنة الفجر ونويت تحية المسجد معها، دخلت تحية المسجد مع سنة الفجر؛ لأنها أقوى في الطلب، وهكذا النية تحدد وتعين وتبين المطلوب.
وهكذا إذا جئت إلى الصيام، فقد يكون فريضة أو قضاءً أو كفارة، فحسب ما نويت يكون لك ما نويت في صيامك، وإذا جئنا إلى الحج أيضًا، فإذا أخرت طواف الإفاضة ونويت معه طواف الوداع أجزأك ذلك، بل إن الإمام مالكًا يقول عن الذي يأتي متأخرًا: قد يحج حجه كله بطواف واحد بالبيت، يعني إذا ضاق عليه الوقت، فإن طاف طواف القدوم فاته الوقوف بعرفات، فيسرع ليدرك الموقف في عرفات ويترك طواف القدوم، فإذا جاء ونزل من عرفات إلى منى، وبقي هناك بعد رمي الجمار أيام التشريق، ثم نزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسافر فإنه يطوف طواف الإفاضة فيسقط القدوم تبعًا لأنه بالنسبة إليه قدوم، وهو ركن في الحج وهو طواف الإفاضة، ويجزئه أيضًا عن طواف الوداع.
وهكذا نجد جميع الأعمال فيما يتعلق بالعبادات في تعيينها وفي تصحيحها.
2 / 4
أثر النية في المعاملات
وإذا جئنا إلى المعاملات، وأهم ما يكون في ذلك الأيمان: إذا حلف إنسان على شيء وكان اللفظ يحتمل معنيين فإن ما نواه هو الذي تنعقد عليه اليمين.
ويقولون في باب القضاء، يمينك على ما يصدقك فيه خصمك، فإذا حلفت وكان القسم يحتمل أمرين، فإذا نويت غير ما يريده خصمك، تريد أن تدلس على خصمك، فلا ينفعك هذا التأويل إذا كان الأمر بخلاف ذلك، بل تنعقد عليك اليمين على ما يصدقك الخصم فمثلًا: شخص مظلوم وطولب باليمين، فحلف على نية تخرجه من ظلم الظالم فإنه على نيته، كما ذكروا أن جماعة خرجوا إلى رسول الله فلقيهم خصومهم فأخذوا عدي بن فلان فجاءوا إليهم وقالوا: ليس هذا خصمكم، إنه أخونا.
فامتنع القوم أن يحلفوا لهم، فتقدم رجل وحلف إنه أخي فتركه خصومه، فلما أتوا رسول الله وعرضوا عليه الأمر قال: (صدقت! إنه أخوك في الإسلام) .
وهكذا كان ﷺ حينما كان يمر على القبائل في الهجرة، فليقيهما هو وأبو بكر رجال، وخاف أبو بكر على رسول الله ﷺ فقالوا له: من هذا الذي معك يا أبا بكر؟ -لأنهم يعرفونه، حيث كان تاجرًا وعالمًا بأنسابهم- فلم يقل: هذا رسول الله؛ لأنه يخاف على النبي ﵊، فكان يرد عليهم بقوله: هذا هاد يهديني الطريق.
يقصد: إلى الله ﷾.
وهكذا إذا كنت في معاملة مع آخر، وتكلمت بكلمة لها معنيان ويمثل العلماء بما إذا قال لامرأة أو قال عند امرأة: فلانة طالق، ويعني بفلانة ناقة تطلق من عقالها، أو من رباطها، وكان ينوي ذلك، وكان عنده ناقة حقيقة، وهي طالق من العقال، ولم يرد طلاق زوجته، فالرواية عن أحمد ﵀ أن زوجته لا تطلق لأنه لم ينو طلاقها.
وكذلك يورد العلماء مثالًا: لو أن رجلًا رأى امرأة أجنبية وظنها زوجته وقال: أنتِ طالق يريد الزوجة، فإن هذه لا تطلق لأنها أجنبية، وفي طلاق الزوجة خلاف، والراجح عند أحمد أنها تطلق؛ لأنه نواها بطلاقه.
ويتفق العلماء على أنه لو كان عنده أربع نسوة فقال: إحداكن طالق ولم يعين ولم يسم، أنه يسأل: من أردت بإحداهن؟ فإن عيَّن واحدة طلقت، والنية هي التي خصصت وهي التي حددت.
فكما قال الشافعي عن هذا الحديث: إنه يدخل في أكثر من سبعين بابًا من أبواب الفقه، ولو تتبعنا الكلام في هذا لوجدنا جميع ما يعقد من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث، وقال العلماء: إنه يدخل بين العادة والعبادة فيصير العادة عبادة.
وقالوا: لو أنه نام للقيلولة ينوي بها التقوي والاستعانة على قيام الليل لكان نومه عباده، وله في ذلك أجر، ولو أنه أكل وشرب ليتقوى على الجهاد في سبيل الله لكان أكله وشربه عبادة، كما قال ﷺ لأصحابه حينما خرجوا في فتح مكة وكانوا يصومون قال: (إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)، فمن أفطر في ذلك اليوم وأكل بنية التقوي بأكله على قتال أعداء الله، فله على هذه النية أجر.
وقد جاء عنه ﷺ: (أن الذي يرتبط الفرس في سبيل الله -ينوي إعدادها للجهاد في سبيل الله- فما أكلت ورعت ولا استنت شرفًا، ولا شربت من واد؛ إلا كان في ميزانه) .
2 / 5
ترغيب النبي ﵊ في النية الحسنة والترهيب من ضدها
وجاء عنه ﷺ: (ألا إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالًا وعلمًا، فعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالًا وأعطاه علمًا فقال: لو أن لي من المال ما لفلان لعملت فيه كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالًا ولم يعطه علمًا، فلم يعرف حق الله فيه فهو في أسفل سافلين، ورجل لم يعطه الله مالًا ولا علمًا فقال: لو أن لي مالًا لعملت فيه مثلما يعمل فلان، فهما في الوزر سواء)، فالذي بلغه ماله وعلمه أعلى عليين أدركه صاحب النية الحسنة، وذاك جاهل يعمل في ماله بما لا يرضي الله، وذاك نوى لو كان عنده مال لعمل فيه مثل عمل الذي قبله، فأدركه في أسفل سافلين؛ لا لشيء إلا بالنية، والأخبار في ذلك طويلة.
إذًا: هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تدخل في العبادات وفي العادات وفي المعاملات وفي جميع أحوال الناس.
وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وليس هذا تكرارًا للمعنى، بل تقرير لصحتها ومرادها وتوجيهها، أي: كل عمل فهو بنيته.
والجملة الثانية: (وإنما لكل امرئ) امرئ: مذكر، مؤنثها: امرأة، وإذا جاء بلفظ امرئ فإنه يشمل المرأة فتكون داخلة فيه، بخلاف ما إذا عيَّن كقول من قال: (امرؤ القيس) فإنه خاص بشخص معين.
(وإنما لكل امرئ ما نوى): (إنما) أيضًا للحصر، فلا يتعدى عمل العبد ما نواه، ثم فصل ﷺ فقال: (فمن كانت هجرته) .
ذكر الهجرة خاصة مع أن هناك الجهاد وغيره: فمن كان جهاده لله فجهاده لله، ومن كانت صلاته لله فصلاته لله، وكذلك الزكاة، بل كل عمل يندرج تحت الأعمال بالنيات، ولكن نص على الهجرة بخصوصها.
والهجرة أصلها مأخوذ من الهجر، والهجر البعد والافتراق، والهجر مأخوذ من الهجير، والهجير شدة الحر في الظهر، ومنه الهاجرة، وهي شدة الحر، وانتقلت حقيقة اللغة المحسوسة -شدة الحر- إلى الهجرة بمعنى الانتقال إلى الهجران وهو المقاطعة، لأن الناس في وقت الهجير والهاجرة يعتكفون في ظلهم ويتقاطعون عن التواصل مخافة شدة الحر.
2 / 6
حكم الهجرة وأهميتها
وكذلك الهجران: تهجر صديقك، أي: تقاطعه، وفي الحديث: (ولا يحل لامرئ أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، والهجرة انتقال وانقطاع عما كان فيه، إلى ما ذهب إليه.
وفي الاصطلاح: انتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو انتقال من بلد لا يستطيع المسلم أن يؤدي أحكام دينه فيها، ولا أن يعبد ربه على ما ينبغي إلى بلد آخر يستطيع فيه ذلك.
وقد سبقت الهجرة إلى الحبشة مرتين، وجاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، وكانت الهجرة إلى المدينة ركنًا من أركان الإسلام حتى جاء الفتح، (فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) .
فالهجرة في بادئ الأمر كانت ركنًا، حيث كان يجب أن ينتقل الأعراب وأهل القرى المدن من ديارهم إلى المدينة المنورة، ولماذا كانت ركنًا؟ لأنها كانت بداية تكون النواة الأولى للدولة الإسلامية التي ستصبح عاصمتها المدينة، لذا كان لزامًا على كل فرد آمن بالله أن يهاجر إليها، لتتكون القاعدة الصلبة لهذه الدولة والتي منها ينطلقون إلى الأمصار، وفيما بعد رجعوا إلى مكة فاتحين، فكانت الهجرة في أول الإسلام واجبة ليتجمع المسلمون ويتحدوا ليفتحوا القرى والأمصار على ما تم ولله الحمد، وأكمل الله سبحانه الدين للأمة.
وبعد أن فتحت مكة طهرت الجزيرة من درن الأصنام، وقضي على دولة الشرك وبقيت البلاد إسلامية من أقصاها لأقصاها، ثم بدأ المسلمون ينطلقون منها إلى ما جاورها.
ثم انطلق خلفاؤه من بعده ﷺ، فـ أبو بكر ﵁ في خلافته تصدى للمرتدين من الأعراب ممن سولت لهم نفوسهم أمرًا، حتى استتب الأمر وثبت الناس على دينهم، وبدأت الفتوحات في زمن عمر ﵁ فانطلقت الجيوش وفتحت الأمصار، وفتح الله للمسلمين البلاد شرقًا وغربًا.
فقد كانت الهجرة في أمر الأمر واجبة، ثم بعد ذلك صارت مندوبة، أو صارت بحسب حال الفرد، فمن استطاع أن يؤدي أمور دينه في بلده فليثبت، ومن لم يستطع فليهاجر إلى المكان الذي يستطيع فيه تأدية شعائر دينه.
وأحب أن أنبه أنه في بعض البلاد تحدث مضايقات للدعاة ولشباب الحركات الإسلامية، مما يحدو بالبعض إلى الهجرة، وترك البلاد لما فيها من فساد، أقول: إذًا: لمن تترك تلك البلاد؟ ومن يقوم بأمر الدعوة فيها إذا تركها الدعاة والصالحون، بل الواجب الصبر، وأن يثبتوا في أماكنهم وأن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم أن يدرءوا الشر عن ضعاف المسلمين، أو أن يكونوا ردءًا لضعاف الإيمان فيعلموهم ويبينوا لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وما يجب أن يتركوه، ولكن مع مصانعة الأعداء بالحكمة.
ويكفي أن الرسول ﷺ مكث ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يدعو إلى الله والأصنام مثبتة في بناء الكعبة، ويصلي إلى البيت وربما يقع الصنم على ظهره، وهو لم يغير شيئًا، حتى إذا أراد الله النصر وجاء الأوان، وفتحت مكة أخذ يشير إلى الأصنام بقضيب في يده ويقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ [الإسراء:٨١] فتتساقط تلك الأصنام مع أنها مثبتة بالحديد.
2 / 7
الهجرة والتاريخ بها
إذًا: فقد كانت الهجرة أمرًا عظيما وهي أعظم حدث في الإسلام، كما بين عمر رضي الله تعالى عنه حينما أراد أن يضع تاريخًا للمسلمين، والأمم متعودة أن تؤرخ بأحداثها العظام، كما أرخ الروم بمولد المسيح، فتفكر عمر ﵁ فما وجد في الإسلام حدثًا أعظم من الهجرة، لأن بها تمكن الإسلام وانتشر في العالم، فجعلها مبدأ تاريخ المسلمين.
2 / 8
الهجرة إلى الحبشة
والسؤال هنا: لماذا خصت الهجرة بهذا التنبيه، مع أن في لفظ الأعمال ما يفيد الاستغراق؟ وأيضًا ما هي الهجرة حقًا؟ نعلم جميعا أن أعظم حدث في الإسلام بعد الوحي وبعد الرسالة هو حدث الهجرة، وكلنا يعلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة سبقتها هجرتان إلى الحبشة، ومجمل ذلك: أن المسلمين حينما ضاق عليهم الأمر بمكة واشتد عليهم إيذاء قريش، ما خرجوا فرارًا من الإيذاء، ولكن خرجوا يرتادون موطنًا رحبًا يستطيعون أن يقيموا فيه شرع الله، ويؤدوا عباداتهم في بلد آمن، وكان ذلك بإرشاد من رسول الله ﷺ حينما قال لهم: (إن بالحبشة ملكًا عادلًا لا يظلم أحد في جواره) .
وهنا وقفة: فهذا ملك نصراني وهو ملك في الحبشة، والرسول ﷺ يصفه بأنه عادل، ومن هنا نعلم أن العدل من الكافر يثبت له ملكه، كما قال الإمام ابن تيمية ﵀ الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم.
فهذا كافر عادل، أي: يحكم بالعدل، ومن هنا ننبه على الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله.
إمام عال) وفي بعض الروايات: (عدل) وهي الصحيحة؛ لأن العادل قد يكون كافرًا وقد يكون مسلما؛ لأن العادل الذي يعادل ويساوي بين المتساويين، والأصل في العدل والعدالة: عِدْلَة الحمل من البعير، وحمل البعير عِدلتان، عِدلة في اليمين وعِدلة في اليسار، فإذا ما كانت العدلتان مملوءتين من شيء واحد متعادلتين في الوزن كان التعادل بينهما حاصلًا، وإذا ما نقصت إحدى العدلتين مال الحمل إلى شق الثقيلة وطاشت كفه الخفيفة.
فالعدل والعدالة من العدلتين المتعادلتين في الحمل، وقد يعدل حمل كافر أو مسلم، وهكذا العادل في الحكم قد يساوي بين القوي والضعيف وبين الشريف وغير الشريف، وذلك لعدله في الحكم.
أما الإمام العدل: فالعدل هو نهاية أوصاف مكارم الأخلاق كما يقول ابن مسكويه في كتاب فلسفة الأخلاق: بأن جماع الفضائل في الإنسان هو أن يكون عدلًا، بأن يكون مؤمنًا عفيفًا شجاعًا كريمًا، فإن اجتمعت كل خصال الخير فيه كان إمامًا عدلًا، ولذا يقول سبحانه: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق:٢] أي: عدول في الشهادة موثوقين في نقل الأخبار لا يتهمون بكذب ولا بتزوير ولا بحيف، قد اجتمعت فيهم خصلة العدالة فأصبحوا عدولًا على الناس.
(إن بالحبشة ملكًا عادلًا لا يظلم أحد بجواره) وهذا من رسول الله ﷺ إقرار بالحق وإن كان لكافر، فهو مستحق لهذه المدحة.
وفعلًا خرج المسلمون أولا وأتبعهم المشركون برسلهم وهداياهم وأرادوا أن يعودوا بهم، ولكن عدل الملك أبى عليه أن يسلم المهاجرين حتى يسمع ما عندهم، ولما تكلم جعفر رضي الله تعالى عنه عن رسالة محمد رسول الله ﷺ، وبما كانوا عليه في الجاهلية، وبما أتاهم به رسول الله ﷺ قالوا: والله ما زاد ما جاء به رسولكم على ما جاء به عيسى ولا هذه القشة، وهكذا أعلن النجاشي إسلامه أو إقراره بما جاء به رسول الله ﷺ، ثم أعلنها أكثر من ذلك، حينما قال: لولا ما أنا فيه من الملك لخلصت إليه وأتيته، وغسلت التراب عن قدميه.
وكانت الهجرة إلى المدينة، وقد كان أبو بكر يريد أن يهاجر فيمنعه رسول الله ﷺ ويقول له: (انتظر يا أبا بكر! لعل الله يجعل لك صاحبًا أو رفيقًا)، وكان المهاجرون يخرجون خفية إلا عمر بن الخطاب، فقد ملأ كنانته وأخذ قوسه، وجاء إلى البيت وطاف به، ثم نادى في قريش: شاهت الوجوه! إني مهاجر، فمن أراد أن تثكله أمه أو تيتم أولاده، أو ترمل زوجه، فليلقني خلف ذاك الكثيب.
ولم يخرج وراءه أحد.
2 / 9
قصة الهجرة إلى المدينة المنورة
2 / 10