ولم يعد يسمع في الغرفة إلا لهجة الراهبات الراكعات يصلين بصوت منخفض ثم تنفس بل حشرجة الراهبة المحتضرة ... على أن هذه الراهبة نهضت بصعوبة كلية بغتة وأبدت حركة أشارت بها إلى أنها تريد أن تتكلم، فللحال وقفت الرئيسة عند رأس الراهبة «أغنس» ودفنت حزنها في أعماق صدرها محاولة بذلك أن تنزع من مخالب الموت تلك النفس الكريمة المعززة بالشجاعة والشهامة، تلك النفس التي أعجبت منذ زهاء سنة بفضيلتها السامية القائمة على أقوى الدعائم، فانحنت إلى المحتضرة منعطفة وأصغت إليها ... فأخذت «أغنس» تودع في أذن الرئيسة كلاما سريا ويظهر أن ذلك الكلام كان ذا تأثير في نفس الرئيسة حتى إنها رفعت جملة مرات منديلها إلى عينيها، ومسحت الدموع المنهملة كالغيث المدرار، وفي آخر الأمر التفتت الرئيسة إلى المحتضرة، وقالت لها ما يأتي من الكلام: «كوني باطمئنان وسلام أيتها الأخت العزيزة، فإنني سأتمم مقتضى إرادتك بمنتهى التدقيق، أيتها الفتاة عنوان الشجاعة والشهامة ليتني أتمكن من أن أفديك بحياتي ...»
فعندما حققت الرئيسة للراهبة «أغنس» أنها تقوم بما أسرته إليها ابتسمت إشارة إلى الشكر والإحساس بالجميل، ثم ألقت رأسها على المصدغة التماسا للراحة، فرآها الحضور تحرك شفتيها، وترفع عينيها إلى السماء بحمية، ففهموا أن صلاة حارة كانت تصعد إلى العلاء من تلك النفس الكريمة مغرس البرارة والطهارة.
وعند ذلك أتي بناء على أمر الرئيسة بمنضدة «طاولة» فجعلت على مقربة من سرير المحتضرة، وكان على تلك المنضدة جملة أشياء موضوعة بدون انتظام وهي: أسفاط، وسبحتان، وكتاب الاقتداء بالمسيح، وكتاب القوانين الرهبانية، ومكاتيب وبعض تصاوير ورسوم شمسية قليلة العدد، وصليب صغير وسوار من ذهب، فشرعت الراهبة «أغنس» تتأمل هذه الأشياء بابتسام، وكان بعض التصورات القديمة تتمثل لدى عينيها التي كاد ظلام الموت يحجب ضياءها.
أجل، إن تلك الأشياء كانت كأنها ألسنة ناطقة تخبرها بحوادث حياتها المنقضية، وتنبه في ذهنها التذكرات المتعلقة بتلك الحوادث، بل كأن كل قطعة منها لدى تقليبها إياها بين أصابعها العجيفة التي استطرقت إليها برودة الموت تقول لها: أتذكرين هذا الأمر؟ ... وكيف لا تتذكر جميع هذه الأمور وهي من أجل ذلك تتبسم بلطافة لدى تفكرها بالحوادث الماضية التي تجعل موتها القريب شهيا ... ولا ريب أن صورة الوطن كانت في تلك الساعة تتراءى لها، ولا إشكال أن ذكر العائلة كان يتمثل لدى نظرها.
وهي لذلك قد تأثرت في تلك الساعة، فاندفع شيء من دم قلبها الضئيل، فصعد إلى خديها وصبغهما بحمرة وردية إثر الاصفرار، ثم انهملت من عينيها دمعتان كالدرتين فوق تينك الوجنتين البهيتين، وبعد أن تأملت تلك الأشياء العزيزة لديها، شكرت للرئيسة شكرا أخيرا شكر الوداع قائلة لها بصوت منخفض: «أسألك أن تصلي من أجلي قليلا.»
أجابت الرئيسة: «بل كثيرا جدا.»
فقالت الراهبة المحتضرة: «أجل، أجل، أقيمي الدعاء من أجلي، والآن إني مشعرة بأن كل شيء قد انقضى ... قد حان وقت الثواب ... إنني أشكرك يا رب شكرا حميما على ما أفضت علي من النعم.»
ثم التفتت إلى الرئيسة قائلة: «أماه، هل تأملت مرة ما تلك الآية التي قالها «بولس» الرسول وهي: «إنني تائق إلى الموت»؟! ... فأنا ... أنا هائمة بالموت ... ولكن ربما كان إثما علي أن أتمنى الوفاة ...» قالت ذلك ثم ألقت رأسها إلى الوسادة، وأخذت تتكلم برهة بصوت عال قائلة: «لقد احتملت من أجله الآلام ... وأنا أقدم حياتي من أجله، فاقبل يا إلهي ضحيتي ... السماح ... السماح يا أبوي المحبوبين، السماح يا شقيقتي الحبيبة ... آه! أنت ههنا، أنت على مقربة مني، وأنتم ههنا أيضا يا ملائكة النزاع السريين ... ارحمني يا إلهي ... ارحمني.»
ولما كانت أصابعها تنقبض بحركة عصبية على غطاء الفراش، اقتربت الرئيسة منها، وأخذت يدها بلطف، وعندئذ فتحت الراهبة عينيها ولم تعد تتلفظ ببنت شفة، بل شخص بصرها إلى العلاء، وكانت كأنها تسمع أصواتا حلوة تقول لها: «تعالي أيتها الأخت الحبيبة ... تعالي ... فإن المسيح يستدعيك إلى سمائه، إن آلامك قد انتهت، وأجاعك قد انقضت، وإن أجنحتنا ترف حواليك وتنبسط لتحملك إلى أقصى مكان ... إلى أعلى السماوات.»
وعندئذ نهض جسد الراهبة المحتضرة بانزعاج كأنه يريد أن يتبع أشخاصا غير منظورين، ثم تنهدت تنهدا خفيفا، فخرجت من صدرها نسمة لطيفة، ولفظت بنفسها البارة، فأسلمتها بين يدي خالقها.
অজানা পৃষ্ঠা