ووقفت لأول مرة لدى أرغاستيريه حيث مناجم «لوريوم» الشهيرة. أما هذه المدينة فتبدو عليها مظاهر الهمجية والبداوة، وترى مداخن كبيرة منتصبة فوق معاملها، وكان الدخان المتصاعد منها يجعل سماءها أشبه بسماء البلاد الشمالية المتلبدة فيها غيوم الأمطار على أنها لا توافق سماء شرقية تبهج الأبصار بصفائها الرائق وجمالها الفتان كما هو الغالب على جزائر اليونان.
ثم دخلت السفينة الخليج الفاصل بين البلاد اليونانية وجزيرة أوبي وهو الخليج المتسع في أوله المتضايق رويدا رويدا حتى مدينة كلسيس حيث يتصل الشاطئان بجسر يمكن تدويره، وفي هذا الموضع يبدو لك مشهد غريب من المد والجزر، وذلك أن جري الماء يندفع برهة من الشمال إلى الجنوب ثم يرجع إلى الوراء.
ثم وصلت السفينة غلوص «فولو» أحد ثغور تسالية البحرية، وهي مدينة كثيرا ما ورد ذكرها في أخبار الحرب الأخيرة التي نشبت بين الدولة العثمانية واليونان.
ولا بد من القول إن غلوص إنما هي باب تلك الولاية كلها على أن أصحابنا - أي البارون ورفاقه - لم يطيلوا المكث فيها، فما لبثوا أن ساروا في وجهة لاريسة على قطار السكة الحديدية فوصلوا ثاني يوم «كالاباكا» وهي المحطة التي ينتهي بها الخط الحديدي لدى صخور «ميتيور» قريبا من حدود البلاد العثمانية.
هذا وإن الجائل في تلك الربوع الجميلة يرى وراء «كالاباكا» على مسافة من المخانق التي يستطرق فيها نهر بينايوس عددا عديدا من الصخور العظيمة الهائلة نحتتها الأدهار ونقشتها الأزمنة والأعصار ورسمت منها المياه المندفعة عليها رسومات متشكلة متنوعة، وعلى قنان كثير من تلك الصخور بنايات عالية الدعائم وهي المعروفة باسم «ميتيور» أي الصوامع المبنية في الهواء، فهذه الأديرة هي أشبه بأعشاش النسور قائمة على شواهق الصخور لا يرتقى إليها بسبيل سابلة.
على أن من أراد الصعود إلى تلك الأديرة فعليه أن يجلس في قفة مشدودة إلى طرف حبل طويل يأتي الرهبان فيرفعونه إلى فوق بواسطة بكرة، ذلك هو «المصعد» القديم الذي ما برح مستعملا على بساطته في أديرة تسالية «الهوائية» في أيامنا هذه.
فأخذ أصحابنا في الصعود على الطريقة التي مر بك ذكرها فأحسوا بالدوار؛ لأن الصخر الذي صعدوا لدى حائطه كان مرتفعا جدا يبلغ علوه زهاء مائة متر، ولما كان ثقل إنسان واحد أو اثنين لا يكفي لتركيز الحبل على خط عمودي فيحدث عن ذلك أن الصاعد على هذه الطريقة يرتفع تارة بسرعة كلية وتارة يميل ذات اليمين أو ذات اليسار تبعا لصفقات الهواء ثم يصادم الصخر مباغتة حتى إذا بلغ السطح تقدم راهب وبيده خشبة طويلة محاولا جذبه إليه، ولما كان الراهب يخشى على نفسه السقوط في اللجة فتراه يشرع في اجتذاب الصاعد إليه بتأن وروية، وربما أعياه التعب فيعود إلى مقره ليستريح ويبقى ذلك الصاعد المسكين يتمايل في الفضاء على ما يشاء الهواء منتظرا قوة جديدة تجذبه إلى الداخل، وقد كان صعود أصحابنا في هذا المصعد بطيئا جدا وكثيرا ما أوشكوا أن يصادموا الصخر.
على أنهم بلغوا السطح وذلك بعد أن أقبل إلى آلة الجذب هذه ثلاثة من الرهبان في سن الشيخوخة أجسامهم ضئيلة عجيفة ووجوههم متغضنة وظهورهم أحنتها الأيام، فلما رفع المسافرون الأربعة صافحهم الرهبان الثلاثة بهمة وحرارة قلب، إلا أن تلك الحرارة فترت بعض الفتور عند نظرهم النساء وعندما لحظ أولئك الرهبان الأرثوذكس أن ضيوفهم ليسوا من جماعتهم.
وللحال بادر «شرل» فقدم لرئيس الرهبان رسائل التوصية من وزير المذاهب ومن مطران أثينة، وعندئذ أخذ الرهبان في إبداء الحفاوة والانعطاف مع شواهد المحبة والتودد.
وكان «شرل» مبتهجا فرحا متأملا بذلك المصعد وما أحدثه من التأثير في نفوس رفاقه وشرع يتفقد معاهد الدير جميعها، فتارة يسأل الرهبان مستفهما عن الحوادث مستطلعا طلبهم فيما أشكل عليه، وتارة يشاهد بنظارته ما حول الدير من المشاهد الرائقة التي لا يمكن استجلاؤها بالعين المجردة، وقد استمال إليه قلوب الرهبان واستهوى ألبابهم بمعرفته اللغة اليونانية تمام المعرفة وبرقة حاساته وسلامة ذوقه، كما أنه أعرب عن محبته لهم واعتباره مقامهم وقدم لهم من لفائف التبغ «السيكارات» حيث كانوا مولعين بتدخينه؛ لأن التدخين كان اللذة العالمية الوحيدة التي كانوا متمتعين بها وهم يظهرون التجرد عما سوى ذلك من الأمور الأرضية.
অজানা পৃষ্ঠা