خطبة الكتاب
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وسلم
الحمد لله الذي أنزل القرآن وهدى من أحب لاجتناء أزهاره، واقتباس أنواره، والأخذ بأوامره ونواهيه ووعده ووعيده وأخباره، واختار منهم خزنة لأسراره. وأرشدهم لإبراز رموزه، واستنباط كنوزه. ورفع مقام العلم وأهله، ووصل بسببه انقطاعهم بحبله، وأنعم عليهم سوابغ نعمه بفضله، وأكمل دينه وجمع مفترق شمله. وجعل الإسناد من الدين، وأبقاه متصلا بينهم أبد الآبدين. حفظا للدين من الشك والوهم، وصونا له من التبديل والتغيير ومحو الرسم.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الشريعة المطهرة، والسنة الواضحة النيرة، المخصوص بجوامع الكلم، وبدائع الحكم، ومكارم الأخلاق ومعالي الهمم. والتشريف والتكريم، والإجلال والتعظيم، والآيات والذكر الحكيم. وتلقي الوحي والتنزيل، من الروح الأمين جبريل. فبلغ ذلك ونهى وأمر، وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر. وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ووقروه ووفوا بالعهود ونصروه، ونقلوا شرعه العزيز وآثروه. وعلى خلفائه الراشدين المرشدين أئمة الهدى، والتالين له في شرف ذلك المدى، والقائمين بأعباء أمره الموعود أنه يبقى أبدا، وعلى التابعين وتابعهيم نجوم الاهتداء، والسنة في الاقتداء، وسائر حملة الشريعة وحماة الدين القويم، عن الزيغ وتحريفاته، وهداة الخلق إلى الصراط المستقيم، بإيضاح كلياته وجزئياته، صلاة وسلاما دائمين متلازمين بدوام نعم الله تعالى على خواصه وأهل طاعاته.
أما بعد فيقول راقم هاته الحروف، الواجل من اليوم المخوف، عبده محمد بن محمد مخلوف: قد اغتنى العلماء بالتاريخ قديما وحديثا، وسعوا في ذلك سعيا حثيثا. فألفوا التآليف البارعة، في أغراض متفاوتة مفيدة نافعة. فمنهم من ألف في الرواة والمحدثين، والفقهاء والمفسرين والمتكلمين، والأدباء والشعراء والنحاة
পৃষ্ঠা ৯
<div dir="rtl" id="book-container">
واللغويين، والعلماء والخلفاء والملوك والسلاطين، وأتى على تراجمهم من دون تمييز ولا تفريق، ومنهم من أتى على فريق دون فريق، وبين مراده، فيما أراده. وممن سلك هذا الطريق العالم الشهير الذكر، الجليل القدر، أبو الفضل القاضي عياض فألف المدارك، في طبقات أعيان الأئمة الآخذين بمذهب مالك، وتبعه العلامة الحامل لواء المعارف والفنون، برهان الدين بن فرحون، فألف الديباج، وذيله العالم العامل أبو العباس أحمد بابا بنيل الابتهاج ، فرغ منه سنة خمس بعد المائة العاشرة، وجاء بعده إلى هذا العهد أئمة لهم في العلم منزلة ظاهرة، ومزايا فاخرة. ومعلوم أنه لم يزل في كل عصر من حملة هذا الدين بدر طالع، وزهر غصن يانع، وعلم ترنو إليه الأبصار وتشير إليه الأصابع، ولم نجد من تعرض لجمعهم بحال، ونسج فضائلهم على ذلك المنوال. وقد اختلج ما يأتي ذكره في صدري، وعالجه فكري، حتى صرت أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأجري شوطا ثم أرجع القهقرى. فتوجهت إلى الله تعالى واستخرته، وسألته إبراز ما اختلج في صدري واستعنته. وبعد ذلك انشرح صدري لتأليف تذييل مفيد مبين، وتكميل مستحسن معين. جامع لكثير من أئمة السلف، المترجم لهم قبل الخمس سنين بعد الألف، مع كونه صلة، إلى علماء العصر وشيوخنا الجلة، به كثير من أعيان علماء الدين والملة، مرتب على طبقات متصلة بمن ختم الله به النبوة والرسالة المنتخب من خير عنصر وأطيب سلالة، مقتصرا على ما هو أولى، والحمد لله على ما أولى، جائحا للاختصار، تاركا التطويل والإكثار، بعد التثبت والتحري فيه، حسبما وصلت القدرة إليه، ولم آل جهدا في تحرير اسم المترجم له وعمن أخذ فنون علمه، وما له في التآليف التي هي من محاسن نثره وبديع نظمه، مع ذكر محاسن الصفات، وإثبات المواليد والوفيات، ومكثت أعواما كثيرة أبحث عن ذلك جهدي، وكلما عثرت على ترجمة عالم قيدتها في ورقات عندي. ولم أدع كتابا وقفت عليه إلا وعيته نظرا، وتحققته معتبرا أو مختبرا، وترددت في تفهمه وردا وصدرا، وعكفت عليه بسيطا كان أو مختصرا. واقتطفت منه ما لا بد منه، ولا مندوحة للإعراض عنه. فاجتمع من ذلك أعلاق جمة، وتراجم كثير من الأئمة، وأنا في ذلك ألتمس مزيدا، ولا أسأم بحثا وتقييدا، فحصل بذلك الغاية المطلوبة، والبغية المرغوبة. ومع ذلك بقي بعض تحريرات إلى هذا الأوان مطوية عني محجوبة، حيث لم أجد عندي ولدي، ولا أرى من خلفي وبين يدي، كتبا في الغرض أراجعها في المشتبهات، وأقتطف منها تراجم من لم يقع العثور عليه من العلماء الثقات. ثم جمعت تلك الأعلاق ورتبتها، على نحو ما انشرح إليه صدري وهذبتها، مقتطفة من تآليف نفيسة مهمة، مشار لها
পৃষ্ঠা ১০
<div dir="rtl" id="book-container">
في آخر التتمة، سالكا في ترتيب ذلك أقرب الطرق والمسالك، ذاكرا علماء كل طبقة على نسق من كل مملكة من المالك، مرتبا ذلك فريقا بعد فريق، والله ولي الإعانة والتوفيق، مبتدئا بنبي الرحمة، وينبوع كل فضيلة وحكمة، سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم، ثم بسادات من الصحابة الأعلام، ثم بأئمة من التابعين الكرام، ثم بأربعين حديثا ثنائيات، مروية في الموطأ عن أولئك السادات، ثم بمالك إمام دار الهجرة طابه، خير من أم المطي رحابه، ثم بطبقات الأئمة الأعيان، طبقة بعد طبقة إلى هذا الزمان، والراوي إما أن يكون في الطبقة التي شيخه فيها، أو في الطبقة التي تليها، فارتباط الرواة في كل طبقتين، كارتباط القمرين النيرين.
ورتبته على مقدمة فيها سبع فرائد اشتملت على كثير من الجواهر الثمينة والفوائد. ومقصد به سبع وعشرون طبقة ترتيبها على نحو ما أشرت إليه، وعولت في تهذيبها عليه. وختمته بخاتمة قيمة في تاريخ فنون السنة، وأسأله التوفيق لما أمر به وسنه. وتتمة في طبقات أمراء إفريقية، هي في الحقيقة خلاصة نقية، اشتملت على فوائد تاريخية، وتنبيهات لها أهمية. غاية في التحرير، والتقرير والتحبير، جديرة بالاعتبار، عند ذوي الأنظار، وعلى خلاصة الأدوار والأطوار، التي حصلت لدول إفريقية وما لها من الآثار. وخاتمة في خصوص الكلام على المنستير، وهو مسقط رأس العبد الفقير، ومنبت غرسه، ومجمع أهله وأنسه. ثم لخصت المقصد في صورة شجرة، بعبارات وجيزة محررة، أغصانها بالدر يانعة، وثمراتها طيبة نافعة، وأنوارها ساطعة لامعة، روضها كله زهر، وسلكها كله درر، شجرة تقتبس أنوارها، وتجتنى ثمارها وأزهارها، لم تزل من البركة والسمو في النماء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، طابت أصلا، وزكت فرعا وفصلا، وسميته (شجرة النور الزكية، في طبقات المالكية) والباعث على تلخيصه على نحو ما ذكرناه، والنمط الذي اخترناه، هو التوصل بسهولة للأسانيد عند المطالعة، وليكون المطالع على يقين بعد المراجعة. فجاء تأليفا جامعا لما انتشر، وموضوعا بارعا ناظما لما انتثر، على أسلوب غريب، ومنزع عجيب، راق مجتلاه ومجتناه، في الحسن والإحسان لفظه ومعناه، وعلم الشريعة كما هو معلوم على طبقات، ولأصحابه فيما بينهم درجات، والمترجم لهم هم سادات السادات، سباقو غايات، وأساطين روايات، وأئمة في العلوم والمعارف، والرقائق والمواعظ واللطائف، فمنهم الخلفاء، والملوك والأمراء. ومنهم قضاة العدل، والقراء والمحدثون المشهود لهم بالعلم والعمل والفضل، ومنهم الفقهاء المعتكفون على مطالعة المسائل، واعمال النظر لتحريرها بأكمل الوسائل، والتقاط المسائل من الدلائل. فمنهم من أصل وفرع، ومنهم من
পৃষ্ঠা ১১
<div dir="rtl" id="book-container">
جمع وصنف فأبدع. ومنهم من هذب فحرر وأجاد، وحقق المباحث فوق ما يراد. وأذاق حلاوة الشريعة لذوي الألباب، وفتح للحرج المدفوع أحسن باب. بسياسة شرعية، أساسها المصلحة المرعية. وما ذكرناه عنوان، عما لهم من المزية وعلو الشأن. ولا نسبة بينه وبين ما يجهل، وأقل من معشار ما عنه يغفل. فبحار المدارك مسجورة، وغايات الإحسان عن الإنسان مهجورة، مع قلة البضاعة، والتطفل على هذه الصناعة، فالحمد لله الذي يسر هذا القدر، مع تكدر منهج الصدر، وشواغل القضاء عائقة، وأحوال عن مثل هذا متضائقة، ورحم الله القائل:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأسواء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
....
متطلب في الماء جذوة نار
ورحم الله القائل:
من رام في الدنيا حياة خلية ... من الهم والأكدار رام محالا
وهاتيك دعوى قد تركت دليلها ... على كل أبناء الزمان محالا
وقد قيل: من صنف قد استهدف. وعليه فالمرجو ممن وقف عليه وسرح ألحاظه، أن يسامح نسيجه ولا ينتقد ألفاظه، وأن يصلح ما يجد من الخلل. وأسأل الله التوفيق لإخلاص النية في القول والعمل، وأن يجعله من شوائب الرياء سالما، وينفع به نفعا عميما دائما، وخير أعمال لا تدرس ولا تبلى، وينفع صاحبها يوم تحشر السرائر وتبلى. هذا وقد قال بعض العلماء: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" يدخل فيه الانتفاع بالتأليف لأنه مظنة عدم انقطاع الانتفاع وقد قيل: طوبى لمن عرف المصير، وشمر زمانه القصير، في اكتساب منفعة تبقى بعده شهابا، وتخليد محمدة تورثه ثناء وثوابا. فالذكر الجميل كلما تخلد استدعى الرحمة وطلبها، واستدنى الراحة وجلبها. وإلى جناب الله الرفيع أستند، وعليه في كل أموري أعتمد. وبعزته ألوذ، وبه أستعين ومن كل أفاك وحسود أعوذ. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين والحمد لله رب العالمين.
পৃষ্ঠা ১২
<div dir="rtl" id="book-container">
المقدمة وفيها سبع فرائد:
الفريدة الأولى في بعض مبادئ علم التاريخ وفضيلته
في مفتاح السعادة: التأريخ لغة تعريف الوقت مطلقا، يقال: أرخت الكتاب تأريخا وورخته توريخا كما في الصحاح. واصطلاحا هو معرفة الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وألقابهم ووفياتهم إلى غير ذلك. وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والملوك والشعراء وغيرهم. والغرض منه الوقوف على الأحوال الماضية وفائدته العبرة بتلك الأحوال والتنصح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمان ليحترز عن أمثال ما نقل من المضار ويستجلب نظائرها من المنافع. وهذا العلم كما قيل عمر آخر للناظرين ينتقي به المطلع في مصره منافع لا نحصل إلا للمسافرين. انتهى باختصار من كشف الظنون.
ليس بإنسان ولا شبهه ... من لا يعي التاريخ في صدره
ومن روى أخبار من قد مضى ... أضاف أعمارا إلى عمره
ومزية التاريخ مشكورة بكل لسان، ممدوحة عند كل إنسان، فهو من أجل العلوم قدرا، وأرفعها منزلة وذكرا، وأنفعها عائدة وذخرا. وقد شحن الله به كتابه العزيز بما أفحم به أكابر أهل الكتاب وأتى بما لم يكن في ظن ولا حساب. قال بعضهم: احتج الله في القرآن على أهل الكتابين بالتاريخ فقال: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65)} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر الله التاريخ في كتابه واستنبطه بعضهم من قوله تعالى: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة
পৃষ্ঠা ১৩
<div dir="rtl" id="book-container">
وذكرى للمؤمنين (120)} وفي الجامع الصغير "بلغوا عني ولو آية وحدثوا علي بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عني متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وفي أوائل كشف الظنون قد ورد الأثر عن سيد البشر "من ورخ مؤمنا فكأنما أحياه" ابن عيينة: عند ذكر الأولياء تنزل الرحمة. قال الإمامان الجليلان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما: إن لم يكن العلماء أولياء وفي رواية الفقهاء أولياء فليس لله ولي. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في استذكاره: معرفة أعمار العلماء والوقوف على وفياتهم من علم خاصة أهل العلم وإنه لا ينبغي لمن وسم نفسه بالعلم جهل ذلك. قال حسان بن يزيد لم أستعن علي دفع كذب الكاذبين بمثل التاريخ وقال ولي الدين بن خلدون: التاريخ من الفنون التي يتداولها الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأمم والدول والسوابق من القرون الأولى تنهى فيه الأقوال وتضرب فيه الأمثال وتطرب به الأندية إذا غصها الاحتفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال واتسع للدول فيها النضال والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق.
وقال الصلاح الصفدي: التاريخ للزمان مرآة، وتراجم العلماء للمشاركة والمشاهدة مرقاة، وأخبار الماضين لمن عاقره الهموم ملهاة، وقد أفاد حزما وعزما وموعظة وعلما وهمة تذهب هما، وبيانا يزيل وهما، وصبرا يبعثه التأسي بمن مضى واحتشاما يوجب الرضى بما خفي وجلا من القضاء {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} - {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.
وقال النووي: ومن المطلوبات المهمات والنفائس الجليلات التي ينبغي للفقيه والمتفقه معرفتها، ويقبح به جهالتها، معرفة شيوخه في العلم الذين هم آباؤه في الدين ووصلة بينه وبين رب العالمين. وكيف لا يقبح به جهل الأنساب والوصلة بينه وبين ربه الكريم الوهاب مع أنه مأمور بالدعاء لهم وبرهم وذكر مآثرهم والثناء عليهم والشكر لهم. وقال الشيخ أحمد بابا: الجاهل بالتاريخ راكب عمياء وخابط خبط عشواء، ينسب إلى من تقدم أخبار من تأخر ويعكس ذلك ولا يتدبر.
পৃষ্ঠা ১৪
<div dir="rtl" id="book-container">
وقال بعض العلماء: دراسة حياة الأجداد تربي أخلاق الأبناء والأحفاد لما فيها من الحكمة البالغة الحسنة والموعظة المستحسنة.
وفي البستان: طلب الإجازة والرواية من شأن أهل العلم وكذلك معرفة أفاضل الأمة من صحابي وتابعي وفقيه ومن الكمال معرفة تاريخ موتهم وولادتهم ليميز من سبق عمن لحق ومعرفة الكتب وأسماء المؤلفين من الكمال ومعرفة طبقات الفقهاء من مهمات الطالب وكذلك ما ألفوه في حصر المسائل انتهى.
وفي عنوان الدراية: لما كان طلب العلم فرضا على الكفاية حينا ومتعينا في حال ولم يكن بد في تحصيله من تلقيه على الرجال وكان التلقي إما مباشرة أو عن سند ذي اتصال وكان المباشر تكفي معرفته والمسند عنه لا بد أن تعرف صفته فلهذا اهتم العلماء بذكر الرجال واستعملوا في تمييز أحوالهم الفكر والبال ليوضحوا سبيل المتحمل ويبينوا وسيلة التوصل، وقد اختلفت في ذلك مصادرهم ومواردهم وإن اتفقت في بعض الوجوه مقاصدهم: فمنهم من ذكر التعديل والتجريح في المحدثين، ومنهم من ذكر من يعرف بالحفظ والإتقان من المتقدمين، ومنهم من اقتصر على ذكر العلماء المجتهدين، ومنهم من ذكر المؤلفين والمصنفين، ومنهم من ذكر علماء وقته، ومنهم من اقتصر على ذكر مشيخته وكل ذلك يحصل الإفادة ويسهل للطالب مراده انتهى.
وقال ابن شاكر في عيون التواريخ: التاريخ من أعظم العلوم أدبا وأسناها مشربا وأنورها مطلعا وأحلاها في القلوب موقعا. لم تزل محاسنه تروق وفوائده تفوق وفرائده تشوق، به تعرف أخبار من سلف من العرب والعجم وأحاديث ذوي المراتب والهمم وسيرة الكرماء في كل وقت ومن اختص ببعض صفاته بالهيبة وغيره بالمقت وكل عالم وعمن أخذ فنون علمه، وكل أديب ومحاسن نثره وبديع نظمه. والنظر في السنة الشريفة وأسماء رجالها ومراتب رواتها وطبقات فرسان مجالها حتى كأن الواقف عليه قد أدرك كلا منهم في عصره ومصره في ساحة ميدانه ومشيد قصره ورأي الأئمة وأصبح للعلوم من أفواههم متلقيا وعلم من كان بجده وهزله إلى ورود العلياء مرتقيا، وفي كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخبار الأمم السابقة وأنباء القرون الخالية ما فيه عبرة لذوي البصائر واستعداد ليوم تبلى فيه السرائر. وقد اختار الله لنا أن نكون آخر الأمم وأطلعنا على أخبار من تقدم لنتعظ بما جرى على القرون الخالية وتعيها أذن واعية ولنقتدي بمن تقدم من الأنبياء والأئمة والعلماء. ونرجو بتوفيق الله تعالى أن نجتمع بهم في الجنة ونذاكرهم بما نقل إلينا عنهم، وذلك على رغم أنف من عدم الأدب ولم يكن له في هذا العلم أرب. انتهى.
পৃষ্ঠা ১৫
<div dir="rtl" id="book-container">
ولنقتصر على ما ذكرنا من فوائد علم التاريخ المعقولة المقصودة بالنصوص المنقولة والله ولي التوفيق.
صلة في الكلام على علم الجغرافية وفضيلته وأقسامه
اعلم أن علم الجغرافية مرتبط بعلم التاريخ ارتباطا وثيقا ويتعلق به تعلقا عريقا. قال بعض العلماء: اعلم أن بين فني التاريخ والجغرافية ارتباطا قويا وتعلقا شديدا، فهما أخوان يتعاونان وفرسا رهان يتسابقان لا يستغنى بأحدهما عن الآخر. ولذا قال بعضهم: إن التاريخ له عينان يبصر بإحداهما معرفة الزمان وبالأخرى معرفة البلدان والحق كذلك فإنه لا تتم حوادث الأزمنة من غير وقوف على ما وقعت فيه من الأمكنة. على أن التجارة والصناعة اللتين بهما أساس لثروة الأمم وقوتها وتمدنها وحضارتها يرتبطان بفن الجغرافية ارتباطا تاما بحيث لا يمكن الحصول عليهما بدونه إذ به تعرف المحال التي تستخرج منها المواد الصالحة للصناعة والجهات التي يلزم توزيع التجارة فيها وإلا فلا ثمرة لها، وحينئذ فلا شيء أنفع للإنسان من معرفته إذ هو يعرفنا حقيقة الأرض التي نحن ساكنوها، والدنيا التي نحن آهلوها. ومن العار أن يجهل الإنسان زوايا داره، ولا يعرف كل ساكن بجواره. فإذا كنت مالكا لقطعة أرض مثلا أفلا يلزمك أن تجتهد في معرفة ما تشتمل عليه من ينابيع وغدران ومستنقعات وغير ذلك ثم تبحث عن الطريقة الموصلة لاستخراج ما فيها من المنافع بأن تنظر فيها بما يناسب طبيعة القطعة من النباتات التي يمكن زرعها فيها والحيوانات التي يمكن استعمالها لحرثها لتعود عليك بالمحصول الجيد الوافر. ولذا وقع تعريفه بقولهم (هو علم يعرف به سطح الأرض وما عليه من أنهار وبحار وجبال ومدن وسكان وحكومات ودول وما شاكل ذلك) قيل: وضع قدماء المصريين وقيل غيرهم.
وجغرافية كلمة يونانية الأصل مركبة من كلمتين وهما وصف الأرض ويسمى عند العرب علم تقويم البلدان وينقسم إلى ستة أقسام:
أولا: الجغرافية الطبيعية يبحث فيها عن وصف سطح الأرض على ما هي عليه من أصل خلقة الباري جل وعلا كالتكلم على الجبال والأنهار والبحار وغير ذلك.
ثانيا: الجغرافية السياسية ويبحث فيها عن وصف ما على هذا السطح من السكان والدول والحكومات وما أشبه ذلك.
পৃষ্ঠা ১৬
<div dir="rtl" id="book-container">
ثالثا: الجغرافية التاريخية ويبحث فيها عن تاريخ الأرض وما اعتراها من تقلبات الدول وبيان الوقائع المرتبطة بالبقاع والأمكنة.
رابعا: الجغرافية الرياضية ويبحث فيها عما يتعلق بشكل الأرض والعلائق التي بينها وبين الكواكب وسكونها وحركاتها وأطول البلاد وعروضها واختلاف الليل والنهار وتكوين الفصول وما يتعلق بذلك.
خامسا: الجغرافية الدينية ويبحث فيها عن اختلاف أديان أهل الأرض ومللهم ومذاهبهم وطرق عبادتهم.
سادسا: الجغرافية الاقتصادية ويبحث فيها عن محصولات البلاد من نباتات ومعادن وثروة كل أمة وتجارتها وصناعتها وما يتعلق بذلك.
والمتأخرون من علماء هذا الفن قسموا اليابس من الأرض إلى خمسة أقسام: آسيا وأوروبا وإفريقية وأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا وفي ذلك خرائط وتصانيف كثيرة مشتملة على تفاصيل وافية وإيضاحات شافية.
الفريدة الثانية من خصائص هذه الأمة أنهم أوتوا الإسناد
اعلم أن الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة وسنة مؤكدة. قال محمد بن حاتم بن المظفر: إن الله قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد وإنما هو صحف في أيديهم وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم فليس عندهم تمييز بين ما أنزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات وهذه الأمة الشريفة زادها الله شرفا بنبيها، إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف في زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تنتهي أخبارهم ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ والأضبط فالأضبط والأطول مجالسة فمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة ثم يكتبون الحديث من عشرين وجها فأكثر حتى يهذبوه من الغلط والزلل ويضبطوا حروفه ويعدوه عدا، وهذا من فضل الله على هذه الأمة. انتهى من اختصار المواهب اللدنية. وقد ذكرنا في الفريدة الأولى أن المسند عنه لا بد من معرفة صفته.
পৃষ্ঠা ১৭
<div dir="rtl" id="book-container">
إذا علمت ذلك فاعلم أنه جاء عن العلماء في الحض على تقييد العلم بالأسانيد والكراهية لمن كان عريا عنها. قال أبو محمد عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل. وقال يزيد بن زريع: لكل دين فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد ولها طرق في الحمل والرواية وفي التأدية والتبليغ وللرواية مراتب أعلاها سماع الراوي قراءة المحدث للكتاب الذي رواه أو الحديث وسماع الشيخ ثم مناولة الشيخ للكتاب الذي رواه عن شيخه ثم إجازة الشيخ للطالب أن يحدث عنه بالكتاب الذي رواه وإباحة ذلك. فأما السماع من الشيخ فالأصل فيه حديث ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع من يسمع منكم" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما
পৃষ্ঠা ১৮
<div dir="rtl" id="book-container">
سمعها" الحديث. وأما العرض عن الشيخ فالأصل فيه حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه الثابت في الصحيح أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أمرك أن تصلي الصلوات الخمس قال نعم" الحديث. فهذه قراءة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أخبر بذلك ضمام قومه فأخذوا بما أدى لهم من ذلك.
قال يحيي بن عبد الله بن بكير: "لما عرضنا الموطأ على مالك قال له رجل من أهل المغرب: يا أبا عبد الله أحدث به عنك وأقول: حدثنا به مالك؟ قال: نعم حدثوا به عني وقولوا حدثنا مالك".
وأما المناولة فالأصل فيها حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح حيث كتب لأمير السرية كتابا وقال له لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ناول أمير السرية كتابه ولم يقرأه، ولا عرضه أمير السرية عليه، ثم إن الأمير قرأه على السرية فامتثلوا لما في الكتاب وأخذوا به وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضيه وأقر به وقامت بذلك الحجة. وأما الإجازة لكتاب أهل العلم بالقلم إلى البلدان فقد اختلفوا فيها فأجازها أكثر أهل العلم كربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد العزيز بن الماجشون وسفيان
পৃষ্ঠা ১৯
<div dir="rtl" id="book-container">
الثوري والأوزاعي وسفيان بن عيينة والليث بن سعد واختلفت الرواية فيها عن مالك والأشهر عنه جوازها وعلى ذلك أصحابه الفقهاء لا يعلم أحد منهم خالفه في ذلك ومنعها بعض العلماء.
ولمالك رحمه الله شروط في الإجازة منها: أن يكون عالما لما يجيز به ثقة في دينه وروايته معروفا بالعلم وأن يكون المستجيز من أهل العلم أو متسما بسمته حتى لا يقع العلم إلا عند أهله، وكان يكره الإجازة لمن ليس من أهل العلم ولا ممن خدمه وقاسى صناعته.
واعلم أن في الإجازة فائدتين:
إحداهما: استعجال الرواية عند الضرورات.
الثانية: الاستكثار من المروي حتى لا يكاد أن يشد على المستكثر من الروايات حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد احتوت روايته عليه فيتخلص بذلك من الحرج في حكايته كلامه من غير رواية، فقد يذكر الخطباء على المنابر وأعيان الناس في المشاهد والمحاضر أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا رواية عندهم لها وقد اتفق العلماء على أن لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويا ولو على أقل وجوه الروايات لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وفي بعض الروايات "من كذب علي" مطلقا دون قيد وقد بسط أبو بكر بن خير في برنامجه الكلام على ما ذكرناه في هذه الفصول مع أخبار وآثار تركنا إيرادها مخالفة التطويل.
وذكر الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه القراءة والعرض على المحدث والمناولة وكتاب أهل العلم إلى البلدان.
قال الحافظ في فتح الباري ما نصه: لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة ولا الوجادة ولا الوصية ولا الأعلام المجردات عن الإجازة وكأنه لا يرى بشيء منها انتهى.
পৃষ্ঠা ২০
<div dir="rtl" id="book-container">
وألف بعضهم في خصوص الكلام على الإجازة، منهم أبو العباس الوليد بن مخلد الأندلسي سماه (الوجازة في صحة القول بالإجازة). وألف الحافظ ابن عبد البر تأليفا سماه (الجامع بين العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) وفي فهرسة أبي الحسن علي النوري الصفاقسي ما نصه: قال يحيي بن معين: الإسناد العالي قربة إلى الله عز وجل وإلى سيد المرسلين، وقد هاجر ذوو الهمم العلية والأحوال السنية، إلى الأقطار الشاسعة من بلاد الله الواسعة، إلى ملاقاة العلماء الذين علا سندهم، فإن تعذر عنهم السفر اجتهدوا في طلب الإجازة منهم بإرسال الاستدعاءات والمكاتبات، وذلك نوع من أنواع التحمل عند أهل الحديث المشهور فضلهم في القديم والحديث انتهى.
وفي الجزء الأخير من المعيار ما نصه: سئل الأستاذ أبو سعيد بن لب عن إجازة الشيوخ لمن يسألها منهم، ويطلبها ها هنا من ينكرها ويدعي أن لا فائدة لها، فأجاب: إن كان المتكلم في الإجازة للرواية فإن الرواية هي أصل الدين والمنهج القويم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - روى عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل:
كتاب الله أفضل كل قيل ... رواه محمد عن جبرائيل
عن اللوح المحيط بكل علم ... من العلم الرفيع عن الجليل
وهكذا سنته - صلى الله عليه وسلم - لأنها من عند الله تعالى {وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى (5)} [النجم: 3 - 5] قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]، وقال: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19] ولا يصح أن ينذر به بعد الصحابة إلا بالرواية، فلذلك بلغ الأمة بعد تباعد المدة ولولا الرواية لتعطلت الشريعة وضلت الخليقة ولم تقم على من يأتي من الناس حجة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني" وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب" وما تواتر
পৃষ্ঠা ২১
<div dir="rtl" id="book-container">
ما علم تواتره من علوم الملة إلا بكثرة الرواية وتكرارها على تكرار الأزمنة، وما علم أن الموطأ لمالك بن أنس وأن أحد الصحيحين البخاري ومسلم إلا بالرواية، ولولاها لم يكن لنا وثوق بشيء من ذلك وهكذا سائر الكتب المؤلفة والفتاوى المقيدة، لكن شرطها في الكتب التصحيح والضبط وأهمل في هذه الأزمنة هذا الشرط لكساد سوق العلم واقتصار أهله على المظنون من مضمنها دون المعلوم وإلى هذا الشرط إشارة إجازة المجيزين في إجازتهم لقولهم على شرط ذلك عند أهله فصارت فائدة الرواية عند إهمال هذا الشرط إنما هي حفظ الرسوم المجملة دون المسائل التفصيلية إلا ما خصصته الرواية منها وعينته بشرطها فتكون الرواية فيها على كمالها وهي القرآن العظيم، والحمد لله تعالى على منهجها القويم وصراطها المستقيم، وتواترها في الحديث كما في القديم، إلى بركة الانتهاء إلى المقام العلي الأعظم، والانتظام في السلك النبوي أن يقول القارئ والمحدث أروي عن شيخي فلان عن فلان إلى أن يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عليه السلام عن رب العزة، وحسبك بهذا شرفا تتعلق به لذوي الآمال آمال، وتبذل في تعاطيه الأموال. ويكفي هنا هذا القدر من الكلام، فإنه وإن طال يقصر عن هذا المقام، والعجب من مسلم ينكر الرواية وهي نور الإسلام.
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم
انتهى وستعلم إن شاء الله من الفرائد الآتية ما يوضح ما قررناه ويؤيد ما ذكرناه ومما يأتي ذكره في أواخر المقصد.
تنبيه
كانت السنة في القرون الأولى تؤخذ من أفواه الشيوخ وقلما كان الرواة يثقون بالخطوط وكان اتصال سند الراوي بالرسول مع عدالة المروي عنهم وكان ضبطهم أمرا لا محيص عنه حتى يحوز الحديث درجة الصحة، فلما أن صنفت كتب الصحاح المشهورة وذاعت في الأقطار المختلفة قامت شهرتها مقام تواترها فلم تبق حاجة لاتصال السند منا إلى مصنفيها في كل حديث دون فيها وأصبح الاعتماد على الكتاب فوق الاعتماد على الشيوخ.
পৃষ্ঠা ২২
<div dir="rtl" id="book-container">
قال أبو عمرو بن الصلاح (1) المتوفى سنة 643 ه: اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطا يصح لأن يعتمد عليه، وإنما المقصود به بقاء سلسلة الإسناد الذي خصت به هذه الأمة. أقول: وهذا هو الغرض بعينه في عصرنا والعصور السالفة قبله في محافظة الشيوخ على سلسلة السند إلى مصنفي الكتب الشهيرة كالبخاري ومسلم إنما الواجب على أمثالنا أن يتثبتوا في أمور ثلاثة: كون الكتاب الذي يروون الحديث عنه صحت نسبته إلى مؤلفه أو تواترت، والبحث في سند الحديث الذي روي به في ذلك الكتاب وخلوه من الغلط والتحريف والدخيل. وسبيل معرفة الثالث أن تقابل نسخة من الكتاب الذي يراد الأخذ عنه بنسخ أخرى منه مختلفة في الرواية إن كان ثم اختلاف فيها أو بنسخ متعددة منه إن لم يكن اختلاف في الرواية، فإذ ذاك يطمئن القلب إلى تلك النسخة وتتبين منه درجة صحتها وخلوها من العيوب فيقوم ذلك مقام تعدد الرواة اه. مفتاح السنة (2) للعلامة أبي عبد الله محمد عبد العزيز الخولي وسترى ملخصه في خاتمة المقصد.
الفريدة الثالثة في الكلام على القرآن وتواتره وأئمة علم القرآن
اعلم أن القرآن الكريم الذي أنزل لتبليغ ما فيه من الأحكام وللتعبد بتلاوته مع تدبر معانيه العظام قد تلقته الأمة رواية ودراية بالسند جيلا بعد جيل إلى هذا الأمد بدون نقص ولا زيادة ولا تحريف ولا تبديل بل والعناية به اشتدت من زمن الصحابة والدواعي توفرت في نقله وحمايته وحفظه وحراسته حتى حصل العلم بكل شيء فيه من حروفه وإعرابه وقراءته ودراسته مع صدق العناية والاهتمام البالغ للغاية، وقد
পৃষ্ঠা ২৩
<div dir="rtl" id="book-container">
تكفل سبحانه بحفظه ولم يحفظ كتابا من الكتب كذلك فقال عز من قائل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)} [الحجر: 9] وقال: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)} [فصلت: 41، 42]. في روح المعاني للعلامة النحرير المفسر الدراكة الشهير، أبي الفضل شهاب الدين أحمد بن محمود الألوسي: اعلم أن القرآن جمع أولا بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج الحاكم بسنده على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن في الرقاع (1). وثانيا بحضرة أبي بكر - رضي الله عنه - فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أيضا قال: أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالا: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره {لقد جاءكم رسول} حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.
وأخرج ابن أبي داود بسند رجاله ثقات مع انقطاع أن أبا بكر قال لعمر وزيد مع أنه كان حافظا اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. ولعل الغرض من الشاهدين أن يشهدا على أن ذلك كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو على أنه مما عرض عليه - صلى الله عليه وسلم - عام وفاته وإنما اكتفوا في آية التوبة بشهادة خزيمة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل شهادته بشهادة رجلين انتهى.
পৃষ্ঠা ২৪
<div dir="rtl" id="book-container">
ثم قال: وما اشتهر أن جامعه عثمان رضي الله عنه فهو على ظاهره باطل لأنه إنما حمل الناس في سنة خمس وعشرين على القراءة بوجه واحد باختيار وقع بينه وبين من شاهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة من اختلاف أهل العراق والشام في حروف القرآن، فقد روى البخاري (1) عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأجزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القريشي الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القراآت في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا الصحف قد كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] ألحقناها في سورتها في المصحف وقد ارتضى ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال - على ما أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة عنه -: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا. وفي رواية لو وليت لعملت بالمصحف الذي عمله عثمان وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتى صرحوا بأن عثمان لم يضع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى أنه جمع الناس على القراءة بلغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم وبعد انتشار هاته المصاحف في هذه الأمة المحفوظة لا سيما الصدر الأول الذي حوى من الأكابر ما حوى وتصدر فيه للخلافة الراشدة علي المرتضى وهو باب مدينة العلم لكل عالم والأسد الأشد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء يعد من القرآن
পৃষ্ঠা ২৫
<div dir="rtl" id="book-container">
وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين الواضح البرهان انتهى. باختصار وفي باب كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجة الله البالغة لولي الله المحدث العلامة النابغة الشيخ أحمد الدهلوي تقرير نفيس رأيت أن نذكره بنصه لما فيه من الفوائد، قال روح الله روحه أعلم أن تلقي الأمة منه الشرع على وجهين أحدهما تلقي الظاهر ولا بد أن يكون بنقل إما متواتر أو غير متواتر والمتواتر منه المتواتر لفظا كالقرآن العظيم وكنبذ يسيرة من الأحاديث، منها قوله: "إنكم سترون ربكم". ومنه المتواتر معنى ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوت والحج والبيوع والنكاح والغزوات مما لم تختلف فيه فرقة من فرق الإسلام وغير المتواتر أعلى درجاته المستفيض وهو ما رواه ثلاثة من الصحابة فصاعدا ثم لم يزل يزيد الرواة إلى الطبقة الخامسة وهذا قسم كثير الوجود وعليه بناء رؤوس الفقه ثم الخبر المقضي له بالصحة أو الحسن على ألسنة حفاظ المحدثين وكبرائهم ثم أخبار فيها كلام قبلها بعض ولم يقبلها آخرون فما اعتضد منها بالشواهد أو قول أكثر أهل العلم أو الفعل الصريح وجب اتباعه. وثانيهما التلقي دلالة وهي أن يرى الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أو يفعل فاستنبطوا من ذلك حكما من الوجوب وغيره فأخبروا بذلك الحكم فقالوا الشيء الفلاني واجب وذلك الآخر جائز ثم تلقي التابعون من الصحابة كذلك فدون الطبقة الثالثة فتاواهم وقضاياهم وأحكموا الأمر. وأكابر هذا الوجه عمر وعلي وابن مسعود وابن العباس رضي الله عنهم لكن كان من سيرة عمر رضي الله عنه أنه كان يشاور الصحابة ويناظرهم حتى تنكشف الغمة ويأتيه الثلج فصار غالب قضاياه وفتاواه متبعة في مشارق الأرض ومغاربها وهو قول: إبراهيم لما مات عمر رضي الله عنه: ذهب تسعة أعشار العلم. وقول ابن مسعود رضي الله عنه: كان عمر إذا سلك طريقا وجدناه سهلا. وكان علي رضي الله عنه لا يشاور غالبا وكان أغلب قضاياه بالكوفة ولم يحملها عنه إلا ناس وكان ابن مسعود رضي الله عنه بالكوفة فلم يحمل عنه غالبا إلا أهل تلك الناحية. وكان ابن عباس رضي الله عنهما اجتهد بعد عصر الأولين فناقضهم في كثير من الأحكام واتبعه في ذلك أصحابه من مكة ولم يأخذ بما تفرد به جمهور أهل الإسلام وأما غير هؤلاء الأربعة فكانوا يراؤون دلالة ولكن ما كانوا يميزون الركن والشرط من الآداب
পৃষ্ঠা ২৬
<div dir="rtl" id="book-container">
والسنن ولم يكن لهم قول عند تعارض الأخبار وتقابل الدلائل إلا قليلا كابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وأكابر هذا الوجه من التابعين بالمدينة الفقهاء السبعة لا سيما ابن المسيب بالمدينة وبمكة عطاء بن أبي رباح وبالكوفة إبراهيم وشريح والشعبي وبالبصرة الحسن وفي كل من الطريقتين خلل إنما ينجبر بالأخرى ولا غنى لإحداهما عن صاحبتها أما الأولى فمن خللها ما يدخل في الرواية بالمعنى من التبديل ولا يؤمن من تغيير المعنى ومنه ما كان الأمر في واقعة خاصة يظنه الراوي حكما كليا ومنه ما أخرج فيه الكلام مخرج التأكيد ليعضوا عليه بالنواجذ فظن الراوي وجوبا أو حرمة وليس الأمر على ذلك فمن كان فقيها وحضر الواقعة استنبط من القرائن حقيقة الحال كقول زيد رضي الله عنه في النهي عن المزارعة وعن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها إن ذلك كان كالمشورة وأما الثانية فيدخل فيها قياسات الصحابة والتابعين واستنباطهم من الكتاب والسنة وليس الاجتهاد مصيبا في جميع الأحوال وربما كان لم يبلغ أحدهم الحديث أو بلغه بوجه لا ينتهض بمثله الحجة فلم يعمل به ثم ظهر جلية الحال على لسان صحابي آخر بعد ذلك كقول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في التيمم عن الجنابة وكثيرا ما كان اتفاق رؤوس الصحابة رضي الله عنهم على شيء من قبل دلالة العقل على ارتفاق وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (1) وليس من أصول الشرع فمن كان متبحرا في الأخبار وألفاظ الحديث فيتيسر له التقصي عن مزال الأقدام ولما كان الأمر كذلك وجب على الخائض في الفقه أن يكون متضلعا من كلا المشربين ومتبحرا في كلا المذهبين وكان أحسن شعائر الملة ما أجمع عليه جمهور الرواة وحملة العلم وتطابق فيه الطريقان. انتهى.
واعلم أن علم القراءات به يعرف كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتمله على بعض. قال العلامة الأمير: فمن القراءات أمام كل فن وحكمة انتهى. ويأتي ذكر كثير من أئمة هذا الفن في المقصد. والقراء السبعة الذين هم الطراز الأول في هذا الفن وعليهم المعول من وقتهم إلى هذا الزمن هم:
পৃষ্ঠা ২৭
<div dir="rtl" id="book-container">
1 -
أبو محمد عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي الدمشقي: قاضيها التابعي الجليل الحافظ المقرئ الثقة الأمين. قرأ عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي وأبي الدرداء وأصحاب عثمان رضي الله عنهم. وعنه جماعة منهم إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر وأبو عبيد مسلم ويحيى بن الحارث. مولده سنة 21 ه وتوفي سنة 118ه[736م].
2 -
أبو سعيد عبد الله بن كثير المكي: مولى عمر بن علقمة. أصله من أبناء فارس رضي الله عنه. الإمام التابعي الفاضل القدوة الثقة المثبت الأمين قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي وعلى مجاهد بن جبر وهما على عبد الله بن العباس وعلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم عن النبي. وعنه الكثير من الأئمة. ولد بمكة سنة 45 ه وتوفي سنة 120ه[737م].
3 -
أبو بكر عاصم بن أبي النجود الأسدي رضي الله عنه: الإمام التابعي الثقة الفاضل المثبت الأمين العمدة الكامل. قرأ على أبي عبد الله حبيب السلمي وزر بن حبيش الأسدي وهما على عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعنه جماعة منهم أبو بكر شيبة بن عياش وأبو عمر حفص بن سلمان الكوفي. مات على أحد الأقوال سنة 127ه[744م].
4 -
أبو عمر وزيان بن العلاء البصري الخزاعي المازني رضي الله عنه: الإمام العمدة الثقة الذكي المثبت العالم بالقراءة والحديث واللغة قرأ على جماعة من التابعين بالحجاز والعراق منهم ابن كثير ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعطاء. وهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعليه قرأ الكثير من الأئمة منهم أبو زكريا يحيي بن المبارك اليزيدي ويونس والأصمعي وأبو عبيدة. ولد بمكة سنة 65 ه وتوفي سنة 154ه.
5 -
أبو عمارة حمزة بن حبيب الزيات الكوفي: الذكي المتورع الزاهد الإمام
পৃষ্ঠা ২৮