أفاقت نفيسة من ذهولها وعرفت بعض أمرها، ولكنها ظلت ضئيلة ذليلة، تتحرك فكأنها الشبح، وتتكلم فكأنها الصدى، ولكن أي شبح وأي صدى؛ شبح هو الحزن بعينه، وصدى هو إلى الغناء النادب أقرب منه إلى الصوت المألوف، ولكن منذ ذلك الوقت عاد إلى جلنار شيء من ثقة وحظ من أمل، لا لأنها انتظرت أن تزف إلى سالم، فقد جعلت تيأس من هذا الزواج يأسا يزداد من يوم إلى يوم، ولا لأنها كانت تستطيع أن تلجأ إلى أمها فتبثها ما تجد من حزن، ولكن لأنها كانت تنظر إلى أمها فلا تقابل نظرتها تلك النظرات الغافلة الذاهلة الشاردة، وإنما كانت تقابل نظرات تفهم عنها، وتتحدث إلى قلبها حديثا تفهمه دون أن يدور لسانها في فمها بالكلام القليل أو الكثير، وكان هذا الحظ الضئيل من الحب الصامت يغني هذه الفتاة وينقع ظمأها إلى الحنان، بعد أن فقدت حنان خالتها، وكادت تفقد حنان إخوتها الذين جعلت قلوبهم تقسو، وأكبادهم تغلظ، ونفوسهم تجفو، وذاكرتهم تنسى ما قدمت إليهم أختهم من معروف.
ولم تكن «جلنار» في حاجة إلى أن تبحث عن العلة التي أجلت زفافها إلى سالم ثم ألغت أمر الزواج إلغاء؛ فقد كان يكفي أن ترى وجه أمها وأن تنظر إلى وجهها في المرآة، فيغنيها ذلك عن كل سؤال.
والواقع أن أمر سالم لم يكن يسيرا ولا سمحا، وإنما كان عسيرا لا يخلو من تعقيد، لقد نشأ هذا الفتى ساخطا أشد السخط، يرى أنه تعس سيئ الحظ، لم يكد يخرج من صباه حتى فقد أمه وحتى ذاق مرارة اليتم وعرف قسوة العلات، ثم لم يكد يعقل حتى رأى نفسه يختلف إلى حذاء يعمل عنده في صناعة الأحذية، وكان يرى أبناء عمه يختلفون إلى الكتاب ثم إلى المدارس يتخذون هذه الأزياء التي لا تخلو من ظرف، وعليهم هذه الشارة التي لا تخلو من جمال، وفيهم شيء من أنفة وكبرياء يغريهم بهما ما كانوا يحسون في أنفسهم من امتياز، فأنكر الفتى نفسه في منزله بين هاتين العلتين، وأنكر نفسه عند معلمه ذلك الحذاء، صانعا للأحذية ممارسا أقدام الرجال، وأقسم فيما بينه وبين نفسه ليهجرن دار أبيه متى استطاع، وليهجرن عمل الحذاء متى وجد إلى ذلك سبيلا. وكان أخوه علي يشاركه في هذا كله: يشاركه في الضيق بحياة البيت، وفي الضيق بهذه الصناعة التي يكرهه عليها أبوه إكراها، وكان الفتيان بعد ذلك يختلفان اختلافا شديدا: فلسالم حظ حسن من ذكاء، ولعلي حظ عظيم من الغباء والغفلة، ومهما يكن من شيء فقد اتفق الشابان على هذا السخط، واشتركا في هذا الضيق، ورأى كل واحد منهما نفسه بائسا مضطهدا، واجتهد كل واحد منهما في أن يلتمس لنفسه مخرجا من هذا البؤس وهذا الاضطهاد.
فأما سالم فقد أحسن صناعته، ثم انصرف عنها، ولما هم أبوه أن يلومه في ذلك أجابه الفتى في حزم قائلا: إنك إنما علمتني هذه الصناعة لأعيش وأكفيك مئونتي، فسأعيش وسأكفيك مئونتي. ثم أخذ يضطرب في حياته كما يضطرب الشاب الذكي الذي يحسن القراءة والكتابة، ولم يحرم يدا صناعا وعقلا يحسن التصرف في الأمور، فجعل يتنقل من عمل إلى عمل يكسب القليل مرة والكثير مرة أخرى، ويدفع إلى أبيه الجنيه أو الجنيهات من حين إلى حين، وقد اطرح زي أترابه، واتخذ زي بني عمه، فأصبح أفنديا مطربشا، ولكنه كان يشعر دائما بالنقص إذا لقي بني عمه؛ لأنه لا يرطن كما يرطنون، ولا يسعى إلى الشهادات كما يسعون إليها، وكان يشعر في الوقت نفسه بالتفوق على بني عمه؛ لأن يده لم تصفر من المال قط، فكان في جيبه من الذهب والفضة ما لم يكن في جيوبهم، وكان على ذلك خراجا ولاجا لا يضيق بشيء ولا يعييه شيء، ولا يعرض له حرج إلا خرج منه، ولا تلم به مشكلة إلا انسل منها كما تنسل الشعرة من العجين، وكان بعد هذا كله طلق الوجه، باسم الثغر، فصيح اللسان، عذب الدعابة، منشرح الصدر، لا يعرف الهم إلى قلبه سبيلا، وما دام قد اجترأ على أبيه مرة فترك صناعة الأحذية واستقل بأمره، فما يمنعه أن يخرج على أبيه مرة أخرى؟! وقد فعل؛ فقال لأبيه ذات يوم: لا أسمعك تحدثني عن جلنار، فإني لم أخطبها ولم يخطر لي قط أن أتخذها لي زوجا. قال سليم: ولكني قد خطبتها لك. قال الفتى: فإني لم أفوضك في ذلك. قال سليم: وقد خطبتها أمك لك . قال الفتى: ولم أفوضها كما أني لم أفوضك. قال سليم: ولكن أمك قد ألحت علي في هذا الزواج قبل أن تموت. قال الفتى: ألحت عليك أنت ولم تلح علي أنا. قال سليم وقد استيأس من ابنه: أنت وما تشاء! ولكن لا تجهر بذلك حتى أفضي به إلى عمك، وسأجد في ذلك جهدا وألما. قال الفتى: لن أجهر بذلك ولن أسره؛ لأني لا أحفل به، ولا حاجة إلى أن تفضي به إلى عمي، فإني لن أتزوج من جلنار ولا من غيرها. ثم انطلق الفتى وترك أباه مترددا بين السخط والرضا، وأكبر الظن أنه ارتاح إلى خطة ابنه، فلم يكن يحفل بأن يقضي على ابنه بهذه الفتاة الدميمة، فيكون حظه كحظ عمه خالد حين تزوج أمها نفيسة.
وأما علي فلم يقل لأبيه شيئا، ولم يترك صناعة الخياط التي اضطر إليها، ولم يتصرف في أمره كما تصرف أخوه، وإنما كان يذهب إلى معلمه وجه النهار فلا يصنع عنده شيئا، فلما آنس المعلم منه غفلة وكسلا سخره في قضاء الحاجات البعيدة ولم يعلمه شيئا، وكان الفتى إذا أقبل المساء تنقل بين المساجد وحلقات الذكر، يصلي هنا ويذكر هناك، وهو لا يذوق من الذكر ولا من الصلاة شيئا، وكان يلم بدار أبيه فيصيب فيها شيئا من طعام ثم ينصرف إلى حياته الفارغة خارج الدار، فإذا تقدم الليل أقبل فاستلقى على فراشه حتى يصبح فيستأنف حياة البطالة والفراغ، كان كلا على أبيه، كلا على أخيه، ضحكة لبني عمه إذا زارهم، ولم يكن يزورهم إلا قليلا، وكان فرحا دائما لا يأسى على شيء، ولا يفكر في شيء، ولا يستطيع أحد أن يؤذيه بقول أو فعل؛ لأن الأشياء كانت تنزلق على نفسه الملساء دون أن تترك فيها أثرا حسنا أو سيئا. وكان سليم محبا لابنيه ضيقا بهما في وقت واحد؛ ولكنه كان يؤثر سالما؛ لأنه أكبر أبنائه، ولأنه كان كثير النشاط حسن الشارة، يعود عليه بالدينار أو الدينارين من حين إلى حين، فيفرج أزمة أو يعين على حق ، ومع ذلك فقد كان يحنو على علي حنوا شديدا، يرى فيه فتى ضعيفا ضيق الحيلة، ويرى في الرفق به والعطف عليه والشقاء ببطالته هذه لونا من الجهاد كهذا الجهاد الذي كان يحتمل مشقته بين امرأتيه، وكان مع ذلك مشغولا عن هذين الشابين بعمله وأهله وببنين وبنات ولدوا له، فمضى في تربيتهم كما مضى في تربية سالم وعلي، أسلمهم إلى الصناع، وكان يقول لصديقه وأخيه خالد: ماذا تريد؟ لا ينبغي أن نغالب القدر ولا أن نعاند القضاء، ولا أن نكون جميعا سادة ممتازين، يجب أن يكون أبنائي هملا كأبناء أبيك، وأن تمتاز أنت ويمتاز أبناؤك؛ فحسب الأسرة أن يمتاز فرع من فروعها، ولكن صدقني، إني أراك أحمق مغفلا، تنفق مالك الكثير دون أن تدخر منه شيئا، أليس غريبا أنك لا تملك دارا تقيم فيها! فدارك هذه ملك للحكومة، وستخرج منها يوما من الأيام، وما أظن أنك ستأوي بأهلك وبنيك وبناتك إلى دار أبيك الخربة المهدمة، فأطعني وأرسل إلي جنيها في كل شهر أدخره لك، حتى إذا اجتمعت لي عشرون أو ثلاثون جنيها اشتريت لك قطعة من الأرض، واتخذت لك فيها دارا، أطعني وأرسل إلي جنيها في كل شهر، وأحتجز أنا جنيها في كل شهر أيضا، ونشتري قطعة واسعة من الأرض نقيم عليها دارين متجاورين، إحداهما لك والأخرى لي، فسيتفرق أبناؤك فيما ينتظر لهم من عمل، وسيتفرق أبنائي أيضا، وسيعود كل منا إلى صاحبه في الشيخوخة كما كان كل واحد منا لصاحبه في الشباب. كان يتحدث إليه في ذلك ملحا دائما، يجد حينا ويمزح حينا، وكان يتحدث إليه في أمور كثيرة إلا شيئا واحدا لم يستطع أن يتحدث فيه لا مصرحا ولا ملمحا، وهو هذه الخطبة التي بعد بها العهد، وهذا الزواج الذي كثر تأجيله، وهذه الفتاة التي طال انتظارها ولم يخطبها أحد؛ لأن الناس قد تسامعوا بأنها خطب لابن عمها منذ الصبا؛ لم يكن يجرؤ على أن يعرض لهذا الحديث، فقد كان يعلم علم ابنه، ولم يكن خالد يجرؤ على أن يعرض لهذا الحديث، فقد كان الحياء يمنعه من ذلك، وكان سالم يمرح بين المدينتين، وربما أتيح له السفر إلى القاهرة، فكان مرحه فيها أكثر تنوعا وأبعد مدى، وكانت الفتاة تعمل وتعمل وتشقى بالعمل، لا يدري أحد أتفكر في خطبها أم لا تفكر، أتشقى بهذا التفكير أم لا تشقى، ولكن المحقق أنها كانت شقية بقسوة خالتها التي كانت تزداد كلما تقدم بناتها نحو الشباب.
الفصل الخامس والعشرون
ومن الحماقة الحمقاء والجهالة الجهلاء أن يحاول محاول إحصاء الأيام والليالي وهي تتابع ويقفو بعضها إثر بعض، لا يدري أحد متى ابتدأت، ولا يعلم أحد متى تنتهي، وأشد من ذلك حمقا وأعظم من ذلك جهلا أن يحاول محاول إحصاء الحوادث التي تقع في هذه الأيام المتتابعة والليالي المتناصية؛ فليس إلى إحصاء هذه الحوادث من سبيل حين تحدث لفرد واحد، فكيف بها حين تحدث لأسرة كبيرة أو صغيرة؛ وكيف بها حين تحدث لمدينة من المدن أو إقليم من الأقاليم أو جيل من أجيال الناس! فهي متنوعة كثيرة التنوع، مختلفة عظيمة الاختلاف، يعظم بعضها ويجل خطره حتى يصبح له في حياة الفرد والجماعة أبعد الأثر، ويهون بعضها ويدق شأنه حتى لا يحفل به حافل ولا يلتفت إليه ملتفت، وهو مع ذلك خيط مهما يكن دقيقا هين الشأن فله مكانه ذو الخطر في هذا النسيج الذي ينسجه مر الأيام وكر الليالي والذي نسميه الحياة، وقد فطن لذلك الذين يكتبون التاريخ ويسجلون الأخبار، والذين يقصون القصص ويتحدثون بأنباء الماضي، فقال قائلوهم: عاش ما شاء الله أن يعيش، وأقام ما أتاح الله له أن يقيم. وقال قائلوهم: مري يا أيام وكري يا ليالي، فما أسرع ما يكبر أبناء الأحاديث! وليس لهذا كله إلا معنى واحد، وهو أن محاولة إحصاء الأيام والليالي عبث، ومحاولة إحصاء ما يقع فيها من الحوادث والخطوب سخف، فالخير أن نطوي من ذلك كله ما يجب أن يطوى، وألا نقف من ذلك كله إلا عند ما يستحق أن نقف عنده ونفكر فيه.
ونحن مع ذلك لا نحسن تمييز اليوم ذي الخطر من اليوم الذي لا خطر فيه، ولا التفريق بين الحادثة ذات الأثر البعيد، والحادثة التي ليس لها أثر قريب أو بعيد، وإنما نحن نقدر الأيام والحوادث كما نستطيع وكما يصور لنا العقل والخيال، فأما تقديرها كما ينبغي أن تقدر، وتصويرها كما يجب أن تصور، فذلك شيء أكاد أعتقد أنه أبعد منالا من أن يبلغه طمع الطامعين وطموح الطامحين، والشيء الذي أستطيع أن أقرره وأنا صادق عند نفسي سواء أصدقني القارئ أم لم يصدقني، هو أني تتبعت حياة هذه الأسرة من قرب وفي كثير من العناية والدقة، فرأيت كثيرا من الأحداث التي عرضت لها والخطوب التي ألمت بها خليقا أن تكتب فيه القصص وتنشأ فيه الكتب وتؤلف فيه الأسفار الطوال، وأكبر الظن أن هذا ليس مقصورا على هذه الأسرة، وإنما هو شأن كثير من الأسر المصرية في هذا العصر الخطير من حياة مصر، حين أخذ القرن الماضي ينتهي وأخذ القرن الحاضر يبتدئ، وأخذت الحياة المصرية تنتقل من طورها القديم إلى طورها الجديد في عنف هنا وفي رفق هناك.
في هذا الطور من أطوار الحياة المصرية اختلفت على أسر المدن والأقاليم خطوب، لم يكن يحفل بها أحد، ولا يلتفت إليها إنسان، وهي مع ذلك قد خلقت مصر خلقا جديدا وبدلتها من خمولها القديم نباهة، ومن جمودها القديم نشاطا، وما من شك في أن الذي أقصه من أنباء هذه الأسرة - أسرة خالد - يمكن أن يقص مثله من أنباء أسر أخرى كانت تتصل بها صلة الجوار أو صلة المشاركة في العمل وفيما كان العمل يترك في حياتها من آثار، وأنا مع ذلك لا أقص من أنباء هذه الأسرة إلا أقلها وأيسرها؛ فقد كثر أبناؤها وبناتها، واختلفت بهم وبهن نوب الأيام، وذهب كل واحد منهم مذهبه في الحياة، كما دفعت كل واحدة منهن إلى طريقها التي رسمت لها من قبل؛ لم ترسمها لنفسها ولم يرسمها لها أبوها، وإنما رسمها لها القضاء الذي ليس للإنسان عليه سلطان.
وحسبي أن أسجل أن الأعوام لم تكد تتقدم بهذه الأسرة في موطنها الجديد حتى كان أبناؤها قد شبوا واستنفدوا ما كان يمكن أن تمنحه الأقاليم لشبابها من العلم والمعرفة في ذلك الوقت، فلم يكن بد من أن يرحلوا إلى القاهرة حيث يطلب العلم ويلتمس الرقي، وقد فعلوا. وهذه كلمة يسيرة تقال في لحظة قصيرة، وتكتب في حيز ضيق جدا من الورق، ولكن التفكير فيها ينحل إلى آلام لا تحصى، ومتاعب لا تعد، وجهود لا يكاد يتصورها العقل، وعواطف منها ما يسر ويرضي، ومنها ما يسوء ويؤذي، فلم يكن انتقال الأبناء من الأقاليم البعيدة إلى القاهرة في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن من السهولة واليسر كما هو في هذه الأيام، وإنما كان شيئا عسيرا كل العسر، معقدا أعظم التعقيد، كان يحتاج إلى كثير من النفقات لم يكن راتب خالد يستطيع أن ينهض به، وكان يحتاج إلى كثير من الجهد في إسكان هؤلاء الشباب في المنازل التي تلائمهم، وتمكنهم من العيش الذي يستطيعون أن يطمئنوا إليه، وحمايتهم من الخطر الذي يمكن أن يتعرضوا له في هذه الدنيا التي كان أهل الأقاليم يرونها عالما غريبا مملوءا بما يعرض الشباب لأعظم الأخطار وأشدها نكرا، وكان هذا كله يشغل نهار خالد وامرأته، ويؤرق ليل خالد وامرأته، ويصرفهما عن كل شيء، ويملأ رءوسهما بالخواطر المقلقة، وقلوبهما بالعواطف المزعجة، وكان سليم يرثى لهما ويشمت بهما، لا يخفي شماتته ولا يبخل برثائه، كان يحبهما ويعطف عليهما، فكان يؤذيه ما يجدان من مشقة وجهد، وقد نهاهما منذ الزمان الأول عن هذا الطموح الذي لا يلائم بيئتهما، وعن هذه الآمال التي لا يقدران على تحقيقها، كم نصح لهما بأن يدفعا أبناءهما إلى المصانع ليتعلموا فيها ما يكسبون به القوت وما يعينون به أبويهم إذا تقدمت بهما السن. وكم قال لهما: إن المدارس لم تنشأ لأبناء الفلاحين وأوساط الناس، وإنما أنشئت لأبناء الذوات من الترك والأغنياء من المصريين. فلم يسمعا ولم ينتصحا، فهما الآن يذوقان مرارة الغرور، ويبلوان ثمر العناد.
অজানা পৃষ্ঠা