أجل كانت هي كل هذا جميعا، وشيئا آخر لم تكتسبه من آل روملي أو آل نولان، أو من القراءة أو الملاحظة أو ممارسة الحياة يوما بعد يوم، أجل كان شيئا ولد فيها، وفيها وحدها دون سواها؛ إنه ذلك الشيء الذي تختلف فيه عن أي فرد من أفراد الأسرتين، كان هذا الشيء هو الذي يغرسه الله في كل نفس ينفخ فيها الروح، ذلك هو الشيء الوحيد المنفرد الذي لا يجعل قدمين تدبان على وجه هذه الأرض تستويان فيما تحدثانه من أثر.
9
وتزوج جوني وكاتي واستقر بهما المقام في شارع جانبي هادئ في ويليمسبرج يسمى شارع بوجارت، واختار جوني الشارع لأنه أنس في اسمه جرسا مثيرا حزينا، وعاشا هناك السنة الأولى من زواجهما سعيدين.
وقد تزوجت كاتي جوني لأنها أحبت فيه طريقته في الغناء والرقص والملبس، ولكنها بدأت، شأن النساء، تغير فيه كل هذه الصفات بعد الزواج، وأقنعته بأن يترك عمله كنادل مغن، وأطاع جوني أمرها لأنه كان يحبها ويعمل على إرضائها، وحصلا على وظيفة تجمع بينهما وتنيط بهما العناية بمدرسة ثانوية، وأحبا هذا العمل، وكان يومهما يبدأ حين يخلد الناس إلى النوم، فترتدي كاتي بعد العشاء معطفها الأسود ذا الأكمام الضيقة التي تتسع عند الأطراف، وقد حلي في بذخ بأشرطة، وهذا المعطف هو آخر ما غنمته من المصنع، وتلقي على رأسها طرحة بديعة من الصوف في لون الكرز، ثم تنطلق هي وجوني إلى العمل.
وكانت المدرسة عتيقة صغيرة دافئة، وهما يتشوقان لقضاء الليل هناك، ويسيران متشابكي الأذرع، وقد لبس جوني حذاء الرقص ذا الجلد اللامع المتلألئ، ولبست كاتي حذاءها ذا الرباط المصنوع من جلد الماعز العالي، وفي بعض الأحيان يجريان قليلا ويتزحلقان قليلا، ويضحكان كثيرا عندما يكون الليل شديد البرد، والسماء حافلة بالنجوم، وأحسا بعظم شأنهما حين كانا يفتحان المدرسة بمفتاحها الخاص، فالمدرسة هي عالمهما الذي يقضيان فيه الليل.
وكانا يلعبان وهما يشتغلان، فيجلس جوني على درج من الأدراج، وتتظاهر كاتي بأنها هي المدرسة، ويتبادلان الرسائل كتابة على السبورة، ويجذبان الخرائط التي تلتف بالستائر إلى أسفل، ويشيران إلى البلاد الأجنبية بالمؤشر الذي صنع طرفه من المطاط، وكانت جوانحهما تمتلئ عجبا حين يفكران في البلاد الغريبة واللغات المجهولة (كان جوني في التاسعة عشرة وكاتي في السابعة عشرة).
وإن أكثر ما يرغبان فيه هو تنظيف حجرة الاجتماعات، فينفض جوني التراب عن البيانو، وحين يفعل ذلك تجري أصابعه على مفاتيحه ويتخير بعض الأوتار، فيغني لها الأغاني العاطفية الشائعة في ذلك الوقت، مثل: «لعلها رأت أياما أفضل» أو «إني أذيب قلبي من أجلك»، ويداعب الغناء آذان السكان المجاورين، وهم نائمون في منتصف الليل فينصتون وسنانين، وهم يخلدون إلى فراشهم الدافئ ويتهامسون: إن ذلك الحبيب أيا كان، يضيع وقته، أجل إنه يضيع وقته، وكان أولى به أن يعتلي حشبة المسرح.
وأحيانا ينخرط جوني في رقصة من رقصاته على المنصة الصغيرة متخيلا أنها مسرح، وكان رشيقا كل الرشاقة، جميلا غاية الجمال، يفيض قلبه بالحب، ويمتلئ فؤاده بعظمة الحياة، حتى إن كاتي اعتقدت وهي تراقبه أنها تكاد تموت من فرط السعادة.
وذهبا حين حلت الساعة الثانية إلى حجرة غداء المدرسين، حيث كان هناك موقد للغاز، وضعا عليه القهوة، وقد احتفظا بعلبة من اللبن المركز في الصوان، واستمتعا بمنظر القهوة الساخنة وهي تغلي وتملأ الحجرة برائحة رائعة، واستطابا طعم الخبز المصنوع من الجويدار، وشطيرة البولونيا الطيبة النكهة، وكانا يذهبان أحيانا بعد العشاء إلى استراحة المدرسين، حيث توجد هناك أريكة مغطاة بقماش من قطن مطبوع بزهور مختلفة براقة، وينامان عليها بعض الوقت.
وإن آخر عمل لهما هو إفراغ سلال المهملات، وتستنقذ كاتي منها قطع الطباشير الطويلة التي أهملت وأقلام الرصاص التي لم تكن قد انتهت تماما، وتأخذها معها إلى البيت وتحفظها في صندوق، وشعرت فرانسي بعد أن اشتد عودها بأنها أصبحت غنية كل الغنى، بفضل ما جمعت من الطباشير الكثير وأقلام الرصاص الكثيرة.
অজানা পৃষ্ঠা