ولكنه انقطع عن الكلام عندما انفتح بابها، وتدلى السلم نحو الأرض. ولاح في الباب رجل يحمل حقيبة متوسطة الحجم سرعان ما أخذ في النزول. ضيق عبد الواحد عينيه ليحد بصره، ثم هتف: زميلنا نوح! - أجل .. هو الزميل نوح.
مضيا نحوه فتلاقوا في منتصف المسافة. تهلل وجهاهما بالفرح؛ ولكنه قابلهما بوجه جامد لا يفصح عن أي تعبير إنساني، فباخا وهما يصافحانه، وصافحهما بآلية صماء. ودون أن ينبس بكلمة فتح الحقيبة وأخرج لكل طاقم ملابس متكاملة. ارتديا الملابس الداخلية والخارجية في فتور وقلق، ولما فرغا نظرا إليه في استطلاع، فأشار صوب الطائرة وقال: الطائرة تحت تصرفكما إذا رغبتما في العودة.
وساد الصمت قليلا حتى تساءل عبد الواحد: كيف عرفتم بمكاننا أيها الزميل؟
ولكنه لم يجب، فعاد عبد الواحد يقول: لعلهم أرسلوا وراءنا عيونا؟
لم يبد عليه أنه سمعه، فقال عبد الواحد بإصرار: أرجو أن يكون رجالنا قد استردوا المظروف المسروق!
فثابر على صمته دون مبالاة، فقال عبد القوي باسما: بحسن نية أيها الزميل ارتكبنا بعض الأخطاء، ودون تقدير للعواقب!
كأنه أصم لم يستجب؛ ولكن عبد القوي لم ييئس فسأله: هل نجد محاكمة عادلة ورحيمة ونمنح فرصة جديدة للعمل؟
قام الصمت كجدار سجن. ولما لم يحاولا الكلام مرة أخرى قال نوح وهو يتناول الحقيبة الفارغة: سأنتظر في الطائرة ثلث ساعة، ثم أرجع من حيث أتيت.
ورجع كما جاء، فرقي في السلم حتى اختفى داخل الطائرة. تبادلا نظرة حائرة، ثم تساءل عبد القوي: ما له يعاملنا كأنه غريب أو عدو؟ - إنه ينفذ ما أمر به. - ماذا تظنهم فاعلين بنا؟ - سنقدم إلى محاكمة عاجلة. - وما العقوبة المتوقعة؟ - العقوبات تتراوح بين الإعدام والخصم من المرتب. - لو كنا نستحق الإعدام في نظرهم لأمروه بقتلنا في هذه المتاهة! - لا تعتمد على المنطق في فهم نواياهم. - ستوقع علينا عقوبة ما، ثم نمنح فرصة جديدة للعمل، هذا هو إحساسي! - أترى أن نعود معه؟ - إنه المخرج الوحيد من حيرتنا، إلا ... - إلا؟ - إلا إذا وافقتني على الهرب!
فنفخ عبد الواحد في ضيق وقال : لا تعد إلى ذلك. - إذن فلا مفر من العودة. - ألم تتمرد منذ حين قليل على الوضع الذي يجعل منا آلات صماء؟! - ولكنك تكره فكرة الهرب وتقترح - بدلا من التنظيم - حياة غريبة لا يقين فيها ولا أمان. - ولكنك لعنت دورنا الآلي في التنظيم! - معذرة أيها الزميل، لا رأي لي إذا اعتبرت الرأي عقيدة ثابتة، إنما أنا ابن الساعة التي أنا فيها. - وهكذا فأنت ترغب في العودة؟ - ليس ظلما أن ندفع ثمن الخطأ، وسأجد بعد ذلك عملا أنال عليه أجرا، ولن تنعدم الفرص المشروعة للتسلية والمغامرة! - لا فائدة من مناقشتك! - إني أعجب لشأنك، ألم تبد حرصك الدائم على المهمة؟ ها هي المهمة تعود بأيسر سبل، ومعها التنظيم كله، والعضوية الرسمية، والمندوب، والزعيم المجهول! - ماذا أقول أيها الزميل؟ لقد عايشت في هذا الخلاء جوا جديدا، وسلمت نفسي لمنطق جديد، وهيأت إرادتي لحياة جديدة ... - لعلك تبالغ في الخوف من المحاكمة؟ - كلا، فهي لن تكون أقسى من المطاردة التي ستتعقبنا! - أتصر على الاعتماد على نفسك حتى بعد أن هبطت عليك معجزة النجاة؟ - لن أطيق بعد اليوم أن أكون آلة صماء. - ولكنه تنظيم كامل، يوزع العمل بكل دقة تضمن النجاح! - لم تعد أعصابي تحتمل المعاملة مع المظاريف المغلقة، ولا المندوب الغامض الذي نلقاه دقائق في أوقات راحته، ولا الزعيم المجهول الذي لا ندري عنه شيئا، كلا ثم كلا، وأنت نفسك كنت البادئ بالرفض! - لا تدع فرصة العمر تفلت من بين يديك. - خيل إلي أني أقنعتك قبل هبوط نوح؟ - كلا، إني أختار واحدا من طرفين؛ فإما الهرب وإما التنظيم، وها هي الطيارة تنتظر فلا مجال للتردد بعد! - أما أنا فطريقي واضح، سأعيد الرحلة من جديد بدءا من المدينة؛ ولكن بعقل متفتح لا يغادر كبيرة ولا صغيرة، وفي الجنوب ستنبثق المهمة من صميم رأسي لا من مظروف مغلق! - توقع في كل خطوة مطاردة من الشرطة أو التنظيم! - سيجد مني يقظة كاملة لا يعتورها خور. - سيكون فراقنا موجعا، ولكن لا بد من العودة. - سنعاني حياة منفصلة لأول مرة، فكر في ذلك أيها الزميل القديم! - إنه لأمر محزن؛ ولكن لا بد من العودة. - ستوقع عليك عقوبة، سيلاحقك سوء الظن كظلك، سيضاعف ذلك من نصيبك من الآلية. - وأنت! ستهلك في هذه المتاهة قبل أن تبدأ من جديد! - لا، لقد جاءت الطائرة من تلك الناحية، فهناك يقع الشمال، وبالتالي عرفت الجهات الأصلية، كما عرفت الطريق إلى العمران، ابق معي! - يا زميلي العزيز، سوف تقتل في العمران إن لم تهلك في الخلاء، تعال معي. - ستمضي حياتك وأنت ظل لا حقيقة له، تنفذ مهمة لا فكرة لك عنها، ابق معي. - أنت تخاف المحاكمة! - إني أرفض المحاكمة، أرفض العقوبة، أرفض العفو، أرفض الأمر الغامض والتنفيذ الأعمى، أرفض المهمة داخل مظروف مغلق، أرفض النجاة الرخيصة في الطائرة، ابق معي. - إني أعجب لشأنك؛ كيف انقلبت من النقيض إلى النقيض. - قلت لك: إني ابن الساعة التي أنا فيها، ولكنك أنت أول من فكر في الانضمام إلى التنظيم، أنت من دافع عنه بحسناته وسيئاته، أنت من قبل بحماس الدور الذي رسمه لك دون مناقشة! - لعل تمردك تسلل إلى نفسي، خالط فكري بعلم وبغير علم مني، فلما وقعنا في هذا المأزق تبدت الحقيقة عارية، وانتهيت إلى رأي حاسم. - يحزنني أن يكون تمردي من أسباب انقلابك. - سأشكر لك ذلك ما حييت.
অজানা পৃষ্ঠা