فيرفع الفعل «أطرب» وهو منصوب لا مناص؛ لأنك إذا جعلت الفاء عاطفة وجب نفسه بالعطف، على أراك، وإن جعلتها للسبب وجب نصبه بأن مضمرة. فكيف ساغ لهذا الرجل رفعه؟ فصاح طالب: قد يكون الفعل معطوفا على «أرجو» وهو مرفوع، وهنا قهقه الشيخ حتى سقطت عمامته، وأجاب: هذه حيلة العاجز يا ولدي؛ لأن الطرب مترتب على الرؤية لا على الرجاء.
ولم أطق يا أبا الطيب، أن أصبر على استماع أكثر من هذا، فأسرعت بالخروج من هذا المسجد. تدبر أيها الأخ في أمر تسكت به هذا المجنون. فإن الناس ينقلون أخباره ونوادره، وإذا وصلت هذه الأخبار إلى القصر ساءت العقبى.
كان عبد العزيز يحادث المتنبي، وهو سابح في بحر من الفكر عميق، وقد اصفر لونه، واختلجت عضلات وجهه؛ لأنه في الحق كان يخشى أن يفسد عليه هؤلاء السفهاء أمره مع كافور، بعد أن بلغ لديه منزلة الرضا، وأصبحت الولاية منه قاب قوسين، ثم اتجه إلى عبد العزيز وقال: سيكون لي مع هؤلاء شأن آخر، وربما أسكتهم عني بعد أيام سكوتي عن قول الشعر جملة واحدة. - كيف؟ فابتسم، وقال: ستعلم ذلك قريبا يا ابن يوسف، هلم بنا إلى دار ابن رشدين، وانطلقا حتى بلغا الدار فلقيا بها صالحا والشريف إبراهيم العلوي، وأقبلت عائشة مسرعة وكأنها البدر المشرق زحزحت عنه حجب الغمام، وكان المتنبي على غير عادته باش الوجه، منبسط النفس. فابتدره الشريف سائلا: أين كنت هذا الصباح يا أبا الطيب؟ - كنت عند كافور أستأذنه في مدح فاتك. فأطرق الشريف طويلا، ثم قال: لقد تعجلت في هذا يا أبا الطيب، إن كافورا لا يبغض في مصر إلا رجلين: ابن سيده وفاتكا، وقد نهى أن يذكر أحد في قصره اسم فاتك إلا أن يأتيه البشير بموته، وحينئذ يسوغ للبشير أن يقول له: مات فاتك. فكيف بحقك قذفت بنفسك في هذه الهوة، وألقيت بها في هذا المأزق؟ وبم أجابك؟
فبهت المتنبي وتلعثم، وقال: أذن لي بمدحه. - وهذه هي الطامة الكبرى، وهذا هو الشر المستطير، والبرق الذي يسبق الرعد، والسكون المخيف الذي يتقدم العاصفة. إن الهر الخبيث يداعب الفأر قبل أن يثب، والثعبان المكار يهز رأسه لفريسته قبل أن ينقض عليها. فأسرعت عائشة في وجل وهي تصيح: ماذا تقول يا سيدي؟ - إن الرائد لا يكذب أهله يا عائشة، ولقد علمت من دهاء هذا العبد وحيله ما فيه العجب العجاب . - كيف بالله؟ - لقد عودنا هذا الكافور أنه لا يضحك إلا إذا نوى الغدر، وعهدناه لا يلقي لصيده الحبل طويلا إلا ليرتكس فيه، وهنا وثب المتنبي واقفا وهو يقول: لقد بالغت في سوء الظن بكافور يا سيدي: إنه وعدني اليوم بولاية صيداء. فأسرع عبد العزيز سائلا: بعد أن استأذنته في مدح فاتك؟! - نعم. فقال الشريف: هذا يؤيد رأيي، ويحقق في الأسود سوء ظني، وكيف جاء ذكر هذه الولاية؟
قال كافور: إنه وصلت إليه رسالة من أهل صيداء يشكون فيها من واليهم، ويصفونه بكل ما يشين، وأيد ابن الفرات شكواهم، وأنه نصح لهذا الوالي كثيرا فلم يرعو عن غوايته، وحينئذ التفت إلي كافور باسما، وسألني عما أرى في ولاية صيداء، فقبلت وشكرت. - هل أسند الولاية إليك بالفعل؟ - كأنه أسندها إلي لأنه قال إنه سينظر في الأمر، وإن الأمور مرهونة بأوقاتها: فغمغم الشريف في ألم وحسرة وقال: كل هذا كذب من الأسود وخداع. فلا ظلم الوالي أهل صيداء، ولا شكا أهلها من واليهم، ولا عزم كافور على عزل الوالي وتوليتك مكانه، ولكنه ماهر في ابتكار الكذب وارتجال الأخاديع، ولو كنت لا أعرف هذا الوالي؛ لعلمت من أسلوب العبد في تناوله هذه الأمور أنه كاذب مائن، أما وأنا به جد عليم، وأعرف من أخلاقه وسيرته ما يرفعه إلى مرتبة العمرين، فلا يخالجني شك في أن الرجل خدعك بهذه الأخلوقة، والله وحده يعلم ما وراءها من كيد ومحال، وأكبر الظن أن بعض أعدائك دس لك عنده؛ لأن هذه المجاملة، وهذه الموادعة، لا تفسر عندي إلا بهذا. فخذ حذرك يا أبا الطيب، وكن معه كملاعب النمر، يقرب منه والخنجر لا يفارق يمينه. أما الولاية وأشباهها فأضفها إلى خيال الشعراء، فإن الرجل في هذه الناحية أمهر شاعر، وهنا تململ المتنبي، وقال حانقا: إن بيني وبينه أيام إن لم يف بوعده فيها عرفت أنه كاذب أفاك، وفي شعري علاج ناجع لأمثال هؤلاء. - احترس أبا الطيب، وقدر لرجلك قبل الخطو موضعها، فإن الصل المصري لا تنفع في لدغته الرقية ، ولا يجدي الدواء، وجامل الرجل حتى تجد من يديه مخلصا.
بدا الغم والحزن على وجه المتنبي ووجوه أصحابه، وتنهدت عائشة وقالت في صوت خافت: لعل شدة خوف الشريف على سلامتك يا أبا الطيب هي التي دفعته إلى أن يصور لك الخطب جسيما، والأمر عظيما، فانضح عنك الخوف، فقد يكون الوهم قد لعب بنا فخيل إلينا أن الهر أسد ضرغام. فأسرع الشريف قائلا: لا يا سيدتي عائشة، إن الأسود ماكر محتال بعيد الوثبة، فمن الخير لنا ولأبي الطيب أن نكشف له الطريق. ثم خاض القوم في حديث آخر، والمتنبي ذاهل في مهامه من الفكر، كلما خرج من فلاة تلاقفته أخرى، ثم استأذن في الانصراف، فخرج ومعه عبد العزيز الغزاعي. حتى إذا بلغا الدار أخذ المتنبي في خلع ثيابه وهو يسأل عبد العزيز: ما رأيك في حديث الشريف؟ - أكبر الظن أنه يقول الحق. - أخشى أن يكون قد طوح الخيال به قليلا. - إذا كان في حديثه بعض التهويل فإني أعتقد أنه لم يعد الحق. - بيننا وبين الأسود أيام إن لم ينجز فيها وعده فويل له مني في التيقظ والمنام! ثم أخذا في فنون شتى من الحديث، حتى إذا حانت ساعة النوم انصرف كل إلى سريره.
ومرت أيام، ومر شهر وأكثر من شهر، وكافور لم ينجز وعده ولم يشر إليه، وتحقق المتنبي من أن الرجل خدعه، وأن الشريف كان صادقا حين وصم الأسود بكل نكراء، ونظر أبو الطيب فرأى ما بناه من الآمال ركاما، وما صوره من المجد أحلاما، وأن الطائر الذهبي الذي طالما ناغاه فر من بين يديه في الهواء، وذهب إلى آفاق غير هذه الآفاق، ولم يعد يشك في أن العبد أغراه بالقدوم إلى مصر؛ ليحتبسه بمصر، وليجعل منه شاعرا مأجورا، يسبح بحمده في البكرة والعشي، في سبيل لقيمات يقذفها إليه في الصباح والمساء. ألا خسئ الأسود، وخسئ اليوم الأسود الذي شددت فيه رحالي إليه!
أيملك الملك والأسياف ظامئة
والطير جائعة لحم على وضم
من لو رآني ماء مات من ظمأ
অজানা পৃষ্ঠা