السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير
أما السبب الثاني فهو: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير.
أيها الأخيار! إن المجتمع الإسلامي الذي شاد القرآن الكريم صرحه الشامخ، وأرسى لبناته المتينة العظيمة القوية، على يد أعظم مرب عرفته الدنيا ﷺ-بأبي هو وأمي- كان مجتمعًا فريدًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ، كان مجتمعًا تمثلت فيه العبودية الكاملة لله وحده لا شريك له، وتتمثل هذه العبودية فيما يلي: أولًا: في العقيدة الصحيحة الصافية الخالصة، امتثالًا عمليًا لقول الله ﷿: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [الحج:٦٢] .
وتمثلت هذه العبودية ثانيًا في العبادة الصحيحة، بكمال ركنيها من كمال حب، وكمال ذل، وبشرطيها من إخلاص واتباع لرسول الله ﷺ.
وتمثلت هذه العبودية ثالثًا: في الجانب التعبدي والتشريعي في تطبيق شريعة الله جل وعلا امتثالًا عمليًا لقول الله سبحانه: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥] .
وتمثلت هذه العبودية رابعًا: في الجانب الأخلاقي والسلوكي والمعاملات امتثالًا عمليًا، لقول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:٩٠] .
وتمثلت هذه العبودية خامسًا: في المحبة الصادقة والاتباع الصحيح لرسول الله ﷺ، وجسد هذا الاتباع الصادق وهذه المحبة الخالصة صحابي جليل جاء إلى الحبيب المصطفى ليقول له يومًا: (يا رسول الله! والله إنك لأحب إليّ من نفسي، وأحب إليّ من ولدي ومالي، وإني إذا كنت في بيتي فذكرتك يا رسول الله لا أصبر حتى آتي لأنظر إليك، وإني تذكرت موتك اليوم يا رسول الله، وعرفت أنك بعد موتك سترفع مع النبيين في الجنة، وإذا مت أنا فلن أستطيع أن أراك يا رسول الله، فبكيت) فلم يستطع النبي ﷺ جوابًا أمام هذا الحب المتدفق الحاني، فنزل قول الله جل وعلا: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ [النساء:٦٩-٧٠] .
عبودية كاملة -أيها الأحباب- إنه مجتمع رباه القرآن وطهر ظاهره وباطنه، ورباه المصطفى ﷺ فنقله من الكفر والعصبية والعنصرية البغيضة إلى واحة التوحيد والتسامح والمحبة والإخاء، لا فرق في هذا المجتمع بين أحد، ولا فضل لمن ارتفع على من تواضع، ولا لمن اغتنى على من افتقر، ولا لمن حكم على من حُكِم، بل الكل سواء لا فضل لأحدهم إلا بالتقوى مصداقًا لقول ربنا: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:١٣] هذه بعض سمات العبودية الكاملة في هذا المجتمع لله جل وعلا وحده لا شريك له.
1 / 4