زوادة النجاح أحتملها دائما. لا بأس أن تكون ذكرى تافهة كربحك سبع كلل، أو كأن تكون قد ضربت ابن الجيران فهرب منك، أو كأن تعجب بك بنت الباشكاتب. تزود ذكريات الظفر لتقوي معنوياتك إذ تنهدم. ولا ريب أنه يمر بك فترة في الحياة وقواك المعنوية في شلل، غير أنه من الضروري أن تقنن هذا الأفيون جرعات صغيرة، فتكون لك حافزا لا مخدرا.
ثم علمتني الحياة أن أعيش حياة ثانية صالحة لا واعية. زوادة الأوهام ضرورية للعيش. كل منا يحلم في يقظته أنه ديكتاتور، أو غني كبير، أو مخترع، أو أديب عالمي. هذا ضرب من الجنون النافع، شرط ألا يجمح، فإنه من هذه الأوهام المضطربة تتبلور فكرة واقعية أو حوار قد تستعمله في المستقبل، أو مشروع تجاري، أو روحي واقعي غير عادي. ولهذه الأوهام فائدة ثانية: ماذا أصابك البارحة من فشل؟ هل أرسلت مقالة إلى جريدة «مضرب الفجر» فلم ينشرها رئيس التحرير شمدص جهجاه؟ هل أقامت المفوضية «البلو كوفتشية» حفلة كوكتيل فدعت إليها جارك بندر بك علوش ولم تصلك ورقة دعوة؟ هل رأيت الأستاذ عوسج شنديب راكبا سيارة فخمة وهو صعلوك وأنت منتظر الترامواي تحت الأمطار؟ كل هذه أمور بسيطة يجب ألا تزعجك. افتح زوادة الأوهام حالا تصبح أكبر كاتب في الدنيا، ورئيس تحرير الجريدة شمدص جهجاه. مسكين شمدص جهجاه! ها هو يحاول أن يدخل إلى منزلك يرجوك راكعا على ركبتيه أن تجود عليه بمقال. أطل من النافذة وانظر إلى خادمتك «أبركسيا» والمكنسة في يدها تضرب بها شمدص جهجاه، وهذا يصيح: آخ ... آخ ... دخيلك اضربيني إنما أريد مقالا؛ مقالا قصيرا فقط لا غير.
أما سفير دولة «بلو كوفتشيا»، فمن أسهل الأمور أن تثأر منه. زوادة الأوهام. هذا أنت قد منحوك بالإجماع «جائزة نوبل» العالمية. أعلنوا اليوم في البلاد عيدا قوميا، وها هي الشوارع مزدانة، ورئيس الوزارة بالثوب الرسمي يرأس الحفلة لتقليد الوسام، وتسليمك الجائزة، فهل تحضر الحفلة؟ بالطبع تحضر الحفلة بشرط واحد؛ وهو ألا يدعى إليها سفير دولة «بلو كوفتشيا»، يا سيدي، يوجد بروتوكول. علاقات دولية. أبدا، أنت لا يهمك البروتوكول ولا العلاقات الدولية. سفير «بلو كوفتشيا» بدلا من مجيئه إلى الحفلة ليذهب فيزور بندر «بك» علوش الذي كان يدعى إلى حفلات الكوكتيل ولا تدعى أنت. أما الأوتوموبيل الفخم وعوسج شنديب وأنت منتظر الترامواي فهذا أمر تافه. زوادة الأوهام: هو ذا سيارة - أول سيارة تسري بقوة الاندفاع الذاتي وعزم الذرة يقودها شوفران اثنان بوقت واحد. وفيها راديو وتلفون ... و... و... من يقدر أن يصف ما فيها وهي تجري بك في الشارع، والثلوج تتساقط، والأرياح تثور - من ترى في الشارع؟ بالطبع بندر علوش. ماذا يعمل؟ مسكين منتظر الترامواي. ها هو يناديك أن تقف له. فهل تقف؟ وهل تفتح له الباب وتجلسه إلى جانب أحد السائقين؟ وهل تجود بالمقال على شمدص جهجاه؟ هل تأذن لرئيس الوزارة بدعوة سفير «بلو كوفتشيا»؟ كل هذا غير مهم. المهم أنك بنيت من الأوهام ملجأ تحلم فيه أنك قد قتلت في نفسك النقمة التي تتأكل قلبك. زوادة الأوهام ضرورية في الحياة، وهي مفيدة شرط ألا تأكل منها بنهم.
علمتني الحياة أن الحسد غريزة بهيمية نهاشة هدامة، وأنك لا تستطيع أن تقهرها بغير أن تقاتلها بكل ما تملكه من أسلحة، من تقوى وواقعية وكبر نفس. كنت حسودا إلى درجة قصوى، وكدت أختص بالحسد أصدقائي ورفاقي في المدرسة. من قوانين هذه المحطة ألا نذكر أسماء. إذن فأكتفي أن أقول أن بين بعض أصحابي الجامعيين أشخاصا لهم شهرة عالمية، وكنت كلما وقعت على إخبارهم أتحسر وأحسد وأنقم أن يكونوا هم في رفيع المقامات وأنا إذ ذاك خامل الذكر. لقد تغلبت على هذه الرذيلة بتطور بطيء وبقفزات طفرة. يصعب تحديد الساعة التي أعلنت فيها الانتصار، غير أنه من الممكن الإشارة إلى حدوثها بوجه عام إثر سماعي عبارة من محامي، فقد كان لي في «الفلبين» محام صديق يتولى شئوني القضائية والحكومية العارضة، وكانت شيئا تافها. وفي ذات يوم، اتفق له أن يعالج من أجلي أمرا هاما، فرحنا نطوف في الدواوين من مدير إلى وزير إلى نائب رئيس الجمهورية، وكان صديقي المحامي حيث دخلنا يجد الأصدقاء ويعرفني «هذا ابن صفي. هذا يسبقني بسنة في الدراسة. هذا كان منافسي في الركض. هذا غلبته في السباحة.» وكان صديقي المحامي رجلا غير شهير ولا عظيم. ولما انتهى بنا الطواف في السراي وركبنا التاكسي نحو المكتب التفت إلى صديقي المحامي وقال: «أتعلم يا سعيد؟ كلما رأيت أصدقائي يحتلون المراكز العالمية.» قلت مقاطعا وكنت أكشف عن شعوري: «طبعا حدثت نفسك: الله يلعن الحظ.» فضحك وقال: «لا، كلما قوي أصدقائي شعرت بالقوة في نفسي.»
منذ تلك الساعة عكست موقفي العاطفي نحو أصدقائي الناجحين، وهم اليوم يلمسونه، ووجدت في نفسي القوة بدلا من الحسرة، وجمال الحب بدلا من بشاعة البغض، وواقعية الربح بدلا من الخسارة. قلت إن أصدقائي الناجحين في الحياة يلمسون اليوم شعوري . كيف يلمسونه؟ الإحساس يجد طريقه إلى الآخرين. الحسد غريزة بهيمية نهاشة هدامة. علمتني الحياة أنه من الجميل والنافع والممكن أن أقهرها. علمتني الحياة - آخ - ضاع الوقت، وعلى ذكر الوقت علمتني الحياة أن أفهم الوقت، فأنا اليوم أعلم أن حياة الإنسان طويلة؛ أربعون خمسون ستون سنة هي ساعات كثيرة في وسع أي واحد منا أن يحقق فيها أمورا مهمة، شرط ألا نهدم الوقت. هذه السهرات ساعات، ساعات لماذا؟
قدم لضيوفك القهوة والشراب، ولكن لا تقدم الوقت، هو أثمن من أن يهدر، والوقت ليس له من بديل. بعض الأمور كالخمرة يلزمها التحقيق. وقبل أن يدهمنا الوقت - وقت المحطة - فإليكم الأمثولة الأخيرة التي ألقتها علي الحياة. عامل الناس كأنك مرشح للانتخابات، وكأنهم كلهم ناخبون، وكأن يوم الاقتراع غدا.
على أعتاب هيكل
جلسنا على منصة الخطابة وخلفنا مكتبة الجامعة الأميركية، تلك البناية التي أهداها آل يافث إلى الجامعة، وقد كلفت ما يزيد عن مليوني ليرة. وحقا إن المنصة التي جلس عليها نحو من عشرين بأثوابهم العامية، ونياشينهم يواجهها الحشد يترأسه فخامة رئيس الجمهورية، ولفيف من الدبلوماسيين، والدرج الذي استدار بالمنصة. كل هذا أوهم الناظر أن هنالك جمعا من المتعبدين.
بدأت الخطاب ب «فخامة الرئيس»، ثم خاطبت وزير البرازيل بكلمات برتغالية سرغس لها الجمهور، ثم «سيداتي وسادتي».
صاحب الفخامة.
অজানা পৃষ্ঠা