قضت سيدة القصور أياما تقلب الرأي في أمر عمارة. حتى انتهى بها العزم إلى وجوب البطش به، ورميه في بئر القصر المعروفة ببئر الصنم، التي كثيرا ما ابتلعت أعداء الفاطميين، فنادت مؤتمن الخلافة، وأمرته بدعوة عمارة إلى قصر الزمرد.
وفي غد ذلك اليوم جاء عمارة إلى القصر، وهو خائف يرتعد، ودخل بهو الأميرة، فرآها جالسة في الوسط، وإلى جانبها مؤتمن الخلافة، وجاريتها «باسمة»، ورأى ابن دخان واقفا ومعه ثلاثة من جنود القصر، فتقدم ليقبل طراز الأميرة، فزجرته وأمرته بالوقوف بجانب ابن دخان، فوقف مبهوتا لا يدري لكل ما يرى ويسمع سببا، ثم التفتت سيدة القصور إلى ابن دخان، وقالت: قدم دعواك يا ابن دخان، فأخذ يقص ما حاك من دسيسة، وعمارة في ذهول، يرى البهو يدور بمن فيه، ثم ينقلب فيراهم في سقفه لا في أرضه، حتى إذا أتم ابن دخان دعواه، اتجه إلى الجنود وقال: وهؤلاء الجنود المخلصون الذين أرادوا أن يستغووا المتآمرين حتى يوقعوهم في الشرك، سيقدمون إلى مولاتي ما يؤيد وقوع هذه المؤامرة الخسيسة. فقالت سيدة القصور: وأين مجاهد الرملي؟؟ ... فإذا صوت يصيح في دهليز البهو: هأنذا قادم إليك يا مولاتي. ويدخل مجاهد، فينظر مرة إلى «باسمة»، ومرة إلى ابن دخان، ثم يصيح: هذه دسيسة كاذبة ملفقة يا مولاتي ... إن زوجتي باسمة هذه هي التي نسجت خيوطها الواهية مع ابن دخان، وهؤلاء الجنود الكاذبون وعد كل واحد منهم بمائة دينار؛ لقاء كذبه وزوره، وقد وافقتهم على الاشتراك معهم، ولكني رأيت آخرا أن هذه الوشاية قد تحدث فتنة، وقد تدفع الناس إلى التحدث عما يسمونه: دسائس القصر، فأسرعت إليك يا مولاتي لأعيدها إلى الرمس الذي نبشت منه، ولأقتلها في مهدها.
شمل الصمت والذهول جميع من حضر، وأحس عمارة أن هاتفا يهمس في أذنه: لقد نجوت، واصفر ابن دخان، وارتعدت أوصاله، وصاحت الأميرة في غيظ وحنق: وما برهانك يا مجاهد؟! - برهاني: أنك تجدين في خزانة ديوان الرواتب أربع صرر، بكل واحدة منها مائة دينار، وقد كتب على كل صرة اسم واحد منا؛ لأننا لعلمنا بمخاتلة ابن دخان ومخادعته، خفنا أن يماطلنا في نقد المال بعد إتمام الدسيسة، فحتمنا أن يكتب بيده اسم كل واحد منا على صرته.
فاتجهت الأميرة إلى مؤتمن الخلافة وقالت: اذهب مع هذا الرجل (وأشارت إلى ابن دخان) وأحضر الصرر إن وجدتها.
فذهبا وابن دخان يجر ساقيه، ثم عادا ومعهما الصرر الأربع ، وقد كتبت عليها أسماء الجند كما قال مجاهد. فقالت الأميرة: لقد انجلى الحق، وأمرت بأن يطرد ابن دخان من رياسة ديوان الرواتب، وأن تطرد باسمة من القصر، وأن تضرب عشرين سوطا، وأن يضرب الآخرون خمسين سوطا.
ثم اتجهت إلى عمارة وقالت: أسأنا بك الظن أبا محمد، وطفقت تعتذر إليه وتستعطفه، وتشكو إليه ما حولها من الدسائس التي تحاك في ظلمة الليل وظلمة النفوس، فتقدم عمارة يقبل يديها وقدميها وهو يبكي ويقول: والله يا مولاتي لو وسوس إلي فؤادي مرة أن أمس شعرة لفاطمي أو فاطمية لخلعت فؤادي من صدري؛ فمست كتفه بلطف وقالت: أعود إلى ما كنت لك ... وتعود إلي ما كنت لي ... وننسى هذه العاصفة الكاذبة التي كانت سببا في توثق ودادنا.
الفصل الثامن
مرت شهور وأيام، مات في أثنائها الخليفة الفائز، فقد أصابته حمى لم تمهله أياما حتى قضى، وما كادت سيدة القصور تمسح أول دمعة عليه حتى أشارت بتولية عبد الله ابن أخيها يوسف؛ لأنه كان صغير السن، وفي ذلك تمكين لسلطتها في الدولة.
فقد كان في الحادية عشرة، فلقبه ابن زريك: بالخليفة العاضد بالله، وقامت له البيعة بقاعة الذهب في يوم حافل، ووقف عمارة بين الحشد الجامع من المبايعين ينشد:
لئن قل صبر فالمصاب عظيم
অজানা পৃষ্ঠা