ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
وكان الصالح شديد التأثر بالشعر الرائع، يؤديه صوت رائع، فاهتز طربا، وأخذ يطلب الإعادة بين بيت وبيت، وملك حسن الشعر على الأستاذين، ورجال الدولة وأدبائها شعورهم، فلم يستطيعوا إلا أن يجهروا بالاستحسان والإطراء.
وكان بقاعة الذهب باب عليه ستار من الحرير المطرز بالذهب، كان ينفرج أحيانا فتطل منه عينان ساحرتان، في وجه يمتزج فيه ماء النعيم بماء الفتنة والجمال، وما كاد عمارة يتم إنشاده، حتى أفيضت عليه الخلع المذهبة من أثواب الخلافة، ووصله الملك الصالح بخمسمائة دينار، وجاء بعض الأستاذين إليه يحمل صرة بها خمسمائة دينار، وهو يقول: إن سيدتي سيدة القصور، قد أعجبت بك وبشعرك أعظم الإعجاب، وهي تبعث إليك بصلتها هذه، وقد أمرت أن تخلى لك «منظرة الغزالة» المشرفة على خليج أمير المؤمنين، ثم ابتسم وقال: على شرط أن تعيد أمامها إنشاد قصيدتك الرائعة؛ لأنها لم تستمتع خلف الستار بكل ما فيها من جمال.
ثم أقبل عليه المهذب أبو محمد الأسواني - وكان زعيم الشعراء بمصر، وسيد كتابها - فشد على يديه مهنئا، وقال: أيها الشاعر اليمني، هل أطمع في أن أكون لك صديقا، فإنني عندما رأيتك أحسست بحبي لك، وحينما سمعتك أحسست بإكباري لأدبك، لقد ألح علي مولاي الملك الصالح ألا تنقطع عنه، وألا تحرمه زيارتك، وأن تنثر عليه من حين إلى حين فرائد شعرك، فإنه كريم أريحي يهتز للمديح، ويجزل الثواب عليه، وقد أمر أن أن يخلع عليك لقب: شاعر القصر، وأن تمنح راتبا كل شهر يقرب من رواتب كبار الدولة.
فما استطاع عمارة إلا أن يشد على يدي صديقه الجديد، بحماسة وإخلاص صادق، ورجاه أن يبلغ عظيم ثنائه، وجميل شكره للملك الصالح على جزيل ما وهب، وكريم ما أعطى.
وخرج ابن دخان صاحب ديوان الرواتب، وزين الدين بن نجا، فمال ابن دخان على صاحبه، وقال: ما هذه الشعوذة التي شهدناها اليوم يا سيدي؟! شاعر مستجد متكسب بشعره ... يلقي أبياتا سمجة غثة، فينال من الجوائز والعطايا ما لم يستطع المؤرخون ادعاء مثله في عهد الرشيد؟! ماذا قال يا صاحبي بالله عليك ...؟! ماذا قال ...؟! «بين النقيضين: من عفو ومن نقم»؟! ... «تحلو البغيضين: من ظلم ومن ظلم»؟! ... ما أسخف!! ... وأنا أقول له: يا ابن الشقيين: من عاد ومن إرم!! ... وسارق الهاربين: النوق والغنم. وكان زين الدين مربد الوجه حزين النفس، بعد أن رأى عدوه الذي طالما تمنى له الغوائل، يصل إلى هذه المنزلة، ويحظى بذلك الإقبال، فتكلف الابتسام وقال: ما كنت أظنك شاعرا أبا الفضائل، يجب أن تحمد الرجل لا أن تذمه؛ لأنه أول من ألهمك الشعر. - أحمده؟! أنا لا أطيق يا أخي هؤلاء الأفاقين الذين يردون مصر من كل صوب لامتصاص دمائها، واشتفاف لبنها، كأنها بقرة حلوب خلفها لهم أبوهم آدم، هذا يأتي ببيت من الشعر فنسميه سيد الشعراء، وهذا يجيء بحفنة من علم، فنصيح: إنه أعلم العلماء، وهذا متبتل ناسك قطع الفيافي والقفار إلى مصر، ليزور مشهد الحسين رضي الله عنه فنصب عليه العطايا والنعم حتى ننسيه نسكه وتبتله ... ما هذا يا ابن نجا؟! أليس في مصر شاعر يفوق هذا اليمني المحتال؟ أليس بمصر عالم يفوق هؤلاء الذين يسقطون علينا كل يوم من كل نواحي الأرض؟!
وغدا يا سيدي غدا، يجيء هذا الصعلوك ليطالب براتبه الذي رتبه له الملك الصالح في كل شهر ... وما راتبه؟؟ مائة وخمسون دينارا، أنت تكدح وتنصب، وتعمل نهارا وليلا في خزائن الكتب، ولم يزد راتبك على ثلاثين دينارا، أنا لا أدري ماذا سيكون من شأن الخزانة إذا استمررنا في هذا الإسراف؟!
فابتلع الحراني ريقه من هول ما دهمه من قدوم عمارة والحفاوة به، وقال: هون عليك أبا الفضائل؛ إن مصر كثيرة الخيرات، واسعة الثروة، وإن من المحتوم عليها أن تكرم أبناء العربية، وأن تحسن لقاء الوافدين عليها، ثم إني لا أعرف سببا لبغضك هذا الرجل، وهو وسيم الطلعة، خفيف الروح، وإن كان وجهه يدل على الخبث والدهاء واللؤم؟! - لا أدري لم أبغضه يا ابن نجا؟! لقد سمج في عيني منذ رأيته، وأحسست ببغض له يملأ قلبي، وهذا وحي يا أخي، وإذا كان «لهوى النفوس سريرة لا تعلم» فإن لبغضها سريرة لا تعلم كذلك ... لا أدري والله! ولكنني أشعر أنه يجب أن يزول هذا الرجل من طريقي، حتى لكأن غرائز النمر تتحرك في نفسي للوثوب عليه والتهامه. - هذا ما أحس بقليل منه، ولكن ما لنا وللرجل! دعه إلى الأقدار ... دعه إلى الأقدار.
الفصل السابع
অজানা পৃষ্ঠা