وأخذت «فيدينا» الرداء من زوجها كأنما هو راية من رايات السلام، وبدأت تحكي بحماسة، وهي جالسة على الفراش، أنه هدية من ابنة الجنرال كاناليس، التي طلبت الأم منها أن تكون إشبينة طفلها الأول عند تعميده. وأخفى «خينارو» وجهه في الظلال المحيطة بمهد ابنه الوليد، وبدون أن يسمع ما كانت تقوله زوجته عن ترتيبات التعميد، رفع يده في ضيق ليبعد ضوء الشمعة عن عينيه، ثم جذبها بسرعة بعيدا، وهو يهزها لينظفها من آثار لون الدماء الذي علق بأصابعه. وارتفع شبح الموت من المهد الذي ينام فيه طفله كأنما هو نعش. إن الموتى أيضا في حاجة إلى الهدهدة كالأطفال. كان الشبح يحاكي بياض البيضة في لونه، ذو عينين ضبابيتين، أصلع الرأس، بلا حواجب ولا أسنان، يثني نفسه في دورات حلزونية كتقلصات البخور داخل المجامر التي تستخدم في المراسم الجنائزية: وكان خينارو يسمع صوت زوجته يسعى إلى أذنيه كأنما يأتي من مكان سحيق. كانت تتكلم عن ابنها، وعن التعميد، وعن ابنة الجنرال ، وعن دعوة جارتها الملاصقة لهم، والرجل السمين المواجه لهم وجارتها التي على بعد خطوتين، والجار الذي يقطن في ناصية الشارع، وصاحب الخان، والجزار، والخباز. - «ألا يكون ذلك رائعا؟» ثم أضافت بحدة: ماذا دهاك يا خينارو؟
وجفل من وقع صوتها الحاد، وقال: لا شيء.
لقد غمرت صيحة زوجته شبح الموت في بقع سوداء صغيرة، بقع سوداء أبرزت الشبح منتصبا أمام ركن الغرفة المظلم. وكان هيكلا عظميا لامرأة لم يبق فيه من الصفات الأنثوية سوى الثديين الغائرين، رخوين مشعرين كالفئران المتدلية فوق إطار الضلوع. - ماذا دهاك يا خينارو؟ - لا شيء. - هذه هي نتيجة سهرك في الخارج. إنك تعود إلى المنزل كالسائرين في نومهم، مطأطئ الرأس خذلان. لماذا لا تبقى في بيتك أيها الرجل البائس؟
وبدد صوت زوجته وجود الهيكل العظمي. - كلا. لا شيء هناك.
كانت ثمة عين تسبح فوق أصابع يده اليمنى كأنها دائرة ضوء منبعث من مصباح كهربائي؛ تنتقل من الإصبع الصغير إلى الأوسط، ومنه إلى إصبع خاتم العرس، ومن إصبع الخاتم إلى السبابة، ومن السبابة إلى الإبهام. عين ... عين واحدة. كان يشعر بها تنبض. وحاول أن يسحقها بأن قبض يده بشدة إلى أن انغرست أظافره في راحة يده. بيد أن ذلك كان مستحيلا، فحين فتح يده ثانية، كانت لا تزال هناك مرة أخرى على أصابعه، لا تزيد في حجمها عن قلب عصفور، ولكنها مخيفة كنار جهنم. وانبجست من جبهته حبات عرق ساخن، كمرق اللحم. من ذلك الذي يتطلع إليه خلال هذه العين التي استكانت على أصابعه ثم تقافزت كأنها كرة عجلة الروليت على وقع الأجراس الجنائزية؟
وانتزعته «فيدينا» من المهد الذي كان ينام فيه طفله. - ماذا دهاك يا خينارو؟ - لا شيء.
وبعد برهة، تنهد مرات عديدة ثم قال: «لا شيء. إن هناك عينا تطاردني! إن هناك عينا تتبعني، عينا ورائي أينما ذهبت! إني أرى يدي - كلا! هذا مستحيل! إنها عيناي، إنها عين ...»
وقالت له زوجته من بين أسنانها دون أن تفهم شيئا مما يقول: سلم أمرك إلى الله! - إنها عين ... أجل، عين مستديرة سوداء ذات أهداب، كأنها عين زجاجية! - إنك ثمل. هذا هو ما دهاك. - كيف أكون ثملا وأنا لا أجد ما أشرب؟ - كيف لا تجد؟ إن فمك يعبق برائحة الخمر.
ورغم أنه كان يقف في وسط الحجرة التي ينامون فيها، فقد كان الحانوت يشغل نصفها الآخر، شعر «خينارو» أنه قد تاه في غياهب قبو مليء بالوطاويط والعناكب والثعابين والسحالي، بعيدا عن متناول أي عون أو راحة.
ووصلت «فيدينا» كلامها قائلة وهي تتثاءب: «لا بد أنك مقدم على شيء. إنها عين الله تراقبك!»
অজানা পৃষ্ঠা