أخذ الأبله يجر جسده في الطريق، متأوها من جراحه؛ يسير أحيانا على أربع، ملتويا، دافعا جسده بأطراف قدميه، يحك بطنه في الصخور، وأحيانا يعتمد على ساقه السليمة وأحد مرفقيه، بينما الألم يعتصر جانبه. وأخيرا، لاح الميدان أمامه. وكانت الريح تعصف بأشجار الحديقة فتتردد كأنها صرخات النسور. واجتاح الأبله الرعب حتى أنه بقي برهة غائبا عن الوعي، وتبدى ألمه في لسانه الذي أصبح جافا منتفخا كالسمكة الملقاة في الرماد، والعرق الذي غطى فخذيه، وصعد إلى «رواق العرب» خطوة خطوة، ساحبا جسده كأنه قطة تموت، ثم أقعي في جانب ظليل، فاغر الفم، جاحظ العينين، وقد تجمدت على أسماله بقع الدماء والطين. واختلط الصمت بوقع أقدام العابرين في هذا الوقت المتأخر، وطقطقة بنادق الحراس، وصوت الكلاب الضالة تمشي بخطوات بطيئة، وأنفها تجاه الأرض، تبحث عن عظام وسط مزق الورق وأوراق الشجر التي أطارها الريح إلى «رواق الرب».
وأعاد «لوتشو» ملء كأسي النبيذ الكبيرين، من النوع الذي يعرف بالكأس ذي الدورين. وقال «فاسكيز» في نبرة أحد من المعتاد، في عبارات قطعها البصاق مرتين: «لماذا لا تصدقني بحق الجحيم؟ ألم أقل لك إنه في حوالي التاسعة من هذا المساء - أو ربما الساعة التاسعة والنصف - وقبل أن ألاقيك هنا، كنت أغازل «لامسكواتا»، صاحبة حانة «الخطوتان» حين دخل إلى حانتها شاب طلب كأسا من البيرة. وبعد أن أحضرت له الكأس، طلب آخر ودفع لها ورقة بمائة بيزو. ولم يكن معها فكة، وخرجت تبحث عن فكة. بيد أني تيقظت له تماما؛ لأنه حالما دخل، شممت فيه رائحة الخطرين. وكأنما كنت أعرف الأمر مسبقا! فقد خرجت فتاة من المنزل المقابل، وما كادت تخطو خارجة حتى ذهب ذلك الشاب ولحق بها. ولكني لم أر غير هذا؛ لأن «لامسكواتا» عادت من الخارج في تلك اللحظة، فكان علي - كما تعلم - أن أعاود مغازلتها ثانية.» - وماذا عن المائة بيزو؟ - انتظر وسأحكي لك كل شيء: كنا نتصارع، أنا وهي، حين عاد ذلك الشاب للحصول على باقي نقوده، ووجدني أحتضنها، وعندها أفضى بسره وأخبرنا أنه متيم بحب ابنة الجنرال «كاناليس» وأنه يفكر في الهرب معها في هذه الليلة ذاتها إذا أمكن ذلك. وكانت الفتاة التي خرجت من المنزل لمقابلته هي ابنة الجنرال «كاناليس» نفسها. ولا يمكن أن تتصور كم ألح علي من أجل أن أساعده في خطته، ولكني لم أكن أستطيع عمل شيء وأنا مكلف تلك المهمة في «رواق الرب». - يا لها من حكاية!
وألحق «روداس» ملاحظته تلك ببصقة من لعابه. - والشيء الغريب هو أنني شاهدت ذلك الشاب مرارا عند قصر رئيس الجمهورية. - إذن لا بد أن يكون أحد أفراد عائلته. - كلا، لا يمكن أن يكون من نفس الأرومة. إن ما أريد أن أعرفه هو، لماذا هذه اللهفة لخطف الفتاة هذه الليلة بالذات؟ لا بد أنه يعلم شيئا عن إلقاء القبض على الجنرال ويعمل على أن يهرب بها حين يكون الجنود مشغولين بالقبض على العجوز. - لقد أصبت كبد الحقيقة، لا شك في ذلك. - كأس صغير آخر، ثم تنهض إلى العمل.
وملأ «لوتشو» كأسي الصديقين، فأفرغاهما على الفور. وبصقا تجاه دوائر البصاق وأعقاب السجائر التي تغطي أرض المكان. - كم حسابك يا سيد «لوتشو»؟ - ستة عشر قرشا ونصف ...
فسأل «روداس»: الواحد ...؟
فرد النادل: «كلا، الاثنان!» بينما كان فاسكيز يحصي النقود. - سلاما يا سيد «لوتشو». - نراك على خير يا سيد «لوتشيتو».
وامتزج صوتاهما بصوت النادل الذي اصطحبهما إلى الباب مودعا.
وصاح «روداس» وهو يدس يديه في جيبي بنطاله حين خرجا إلى الطريق: «يا الله، إن البرد شديد!»
ومشيا في بطء حتى بلغا الحوانيت القريبة من السجن، من الناحية التي تطل على «رواق الرب» وتوقفا هناك بناء على اقتراح من فاسكيز. كان يشعر بالسعادة، ومد ذراعيه إلى الأمام كأنما ليخلص نفسه من حمل من الخمول. وقال وهو يتمطى: «هذه هي صحوة الأسد حقا، بشعره الأمامي المعقوص! لا بد أن الأسد يتحمل كثيرا من المشاق في سبيل أن يكون أسدا. ابتهج قليلا يا رجل، هه؟ لا لأن الليلة هي ليلتي. الليلة ليلتي، أقول لك، الليلة ليلتي!»
وبفضل ترديده لهذه الكلمات برنة ثاقبة تزداد حدة في كل مرة، بدا وكأنه يحيل الليل دفا أسود مزدانا بأجراس ذهبية، وكأنه يصافح أصدقاء خفيين في وسط الريح، وكأنه يدعو الأراجوز الذي يسكن بيتا في الرواق كي يمثل أمامه هو وعرائسه الخشبية ليدغدغوا حلقة حتى يكاد ينفجر من الضحك. وضحك ... وضحك ... وحاول القيام بعدة خطوات راقصة ويداه في جيب صداره، ثم ماتت ضحكته فجأة وتحولت إلى أنين، واستحالت سعادته ألما. وقوس جسده ليحمي فمه من غثيان أمعائه. وصمت فجأة، وتصلبت ضحكته في فمه كأنها الجص الذي يستخدمه أطباء الأسنان لقياس حجم الأسنان. لقد لمح الأبله ودوى وقع أقدامه خلال الرواق الساكن؛ وضاعف المبنى العتيق منها، مرتين، ثماني مرات، اثنتي عشرة مرة. كان الأبله يئن، مرة برفق، ومرة بصوت عال، كالكلب الجريح. ودوت صرخة في سواد الليل؛ فقد اقترب «فاسكيز» من الأبله ومسدسه في يده، ليجره من ساقه الجريحة إلى رأس السلم الذي يفضي إلى ناصية قصر كبير الأساقفة. وشهد «روداس» الموقف دون أن يتحرك، لاهث النفس غارقا في عرقه. وعند أول طلقة من المسدس، تدحرج الأبله على درجات السلم. وقضت الطلقة الثانية عليه. وانكمش الأتراك على أنفسهم فيما بين الطلقتين. ولم ير أحد أي شيء. بيد أن ثمة قديسا كان يطل من إحدى شرفات قصر كبير الأساقفة، يساعد الرجل سيئ الحظ ساعة احتضاره. وفي اللحظة التي تدحرج فيها جسده على درجات السلم، امتدت إليه يد ترتدي خاتما من الأحجار الكريمة ومنحته الغفران، وفتحت له باب مملكة السماء.
অজানা পৃষ্ঠা