ولكن لم يطلع القمر هذه المرة،
ولم يكن هناك من يكن أحد.» - أنشد يا رفيق، أنشد. «إن اليوم الذي ولدت فيه،
كان هو يوم مولدي،
وعم الفرح في السماء،
وابتهجت الملائكة وصدحت.»
أنشد يا رفيق أنشد. كان نور القمر القلوي ينتشر فوق الأشجار وكانت الأوراق ترتجف في أعاليها. كانوا ينتظرون عبثا الأمر بالهجوم. كانت الشمس تشرق. وشعرت القوات إذ هي تنتظر في استعداد ساكن للهجوم على أول حصن للحكومة، هذه الليلة نفسها، كأن ثمة قوة غريبة خفية تسرق منها قدرتها على الحركة وتحولها إلى حجارة. وأحالت الأمطار الصباح الذي لم تشرق شمسه بعد إلى حساء، وانسال فوق وجوه الجنود وظهورهم. وترددت أصداء الكلام بصوت أكثر ارتفاعا عن طريق دموع الإلهة المنهالة. وكانت الأنباء الأولى التي وصلتهم مقتضبة ومتضاربة، كأنما تنقلها أصوات صغيرة تخاف ان تصرح بكل ما تعرف. وبدأ الجنود يشعرون كأن ثمة قضيبا من حديد أو قطعة عظم تستقر في أعماق أفئدتهم. وكان المعسكر بكامله يدمى كأنما من جرح واحد. لقد مات الجنرال «كاناليس». وتجسدت الأنباء في مقاطع وعبارات. مقاطع من كتاب ألف باء، وعبارات من الخدمات الجنائزية. واصطبغ مذاق السجائر والبراندي بالغضب وصيحات الحزن. كان مستحيلا تصديق الكلمات التي تقال، بيد أنها لا بد أن تكون هي الحقيقة. وصمت المسنون فيهم، ينتظرون في نفاد صبر سماع الحقيقة العارية، بعضهم واقف، وآخرون ممددون أو مقعون على الأرض؛ ونزعوا قبعات القش من على رءوسهم وألقوا بها إلى جوارهم وهم يهرشون رأسهم في غضب. وهرع الشبان منهم إلى الوادي بحثا عن مزيد من الأنباء. وأعمتهم حرارة الشمس المتلألئة. وثمة سرب طيور يخفق في الهواء على مبعدة. ومن وقت لآخر دوي طلقة رصاص. وبدأ الليل يطبق عليهم. سماء من قروح تحت عباءة سحب ممزقة. وأطفئت نيران المعسكر ولم يعد هناك سوى ظلمة داكنة لا شكل لها، عزلة سوداء تتكون من سماء وأرض وحيوانات ورجال. ثم قطع الصمت خبب فرس بوقع حوافره: راتابلان، راتابلان، الذي ردده الصدى مستخدما جدول الضرب. واقترب الصوت شيئا فشيئا، من حارس إلى آخر، وسرعان ما أصبح وسطهم، وظنوا أنهم يحلمون حين سمعوا ما قاله الفارس القادم . لقد مات الجنرال كاناليس فجأة، بعد أن تناول وجبة طعام لتوه، وهو على وشك قيادة قواته إلى القتال. والأوامر الآن هي الانتظار. وقال أحدهم ملاحظا: «لا بد أنهم دسوا له شيئا في الطعام، ربما بعض نباتات «تشيلتب»، وهو سم زعاف لا يترك أثرا وراءه، حتى يموت على هذا النحو.» وتمتم آخر: «كان يجب عليه أن يكون أكثر حذرا! آآآآآ ... ه!» ... وصمتوا جميعا في تأثر بالغ طال أطرافهم العارية المدفونة في التراب ... وابنته؟
وأضاف صوت آخر بعد برهة طالت شأنها شأن كل المحن. «إن باستطاعتي أن أنزل عليها اللعنة إن شئتم. إني أعرف صلاة علمني إياها ساحر هناك عند الساحل؛ فقد حدث يوما ما نقص في الذرة في الجبال، وهبطت إلى الساحل لشراء شيء من هناك حين قابلته وتعلمتها منه. هل تحبون ذلك؟»
ورد عليه صوت آخر في الظلمة: حسنا، إني أوافق من جهتي، فهي قد قتلت أباها.
ومرة أخرى، سمع خبب فرس عبر الممر، راتابلان، راتابلان، راتابلان. ومرة أخرى سمع صياح الحراس، ومرة أخرى ساد الصمت. وارتفع عواء الذئاب كأنه سلم صاعد إلى القمر الذي بزغ في بطء تحوط به هالة كبيرة. وأعاد الصدى الصوت مرة أخرى.
وفي كل مرة يحكي فيها أحد ما حدث، كان الجنرال كاناليس يخرج من قبره ويموت مرة أخرى: لقد جلس يأكل على ضوء قنديل إلى مائدة لا مفرش عليها؛ وسمعوا صوت الملاعق والسكاكين والأطباق، ووقع أقدام مساعده، وكوب ماء يصب وصحيفة تفتح؛ ثم ... لا شيء بعد ذلك، ولا حتى الأنين. لقد وجدوه ملقى عبر المائدة ميتا، وخده مستقر على نسخة من صحيفة «الناسيونال»، وعيناه نصف مغلقتين، زجاجيتين، تحدقان في شيء غير موجود.
অজানা পৃষ্ঠা