وكان مساء العيد حزينا، وجوه مكفهرا، والدير صامتا، كتوما، مرمريا كالمقابر القديمة يضن بخفاياه. وكان لعائدة يومئذ أن تفعل ما شاءت دون قانون يقيدها فتقضي أكثر أوقاتها في غرفة الموسيقى المنفردة في أطراف الحديقة تخيم عليها الأشجار ذات الغصون العارية.
هناك جلست طويلا والسماء تمطر رذاذا، ثم نهضت إلى البيانو وما كادت تمس أصابع العاج حتى سحبت يدها قائلة: «ما أشد برد البيانو!» ثم أضافت: «بل البرد في يدي، البرد في روحي، البرد في وحدتي وغربتي! إني جليد ولكني جليد يتعذب، وأشعر بأن كل ما في هذا الدير جليد حي ينبض ويتعذب ويبكي!»
ألقت برأسها إلى خشب الآلة الموسيقية، على أن يدا لطيفة اجتذبتها مداعبة شعرها وخدها، فصرخت الفتاة قائلة: «اتركيني! لا أريد أن يشفق علي أحد؛ لأني لا أطلب الشفقة !»
فقالت الأخت أوجني: «وإذا طلبت أنا شفقتك أتضنين بها؟» وتابعت بصوت خافت مملوء بتعنيف عذب: «ألم تفكري في كل هذه المدة؟ ألا تحتاجين إلي في هذه الأيام مثلما أحتاج إليك؟»
وبدلا من أن تبكي عائدة على خشب البيانو البارد الصلب، أخذت تبكي على صدر لين دافئ علق عليه الصليب الفضي رمز التضحية والامتثال، واكتساب الحياة بالموت الاختياري. •••
رأيت عائدة اليوم في أحد المخازن أمام مذود نام فيه تمثال الطفل تحيط به رموز عيد الميلاد المختلفة، فقلت: «أتذكرين أيام المدرسة يا صديقتي؟» فأجابت «أذكرها على الدوام.» وأخذت تفكر في شيء بعيد، فحدقت في عينيها، وخيل إلي أني أرى هناك رسم ابنة اثنتي عشرة سنة اتكأت على صدر علق عليه الصليب، وقد انحنى على وجه الفتاة الباكية وجه الراهبة الحزين.
فقلت: «أتذكرين الأخت أوجني أحيانا؟» فأشارت بالإيجاب، قلت: «حتى بعد مرور أربع عشرة سنة تشجيك تلك الذكريات الصبيانية؟»
فلزمت عائدة الصمت وقد بدا وجهها مهيبا، ثم قالت: «ذكريات صبيانية؟ وهل نحن الآن غير أطفال؟ وهل الشباب والكهولة والشيخوخة سوى مظاهر أخرى من الحياة الدائمة الطفولة؟ ما مر بي يوم إلا زدت اعتقادا أن ما نراه، ونشعر به، ونختبره في الحداثة إنما هو، هو ما نشهده متتابعا من عام إلى عام، ولكن بصورة أكبر، في ميدان العالم الوسيع.»
حكاية السيدة التي لها حكاية
لكل من الناس حكاية أولية يتناقلها الأقارب والأباعد بلهجاتهم المتعددة ويفهمونها بعقلياتهم المختلفة، وينسجون حولها حكايات كثيرات. يسرد الواحد «الحكاية» الأولية عن ذبيحته في تلك الساعة ثم يزيد قائلا، وله معي أنا أيضا «فصل»، وله مع زميلي «عبارة»، وله مع الآخر «طابق» ... إلخ. ويجود بهذا الطابق والفصل والعبارة شارحا متبسطا منمنما مزخرفا. ويصغي الآخرون متعجبين متأففين، ويتعوذون بالله العلي العظيم، وينكتون ويتهكمون كأنهم لم يأتوا هم ولم يأت بشر قبلهم شيئا شبيها لما يسمعون. وبدهي أنهم في تطبيق الأحكام على سواهم لا يراعون قانونا مرنا يستعملونه في الحكم على نفوسهم، والقاعدة الذهبية القائلة بحب القريب ومعاملة الآخرين بمثل ما يود المرء أن يعامل، لا تزال قاعدة ذهبية ... فحسب.
অজানা পৃষ্ঠা