أنا الآن في غرفة صغيرة تابعة لمكتبة الجامعة، وليس في هذه الغرفة من الكتب إلا ثلاثة أجهل اسمها ولغتها؛ لأنها خفيت تحت كتاب رابع من تأليف مارمونتل، وهذا أديب فرنسوي لم يتفوق في موضوع من الموضوعات الكثيرة التي عالجها، بل اكتفى بالإجادة فيها جميعا إجادة معتدلة، تاركا البراعة والتفوق لأستاذيهما الكبيرين: فولتير وروسو. روسو الذي حاول تكوين مجتمع جديد بقلمه القادر البليغ وملأ العالم ندبا ورثاء. وفولتير الذي كافح القيود الدهرية برأس قلمه الرشيق النافذ كالسهم إلى أعماق الأفكار، وبابتسامته الخالدة التي يرى فيها أتباعه فجر الحرية المنبثق من ليل العبودية الأليل.
إن للأمكنة أرواحا، وفي هذه الغرفة الصغيرة روح تناجيني وسر أطمع في اجتلاء غوامضه. كل ما يحيط بنا في الحياة سر ولغز، لكن حواسنا المثقلة بأحمال المادة تحجب عنا الأنوار، فلا نرى للأشياء وجودا ولا ندرك لها حقيقة إلا بقدر ما تتفق معانيها مع أطماعنا وشواغلنا.
كلما رأيتني وحدي في هذه الغرفة شعرت بأن في جوها روحا. أهي مجموع أرواح النوابغ الحاضرين هنا برسومهم وبخيالات الأفكار المطلة من أحداقهم؟
نهضت أمشي في الغرفة، أمشي وأفكر. وراء الطاولة التي أكتب عليها صورة سفينة ركبت من البحر جوادا حرونا وسارت تقطع الأمواج الكبار بقوة وثبات. وتحت السفينة إطار حوى ورقة ممزقة وفيها بعض السطور الهيروغليفية.
الكتابة الهيروغليفية قرب الباخرة! إن جوار هذين الرسمين لرمزي: السفينة فينيقيا، والخط الهيروغليفي مصر.
فينيقيا ومصر
المدنيتان القديمتان اللتان بزغت منهما مدنياتنا الحديثة وانحدرت من ذراريهما تواريخ ذرارينا، ترى هل وقفنا على جميع ما فيها من الأسرار، وعرفنا كل ما كان عندهما من علم وفن ومقدرة وسلطان؟ أم نحن في ذلك مدعون دعوانا في سائر أقسام المعرفة؟
قبل أن يكتشف كولومبس القارة الأمريكية بقرون طويلات كانت سفن الفينيقيين تضرب في البحر طولا وعرضا وقد عين التاريخ خطوط رحلاتها، ولكن أي شيء أجهل من العلم إن لم يكن التاريخ؟ ومن يدرينا ما إذا كانت اليد التي شادت الأهرام وأقامت الهياكل المتراكمة اليوم بقاياها على رمال النيل، هي غير اليد التي أوجدت هياكل، ترى الآن أنقاضها في أواسط أمريكا، ونحتت ما عثر عليه لورد دوفرن من مسلات مصرية ونقوش شرقية في كولومبيا البريطانية؟
والتليفون الذي أراه في زاوية الغرفة على مقربة من الكرة الأرضية أهو اختراع هذا العصر فحسب؟ ألم تكن من نوعه الآلة التي يقال إنها كانت مستعملة عند كهنة إيزيس وأوزوريس لمخاطبة كهنة الهياكل الأخرى من أقصى البلاد إلى أقصاها خلال الاحتفالات السنوية الكبرى والاجتماعات الدينية؟ ولماذا لا يقوى العلم الحديث على استخراج الأرجوان من الأصداف كما كان يفعل الفينيقيون؟ لماذا لا يخرج لنا ألوانا ثابتة لا تنفض نضارتها كألوان هياكل الأقصر؟
أكان أجدادنا جاهلين أم نحن لهم ظالمون؟ أم كل الفرق في أن العلم كان عندهم محصورا ضمن الأقلية المنتخبة وقد أصبح في زماننا «حصة من جد اعتزاما»؟ •••
অজানা পৃষ্ঠা