تركتني هذه الأنات والآهات في حيرة شديدة وجعلتني أشعر بأنني أمام لغز غريب تعجز العقول عن إدراك كنهه، وقد هالني الأمر حتى وقفت متعجبة أنتظر نهاية هذه الشكاوى المتجسدة والآلام المفزعة.
اشتد إذ ذاك احمرار الغروب فازداد توهج الكتابات المسطورة على المسلة والحيوانات المرسومة عليها حتى ظهرت للأعيان أجلى وأوضح كأنما قد لبست ثوب الحس والحياة، ثم سمعت بعد ذلك شبه غمغمة آتية من بعيد فأنصت فإذا هي تقول: «بلى، ما أنا في هذا الوسط سوى موضع الاستغراب والدهشة، وقليل أولئك الذين يعلمون أمري تماما ويعرفون أصلي ومنشئي وشأني حق العرفان. ولذا فأنا أعد نفسي في هذه العاصمة الكبرى وحيدة لا حول لي ولا قوة. تحتاط بي أنواع شتى من البهارج والزخارف إلا أنني لا أحفل بها ولا أجد لها طعما. فكل أنواع الحركة وضروب السرعة والدبدبة تهز أساسي وتضعف متانتي وتوقعني في دهشة وارتباك؛ لأنني لم أعتد على هذا النوع من العيش المضطرب، وإنما كانت نشأتي في وسط هادئ تحف به آيات الجلال والسكون. فأنا اليوم أقطع مراحل حياتي بلا أمل، فأحس وأتألم ولكن بدون لذة أو هناءة، فلا شاغل لي سوى عد سلسلة الأيام التي تمر بي، ولا يغرنك ارتفاعي فأنا متواضعة مع ما ترينه من طول قامتي.»
كانت تصل هذه التألمات إلى سمعي فيزداد بي الحزن والأسف إذ كانت تعوزني شجاعة كبيرة لسماع هذه الشكاوى والآلام.
واستمرت في حديثها تقول: «وقعت فريسة المرض منذ سنين عديدة وأصبحت أقاسي من جرائه آلاما نفسية شديدة، فأنا اليوم أقاسي كل أحوال الموت ولا يلحقني الفناء. أنا أعلم الدواء الناجع لدائي ولكن هيهات، فأين أنا منه الآن؟ سوف أظل أتجرع كئوس المتاعب والأشجان إلى أن يلحقني البلى والدمار؛ لأن داء الشوق لرؤية الأهل دواؤه الناجع ملاقاة الوطن ولكن آه.»
وما كادت تتم كلماتها هذه حتى ارتجت بنا الأرض على إثر مرور إحدى وسائل النقل السريعة من جانبنا، أعني سيارة ضخمة أحدث مرورها تزلزلا في الأرض حال دون سماع بقية كلماتها.
ثم نظرت حولي فرأيت كل شيء يؤذن بدخول ليل فاتر، يحف به موكب من النسيم العليل، تهتز لرقته دقائق الأثير، ثم رميت بطرفي إلى القبة الزرقاء فإذا «الزهرة»، تلك النجمة الساطعة، زينة السماء وأبهى عرائسها، قد ظهرت وابتدأت ترسل ابتساماتها الجذابة لبقية الكواكب التي أخذت تستعد لرد تحيتها.
كنت أرى العربات والسيارات وجماعات المشاة يهرولون جميعا بسرعة زائدة نحو غابة باريس، ليلتجئوا في حمى خضرتها المملوءة بالأسرار والأعاجيب، مؤملين وجود السعادة بين أحضان تلك البقعة الزمردية.
نظرت ثانية إلى المسلة فإذا هي غارقة في لجة عميقة من التأمل والتفكير، بعيدة كل البعد عن الضجيج المحيط بها فأخذت أهبتي للمسير فما كدت أتحرك حتى سمعتها تقول: «بربك قفي وأنصتي قليلا لحديثي.»
فعجبت من ذلك أشد العجب ووقفت مبهوتة أقول في نفسي: ما أعجب ذلك! إنها كانت شاعرة بأنني كنت صاغية لشكاتها، فلم يكن شكواها إلي مجرد هذيان. فأعرتها سمعي وانتباهي لأعي ما تقول تماما فإذا بها تقول: «أناشدك المروءة ألا تذهبي لأنه عندي ما أقوله لك فها أنا ذا أرى في عينيك الرغبة في سماع شكاتي وأشجاني، وأشعر بأنك تشاركينني فيها بقلبك وسمعك. فاصبري لم يبق إلا القليل ولا تمضي برهة صغيرة حتى أفيض بمكنونات صدري في قلبك الرقيق كما يفيض النيل على شاطئيه. فكوني أنيسة روحي ولو لمدة وجيزة وأشفقي علي لأجل الذكريات القديمة. ثم ارحميني لآلام الغربة التي أنوء بحملها الآن.
مضت علي مدة مديدة لم أشك بآلامي لإنسان ما، وما كدت أراك حتى انتهزت هذه الفرصة لإفراغ ما في النفس من الآلام والآمال. وها أنت الآن مصغية فشكرا لك، آه! ما ألذ أن تدار كئوس الحديث والمسامرة بين قلبين متآلفين! حدثيني بربك عن الأوطان وخبريني عن أخواتي المسلات الأخرى الباقيات هناك ، تلك البقية الباقية من آثار السلف الدالة على التفنن والإبداع، هل بقين مثلي في متانتهن وروائهن حتى اليوم؟ إنني ما زلت أحفظ لهن حبا كامنا في صدري، وأتذكر حسن جيرتهن وجميل عشرتهن. إن قلبي صخري متين، وكذلك حافظتي قوية لا تنسى شيئا يمر بها. فإن أنا نسيت فلا أنسى تلك الصحاري الذهبية والليالي المقمرة الفضية. آه! أين أنت الآن أيها النيل العذب؟ كم أنا مشتاقة لمنظر جريانك الجميل، ورؤيا القلوع البيضاء التي تحرك المراكب السائرة بين شاطئيك! إن مناظر الغروب الجميلة لا تزال مرسومة على لوح الخاطر، وسحر تلك الليالي الحارة الجذابة لا يمكن نسيانها أبد الدهر.»
অজানা পৃষ্ঠা