ألقيت نظرة أخيرة على هذه الموميات الذهبية، فخيل لي أنها تستعد لمسامرة ليلية، وأن كلا منها تنتظر انقطاع صوت الأقدام على إثر غروب الشمس لتقفز من زاويتها الساكنة إلى بساط المنادمة والمصاحبة.
في وسط هؤلاء الحكام المغرورين الذين ظلوا تحت أطباق النسيان مدة مديدة في وادي الملوك والمعروضين الآن لحرارة الشمس في هذا القصر المحتشم، كان «رمسيس» الأكبر راقدا في مقره الأبدي، ملتفا بأكفانه المنسوجة من ألياف نبات الصبر الناعمة، داخل دولاب من الزجاج. الهيكل العظمي لهذا الملك العظيم كان يشف عن مهابة وجلال، فجبهته الواسعة تستر تحتها أمارات القوة والاستبداد، وأنفه الأقنى يدل على الغطرسة والكبر، وعيناه المجوفتان يشفان عن السطوة، بينما شفتاه الرقيقتان تنمان عما كان له من قوة وإرادة.
ها هو «رمسيس الأكبر» الذي تحكم في حياته على العالم بجيوشه، يرفع الآن قبضته اليابسة بالتهديد كأنما يريد أن يتحكم على العالم الروحاني أيضا ويملي أوامره الملوكية على المشاهير الملتفين حوله في هذا القصر.
هذه اليد المرفوعة لغرض خاص، هل كان رفعها إطاعة لأوامر ملك الموت؟ أم أنها رفعت لغضبه من مفارقته مقره الهادئ في «وادي الملوك»؟ أم لأنه اضطرب من حرارة الشمس بعد رقاده الطويل في أعماق الأرض فرفع يده ليتقيها؟ وبالإجمال فالمرء يحار في تعليل ذلك.
قبل هذا التاريخ باثنين وعشرين عاما أمر الخديو السابق المرحوم «توفيق باشا» بإخراج جثته من تابوته المذهب وأن يجرد من أكفانه التي يبلغ طولها أربعة آلاف متر أمام جمع من العلماء والأعيان، فظهرت علامات الغضب والاغبرار على محياه حتى ذعر الخفراء والمتفرجون وارتدوا إلى الوراء، ويظهر أنه احتدم غيظا لإخراجه فجأة من الأعماق المظلمة التي ظل فيها ستة آلاف عام إلى وجه الأرض، فرفع إحدى يديه اللتين كانتا مطبقتين على صدره ليهدد العالم. ومنذ ذلك الحين أخذ وجهه يزداد عبوسة.
إن هذا الملك الذي أضاف صحائف خالدة على تاريخ مصر بفتوحاته الشهيرة، والذي كان يلقبه اليونانيون بالمعبود القادر، أوصى وهو مدفوع بتربيته الفكرية وإحساساته الموروثة بأن تدفن جثته في أقصى وأعمق نقطة من وادي الملوك، ليظل جسده بعيدا عن الأنظار في أمان من السرقة حتى أبد الآبدين. ولكن وا أسفاه لم تمكنه الأيام من إتمام رغبته كما أراد، فإن المقابر التي بذل الفراعنة في تشييدها وبنائها النفس والنفيس، غير مبالين بما ضاع في ذلك السبيل من مال الأمة وأرواحها، قد ناوأها الزمان ولعبت فيها الأيدي وكشف ما كان تحتها من الأسرار فظلت دروس عبرة لأنظار الناس. هؤلاء الفراعنة الذين عملوا لكل أمر حسابا، هؤلاء الحكام الذين ابتلاهم الدهر بفكرة الخلود، لم يعملوا لهذا الدور الغادر، دور المدنية الحديثة حسابا ولم يدر بخلدهم إمكان ما وقع لهم اليوم.
لو أنهم ظلوا في أمكنتهم، في تلك الطرق الخفية من وادي الملوك لكان لأجسادهم المحنطة نصيب أوفر من الخلود، غير أنه الآن قد حكم عليهم بالفناء منذ الساعة التي أخرجوا فيها من محيطهم السابق إلى وجه الأرض. إن عظامهم اليابسة المحنطة بالأدوية والعقاقير قد قاومت مرور الأيام والأعوام، ولكنها لا تستطيع اليوم مقاومة نور الشمس.
إن «رمسيس الأكبر» الذي دوخ أمما عديدة ومدها بالنور والضياء، والذي كان سببا في شهرة عائلته ورفع ذكرها، تملكت حب الشهرة في نفسه لدرجة عظيمة حتى أصبح أسيرا لها طول حياته. رغم فتوحاته العديدة وانتصاراته الباهرة، كان في ريب من خلود اسمه ودوام ذكره، فأمر ببناء المعبد المعروف باسم «رمسسيوم» بالأقصر، ذلك المعبد الذي ظل مكانا مقدسا حتى أيام إسكندر المقدوني، وحافظ على مكانته حتى في أيام المسيحيين.
وقد ظلت أعمدته الملونة العديدة محافظة على نفاستها وقيمتها، وبقيت مظهرا لتقدير الناس وإعجابهم ومدارا لذكر اسم «رمسيس» إلى الأبد.
كل هاتيك الآثار والمباني لم تطفئ تعطشه الشديد إلى حب الشهرة والخلود، إذ كان على الدوام في ريب من الأيام على اسمه المحفوظ بالسطوة والبأس، فعمد إلى تشييد هياكل عظيمة مشابهة له في وسط الصحراء أملا في تخليد محياه المهيب. ففي كل عمل من أعماله أثر من آثار الأنانية، وفي كل حركاته مظهر من مظاهر الغرور، وبالإجمال فقد كان عنوان المهابة والعظمة وتمثالا مجسما للغرور.
অজানা পৃষ্ঠা