كانت أنوار المغرب تنعكس على تلك الأعمدة الرخامية الناصعة في تلك الخرائب المنسية مما يجعل لها شكلا خياليا بديعا.
الأسرار الكامنة في الحجرات الدارسة والرفوف والحوائط المتداعية والأعمدة الواقعة وفتات الأحجار المبعثرة هنا وهناك، كل هذه ألسنة تنطق بحوادث عالم زائل وسطور صدق تعرض للأنظار دروس الاعتبار.
إن هذا المعبد الشهير بقية أطلال مدينة «قانوب» الزاهرة، تلك المدينة التي هي تذكار السلف للخلف، كان يتوهج بالنور من تأثير شمس الصيف الساحرة، وكان يخيل لي أن الخواطر المعطرة ما زالت تتماوج في أرجاء هذه الخرائب، وأن الآمال الذهبية تهتز حتى الآن في دقائق الأثير المحيطة بهذا العرش، عرش المسرات والأفراح المدرج إلى الأبد في أكفان العدم والنسيان.
من يدري كم من الرءوس انحنت بخشوع أمام تلك الأعمدة الملقاة على الأرض الآن بحالة ذل وانكسار؟ إنني لا أكاد أذكر أبهة الماضي وسلطانه حتى تتجسم أمام أنظاري الصفحات الخالدة من عظمة هذه المدينة القديمة. وبتأثير الانعكاس الأزلي كنت أشتم في الهواء روائح الزمن القديم ويخيل لي أن في كل زاوية أثرا للحس والحياة.
بعد أن حييت بإجلال وإعظام المعابد الخربة والأعمدة المتداعية والحجرات المهشمة من خرائب قانوب الحاوية في عرصاتها آثار مدينة زاهية زاهرة، أخذت في إتمام نزهتي ووجهتي خليج أبي قير، وكان البحر إذ ذاك يداعب الرمال الذهبية عند الساحل وشمس الغروب تفيض على كل الجهات بأنوارها الباهرة.
تتبعت طول الساحل ولما يبق على غروب الشمس إلا مقدار طول الحربة، إلى أن وصلت إلى القلعة المسماة بطابية الترك؛ وهي أعلى الطوابي المحيطة بأبي قير.
هنالك رأيت منظرا بديعا ترقص له حبات القلوب. رأيت المدينة تحتي ملتفة بثياب بيضاء تسترها غلالة رقيقة من ذرات الرمال. وأشجار النخيل الشامخة بأنفها نحو العلاء، مصطفة بترتيب واحد تزين الطريق بعناقيدها الصفراء والحمراء، والخليج متمخضا أمامي بأهميته التاريخية، وقد بدا في حلة من الأنوار الذهبية، بينما الشمس تطبع عليه قبلتها الأخيرة، وفي ناحية أخرى كنت ألمح مقبرتين ينشران على العالم آثار الهيبة والخشوع وعلى اليسار من هذا الموقع كان بضعة أفراد من الإنجليز تتلهى بلعبة «التنيس».
وهناك على الساحل كانت جماعات من السماكين مشغولين بسحب شباكهم ينظرون إلى ما قسم الله به عليهم بلهفة واشتياق، وكنت أسمع فوق رأسي طنين تلك الآلة، آلة الطيران التي هي معجزة عصرنا تحلق في الجو طائرة كالنسور، وكلما ارتفعت ظهرت للأعيان كأنها واقفة لا تتحرك، وبالإجمال لم يكن هناك سوى الصمت والدهشة والبهاء!
على بعد شاسع بالقرب من جزيرة نلسون الواقعة في عرض البحر كنقطة استناد كنت أرى جملة نقط بيضاء تقترب نحو الساحل، وبعد قليل تبينت تلك النقط البيضاء التي كنت إخالها أشرعة تتحرك، فإذا هي قوارب صيد من النوع المسمى «نابوليتان» يقتربن إلى الشاطئ كسرب من طيور البحر.
كنت أراقب هذا المنظر البديع، منظر قدوم هؤلاء السماكين من مسافات شاسعة تبعد عن المدينة أربعة أو خمسة أيام، ثم اقترابهم بهيئة منتظمة إلى شاطئ البحر، فيأخذني الإعجاب بسعيهم وإقدامهم فأقول في نفسي أجدر بهذا النشاط أن يكون درس اعتبار لسماكينا الكسولين. ثم انتقل الخاطر فجأة إلى تفاصيل وقعة حدثت في نفس المكان وبنفس هذه الصورة منذ مائة وأربع عشرة سنة.
অজানা পৃষ্ঠা