فماذا فعل ربه بعد أن عصى وغوى؟
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
إذن فالجزاء من جنس العمل. وحين عفا الله عن آدم رحمه فأنزله إلى الأرض، ثم وفي جملة واحدة بشره بأنبيائه جميعا، فإما يأتينكم مني هدى، فمن اتبع هداي فلا يضل فيها ولا يشقى. هذا الهدى هو الأنبياء يشيد الله بذكرهم دون أن يذكرهم، وإنما ينبئ آدم بعد أن عفا عنه أن السماء لم تقطع صلتها به، وإنما سيأتيه من ربه هدى. وسيمتحن الأبناء بما امتحن به أباهم الذي عهد الله إليه فنسي ولم يجد له عزما. كذلك الأبناء سيهب لهم الهدى كما وهبه لأبيهم من قبل، فمن نسي منهم فسوف يحشره أعمى؛ لأنه في هذه المرة مجرم عائد لا يستحق العفو، وهو عائد لأنه عرف ما حاق بأبيه حين نسي، ومع ذلك لم ينتفع بالمثل أمامه. أما أبوه فكان أول نساء للعهد، ولذلك أدركته رحمة ربه. وهكذا ترجع القصة خاتمتها إلى بدايتها؛ فكما ابتدأت الآيات ذاكرة كيف نسي آدم، كذلك تنتهي القصة بتحذير الأبناء ألا ينسوا مثل أبيهم.
أنا لست بشارح للقرآن؛ فما أستطيع أن أرقى هذا الرقي. ولكن هذه المعاني جميعا كانت تنثال على خاطري وأنا أقرأ الآيات. وأروع أنواع السرد القصصي هو ذلك الذي يوحي إليك بما وراء الألفاظ دون تصريح، فالقصة إنما التمست كنوع السرد الفني لتقر في النفس أرسالا من المعاني في لغة غير مباشرة؛ لأن اللغة المباشرة لا تفعل بالنفس ما تصنعه اللغة القصصية؛ فالحدث في ذاته حجة أقوى من كل حجة كلامية. والقارئ الذي يستطيع أن يستشف ما وراء الحدث هو الذي يستطيع أن يستمتع بالقصة ويبلغ منها غاياتها.
الإعجاز الفني في قصة يونس
تلك القصة أوردها القرآن الكريم في آيات قليلة، ولكنها تمثل نوعا من القصص لا يخطئ التشويق والاهتمام عند القارئ أبدا؛ فهي نوع من القصص المبهر، فيه إعجاز لا يكاد العقل يتصوره. والعقل بطبيعته لا يستطيع أن يقبل ما لا يدخل في دائرة منطقه، ولكنه عندما يأتي الإعجاز من السماء يقبله كقضية مسلم بها، ولا بأس علينا أن نضرب لذلك مثلا متمثلين ببيت أبي تمام:
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والمصباح
لو أن شخصا ما قال لك إنه يستطيع أن يختفي من أمام عينيك، ثم يظهر غير خارج أو داخل من منفذ ما مما ألف الناس أن يخرجوا أو يدخلوا منه، فإنك بطبيعة الحال لن تصدقه، ولكنه إذا فعل هذا فأنت مرغم على أن تصدقه بعد ذلك. من أجل هذا كان الله سبحانه وتعالى يقدم للبشرية أنبياءه السابقين على سيد المرسلين بمعجزات حسية ترى بالعين وتمسك باليد. كان ذلك حين كانت البشرية طفلة ساذجة، الجانب الروحي فيها ضامر لا يستطيع أن يرقى إلى مراقي القرآن وعظمته. وكانت هذه المعجزات التي قدمها الأنبياء الأولون معجزات تزول بزوال العصر، ولا يبقى منها إلا ذكر يصدقه البعض ويكذبه البعض، حتى جاء القرآن معجزة خالدة كلما مر عليه الزمان ازداد إعجازا وروعة.
فقد نزل القرآن إلى الناس منذ ما يقرب من ألف وأربعمائة سنة، وجاء من جاء من الكتاب والشعراء، ولكن أحدا لم يستطع أن يصل إلى آية من آيات القرآن في إعجازها اللفظي والأسلوبي. هذه المعجزة وحدها تتيح للقرآن أن يقول ما شاء عن معجزات الأولين، ولا نملك إلا أن نصدق ما جاء فيه، فمن شاء أن ينكر فليأت بآية من آياته. وهناك طبعا معجزة الحياة وهذه الروح التي لا يعرف البشر سرها، ولا من أين أتت ولا أين تنسرب من الجسم. وقد بلغ العلم هذا المدى الذي وصل إليه اليوم، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يصل إلى سر الروح أو يقترب منها.
অজানা পৃষ্ঠা