تنزه القرآن الكريم أن يكون قصصا، مجرد قصص، وإنما هي أمثال تضرب للناس ليتخذوا مما يروى لهم عبرة وليهتدوا إلى صراط مستقيم؛ ولذلك فقد يرى الناقد المحترف أن القصة القرآنية بعيدة عن قواعد القصة العادية؛ لأن الموعظة فيها تقترن بالعرض. وهذا الناقد إن فعل يكون مجانبا للصواب، مجافيا للنظرة المتعمقة؛ فالقصة التعليمية مذهب فني معترف به لا يحتاج إلى تأكيد وجوده. والقصص القرآني قصص من نوع خاص؛ فهو ليس فنا خالصا يقدمه صاحبه لا يعنيه فيه الجانب الخلقي. إنما قصص القرآن قصص صاغها الله سبحانه وتعالى لتكون مثالا للناس. والقصصي الملتزم، وأغلب القصاصين الآن ملتزمون لا يلقون بقصتهم لمجرد التسلية وإزجاء الوقت؛ فهم إن فعلوا أصبحوا أشبه ما يكونون بجدات الأطفال يهدهدن فراشهم بالحدوتة ليسلوا الأطفال إلى نوم هنيء.
القصاص الجاد لا بد أن يقول قصته ليقول بها شيئا، مهما يكن هذا الشيء قد يدعو إلى تحطيم الأخلاق، أو قد يدعو إلى إكبار الأخلاق. وبعض القصاصين يحبون أن يظهروا بمظهر المتحررين من كل قيد، فيدعون بقصصهم إلى التمرد، ظانين أن الحرية تمثل في التمرد. إنهم صغار، ولكنهم مع ذلك ملتزمون. وهنا يختلف القصاص البشر عما هو تنزيل من عزيز حكيم؛ فقصص القرآن بطبيعة الحال لا بد أن تكون المثل الأرفع في الخلق والإيمان.
فإذا نحينا إذن جانب الموعظة التي يجملها القرآن في أغلب الأمر حين يختم قصته. وإذا اعتبرنا أن هذا الحديث يساق إلى قوم القصة بالنسبة إليهم لم تكن تخرج عما يتناقله الرواة من أخبار العرب. بل إن القصة حتى يومنا هذا ما زالت غريبة في بلاد عربية كثيرة لا يعرفون مذاقها. إلا إذا تمثلت في إذاعية أو تليفزيونية أو فيلم سينمائي. إذا تذكرنا هذا جميعه، ونظرنا إلى العرض الفني في القصص القرآني لوجدنا عجبا. ولا عجب؛ فإنه تنزيل من السماء. إنما العجب هنا من الإعجاب. إن الغرض القصصي في القرآن الكريم يتمشى مع أحدث ما وصل إليه الفن القصصي. وحتى نستطيع أن نتصور هذا دعونا نلق نظرة إلى الكتاب الخالد.
هذه قصص قصيرة، منها قصة تطالعنا في سورة الأعراف:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون * فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (من سورة الأعراف: من آية 59-64).
أرأيت كيف قدم القرآن قصة نوح جميعا في هذه الأسطر القلائل؟ ثم أرأيت كيف روى قصة الطوفان في كلمات لا تكاد تزيد على العشر؟ فهو لم ير داعيا أن يروي القصة جميعا وهي واردة في سورة أخرى. وهكذا ألمح إليها فأجملها إجمالا يوشك ألا يحتاج إلى تفصيل. إن الروعة هنا في اختيار الكلمة المؤدية. لا تستطيع كلمة غيرها أن تحل محلها، وكأن الكلمة قد خلقت لتكون هنا أولا، ثم لتؤدي بعد ذلك ما تشاء من وظائف. ثم انظر كيف انتقل بعد ذلك مباشرة إلى قصة أخرى في روعة آخذة عجيبة.
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين * قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين * أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء
1
الله لعلكم تفلحون * قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين * فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين
অজানা পৃষ্ঠা